اليقظة الروحيَّة

 

الأب سميح رعد

بروكسل، 17 آب 2009

 

          وأنا اقرأ في كتب بعض الروحانيين استوقفتني كلمة "اليقظة". وهي تعني فيما تعنيه الانتباه، وهي تخالف كلمة "نوم" وكلمة "نعاس" و"عدم الانتباه".

          وفي تأملات هؤلاء الروحانيين يقولون إنَّ معظم الكائنات هم نيام، يعيشون في سبات، يتزوجون رقادهم أو يؤاخون رقادهم. لا بل لا يعرفون أنهم يمضون كل عمرهم في رقاد. لا يعون المعنى الحقيقي للوجود.

          كما يتَّفق الروحانيون جميعُهم على قول جملة: "كل شيء نعمة." رغم أنَّنا نجد في حياتهم صعاب كبيرة، تنوء الظهور الإنسانيَّة العاديَّة تحتها…  يؤكِّدون أنَّ "كل شيء نعمة" رغم قسوة الحياة عليهم في ظاهرها. يعيشون في تناغم تام مع أنفسهم. لا يوجد تناقض بين تلك الظواهر وحياتهم العميقة.

           ما يميزهم عن سائر الكائنات أنَّهم في يقظة دائمة، هم يعرفون ما هو جوهري وأصيل وينشدُّون إليه.

          في الصيف الماضي سمعت قصة جميلة عن أستاذ مدرسة. تقول القصة إنَّ هناك رجل في عقده الخامس، أستاذ مدرسة ولكنه تعب كثيرًا من التعليم بسبب المشاكل التي يعانيها مع طلابه وزملائه… ذات صباح قرع أبوه الباب صباحًا قائلاً له: "استيقظ! استيقظ!"

          إذا به يصرخ: "لا أريد! لا أريد! يا أبي"

          يجيبه أبوه: "استيقظ! عليك أن تذهب إلى المدرسة!"

          بصوت أقوى يصرخ الأستاذ: "لا أريد الذهاب إلى المدرسة!"

          – "ولماذا لا تريد الذهاب إلى المدرسة؟"

          – "لأسباب ثلاثة لا أريد الذهاب إلى المدرسة. أولاً: إنها تزهقني. ثانيًا: إنَّ الطلاب يزعجوني. ثالثًا: لا أحب المدرسة."

          أجاب الأب بشيء من اليقين: "أنا سأعطيك ثلاثة أسباب تقنعك أنه عليك أن تذهب إلى المدرسة. أولاً: واجب عليك أن تذهب. ثانيًا: عمرك الآن خـمس وأربعون سنة. ثالثًا: أنت أستاذ. استيقظ، استيقظ، أنت رجل! أصبحت كبيرًا جدًا ولم تعد طفلاً ولا يحق لك أن تنام كولد، حتى هذه الساعة. استيقظ!

          ينتمي هذا الرجل إلى فئة أولئك الناس الذين لا يريدون ترك "حديقة الطفولة". كل ما يريدونه من الآخرين هو أن يصلحوا لهم "ألعابهم الطفوليَّة المكسورة" أو أن تعاد إليهم تلك الألعاب إذا ما خسروها. يصرخون مثلاً: "أعيدوا لي زوجتي إلى البيت! جدوا لي عملي! أعطوني مالاً!" باختصار، لا يستطيعون أن يكبروا ويتحملوا مسؤليَّ.

          يؤكّد علماء النفس أن غالبيَّة مرضاهم لا يريدون الشفاء، بل فقط يريدون راحة وقتيَّة. ويعيد هؤلاء العلماء السبب ليس لعيب في مرضاهم، بل لأنَّ عمليَّة الشفاء مؤلمة.

          صحيح أيضًا أن اليقظة مؤلمة. وصحيح أيضًا أن النوم في السرير مريح جدًا. وصحيح أيضًا أن الاستيقاظ مزعج جدًّا.

          في طقوسنا المسيحيَّة نستعمل كلمات خاصة تدعونا إلى اليقظة،  مثل "لنصغِ!" أو "لنقف حسنًا، ولنقف بتهيب! لنصغ!". تدعونا هذه الكلمات أن ندخل في سرّ الحضور الحقيقي، أن نكون في يقظة روحيَّة أمام الحقيقة الإلهيَّة… لنصغ متيقظين لحضور الله الذي يدعونا لعيش اللحظة الحاضرة… لنستيقظ من سباتنا، لنتيقظ ولا ندع النعاس يغلب عينينا.

          لنصغ إصغاء الإنسان الحي… ولا ندع سبات النوم يغلبنا.

          لنصغ! "كل شيء نعمة".

          اليقظة شهادة شاهد على بهاء الحقيقة… بهاء الإيمان… والرجاء … والمحبة.

          إن اليقظة الروحيَّة هي يقظة الله فينا. فلنصغ!