القداسة في المسيحية

الأب سميح رعد

بروكسل، عيد الصليب 2009

 

          ترى المسيحيَّة في الإنسان أبعدًا كثيرة كالجسم والنفس والروح والقلب. ويعبِّر الإنسان عن ذاتـه كلَّها بمختلف وجوهها: فهو نفس من حيث أنَّه نفحة تبث فيه الحياة؛ وهو جسد (لـحم ودم وعظام…) من حيث إنَّه خليقة قابلة للفناء؛ وهو روح من حيث إنَّه منفتح علـى الله[1]، وهو قلب من حيث إنَّه يشعر ويعبِّر. وإن كانت المسيحية تقبل بنظـــرة الفلسفات، سيما اليونانية منها، من حيث إنَّه عـالــم صغير ((Micro cosmos، يضمّ عالميّ: "النفس والجسد"، إلا أنَّ الكتاب المقـدّس ينظر إليه أبعد من ذلك، فيراه كائنًا يقف "إزاء الله"، فهو كائن مخلوق على صورة الله، بالرغم من أنه مصنوع من تراب… جبله الله ونفخ فيه من روحه، يقول الكتاب المقدّس: "وجبل الرب الإله الإنسان ترابًـا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة وصار نفسًا حيَّة." (تك 2: 7). ولكـن بدلاً من أن يكون الإنسان محصورًا داخل عالم طبيعي مغلق، يفتح الكتاب المقدّس نوافذ التاريخ للإنسان، ويكون الدور الأوَّل فيه لله، ومن ثمّ الدور الثاني للإنسان. وبعد الخطيئة الإنسانية سيتمحور التاريخ كله حول فداء الإنسان. فالله صار هو نفسه إنسانًا، وفي هذا التأنسن يعيد يسوع المسيح صورة الكمال والتمام الإنسانيَّين.

          هكذا نجد أنَّ مختلف أشكال السلوك البشري طوال مجرى التاريخ تُجْمَل في فئتين: فئة الإنسان الخاطئ، وفئة الإنسان الجديد.

          وإنْ كان آدم هو أوَّل مخلوق في تاريخ الإنسانيَّة (تك 1-3)، إلاَّ أنَّ النموذج الأصيل للإنسان الحيّ، في المسيحيَّة، هو يسوع المسيح وليس آدم.

          إنَّ المسيحيَّة ترى في المسيح يسوع "آدم الآخر" (1كور 15 : 45.)، آدم السماوي، الذي ينبغي أن يلبس الإنسان صورته (1 كور 15 : 49). والأهم من هذا كلِّه هو أنَّ المسيحيَّة ترى في يسوع المسيح الوسيط لعهد جديد، ولوصيَّة جديدة (عب 9: 15. راجع أيضًا عب 3: 6 و 12: 24. وغلا 3: 19)، وهـو مبدأ توحيد المجتمع الذي يؤلفه بنو البشر (1كور 8: 6). من هنا فالإنسان الكامل في المسيحيَّة أوَّلاً المسيح شخصيًّا (أف 4: 13)، ولكن أيضًا كلّ مؤمن بالمسيح. فالذي يشترك بالعماد يصبح شخصًا قابـلاً لبلوغ الكمال. وعندما يتقدَّم إيمانًا وعملاً، بما يتطلَّب العماد منه، ويتجدّد ويتحوَّل لكي يصبح كاملاً على مثال يسوع المسيح الإنسان الكامل، يصبح إنسانًا جديدًا.

          إنَّ الإنسان الجديد ينبغي أن ينمو باستمرار، يترك صورة المسيح الوحيدة تبدِّله: فمن خلال صورة الإنسان العتيق "المشوَّهة" تظهر ظهورًا أفضل الصورة المجيدة للإنسان الجديد. يقول الرسول بولس: "يتجدَّد الإنسان على صورة خالقه." (كول 3 :9 – 10)، ويقول الإنجيلي الرسول يوحنا : كلّ شيء خلق بالمسيح (يو 1 : 2-3).

          إنَّ بلوغ الكمال في المسيحيَّة، ليس من عمل الإنسان في الأصل، بل هو عمل إلهيّ، يضاف عليه إيمان وإعمال الكائن البشريّ. هناك نوع من تفاعل، يقدِّمه الله أوَّلاً ويعمل بـه الإنسان ثانيًا. وهذا ما تفهمه الكنيسة بعقيدة: "النعمة". فـ"النعمة" تكون علـى نوعين:"النعمة المقدَّمة" و "النعمة المقبولة". "فالنعمة المقدَّمة"، التـي تشمل كلَّ ما يعمله الله للبشر من خلق وخلاص وعناية وإلهامات للخير، يظهر فيها حضوره في العالم، تصير "النعمة مقبولة" عندما يتجاوب معها الإنسان ويقبلها بحريَّة. فهذه النعمة المقبولة هي في آن واحد نعمة من الله وعمل حرّ من الإنسان.[2] فالإنسان إذا تفاعل جيّدًا مع النعمة المقدّمة يصبح إنسانًا كاملاً.

          تعطي المسيحيَّة "الإنسان الكامل" لقب قدِّيس. والقدِّيس ترى فيه أنَّه أكثر الناس إنسانيَّة، وفي عين الوقت وجهًا غيـر مألوف ومدهش. يولّد عند الآخرين بأنَّهم يكتشفون فيه، وفي أنفسهم، الإنسانيَّة الحقيقيَّة.[3]

          ترى المسيحيَّة في القدِّيس أنَّه يمثِّل الكائن البشري الذي تطهّر من أوساخ الإنسانيَّة الدنيئة. إنَّه تقويم الإنسان الذي تشوَّه بالمعصية. يمثِّل الكائن البشري الذي بشفافيته المتجـدِّدة، يظهر نموذجًا للصلاح اللامحدود، للقوة والحسّ اللامتناهيين. هو صورة متجـدٍّدة للإله الحسيّ، الشخصي، الذي صار قمَّة ذات علو شاهق ودنوٍّ أليف بإنسانيَّته التـي تجد كمالها في الله.[4]

          وفي تاريخنا المعاصر تعطي الكنيسة لقب قدِّيس لأشخاص فارقوا الحياة الأرضيَّة. ولكنَّها في الوقت عينه ترى في مسيرتها أشخاصًا وصلوا إلى تلك الحالة من الكمال كانوا أو ما زالوا على قيد الحياة.

          نضع نصب أعيننا دائمًا عمل الروح القدس في الإنسان، فهو الذي يقدِّسه ويجعله كاملاً وتامًّا.

 



[1] معجم اللاهوت الكتابي، ب ر ط ، منشورات دار المشرق، بيروت-لبنان، 1986.، باب: إنسان، ص 116.

[2] – الأب سليم بسترس البولسي: اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر،.الجزء الثاني، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم 3، طبعة ثانية، منشورات المكتبة البولسيَّة، بيروت-لبنان، 1989. ص 170.

[3] – ديمتري ستانلوي: من هو القديس. تعريب الاب افرام كرياكوس، ب رط، مطرانيَّة الروم الارثوذكس اللاذقيَّة، ب ت ، ص 7.

[4] – المرجع السابق، ص ص 10 -11.