تعليم البابا خلال المقابلة العامة 5/10/2009

الفاتيكان، الاثنين 05 أكتوبر 2009 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي الكلمة التي تلاها البابا بندكتس السادس عشر خلال المقابلة العامة في ساحة القديس بطرس، أمام أربعين ألف مؤمن، تحدث فيها عن حياة وأعمال القديس جوفاني ليوناردي.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

بعد يوم غد، 9 أكتوبر، نحتفل بالذكرى المئوية الرابعة لوفاة القديس جوفاني ليوناردي، مؤسس رهبنة أم الله، والذي أعلنت قداسته في 7 أبريل 1938، وأعلن شفيعاً للصيادلة في 8 أغسطس 2006، وهو أيضاً من أعمدة الحياة الإرسالية. مع المونسنيور خوان باوتيستا فيفس، واليسوعي مارتين دي فونس، أسهم في إنشاء مجمع حبري للإرساليات، مجمع " Propaganda Fide" "نشر الإيمان"، وفي ولادة معهد نشر الإيمان الأورباني، الذي نشّأ، عبر مر العصور، آلاف الكهنة – عدد كبير منهم شهداء – لتبشير الشعوب. إن مثال صورة القديس المشعة، هو مثال لجميع الكهنة في هذه السنة الكهنوتية. توفي عام 1609 بسبب الانفلونزا بينما كان يساعد المرضى المصابين بالوباء، في شارع كامبيتيلي الروماني.

ولد جوفاني ليوناردي عام 1541 في إقليم لوكا. هو الأصغر بين سبعة إخوة، وعاش مراهقة تمرس خلالها على الإيمان في جو عائلي سليم، وكان دائماً يرتاد الى حانوت للأدوية في بلدته. في السابعة عشرة من عمره ألحقه والده في إحدى الدورات العادية في الصيدلة في لوكا، ليصبح صيدلياً في المستقبل. ولنحو عقد من الزمن، كان الشاب جوفاني ليوناردي يقظاً ودؤوباً وحاضراً، ولكن عندما حصل على الاعتراف الرسمي الذي كان سيؤهله لفتح صيدلية، بحسب قانون لوكا، بدأ يفكر إذا ما حانت الساعة لتنفيذ المشروع الذي كان دائماً في قلبه. بعد تفكير ناضج، قرر سلوك درب الكهنوت. وهكذا ترك الحانوت وانصرف الى التنشئة اللاهوتية، وسيم كاهناً واحتفل بقداسه الأول يوم عيد الدنح من عام 1572. ولكنه لم يتخلى عن اهتمامه للصيدلة، بل إنه شعر بأنه بواسطة الصيدلة سيتمكن من إتمام دعوته، أي أن ينقل للبشر – من خلال الحياة المقدسة – "دواء الله"، الذي هو يسوع المسيح المصلوب والقائم، "مقياس كل شيء".

وإنطلاقاً من مبدأ أن كل الكائنات البشرية تحتاج الى هذا الدواء أكثر من أي شيئ آخر، عمل القديس جوفاني ليوناردي ليكون اللقاء مع المسيح أساس وجوده. كان غالباً يردد: "من الضروري أن نبدأ من جديد إنطلاقاً من المسيح". كانت أولوية المسيح بالنسبة إليه أساس الحكم والعمل، والمحرك الرئيسي للنشاط الكهنوتي، في وقت انتشرت فيه حركة التجدد الروحي في الكنيسة بفضل المؤسسات الدينية الجديدة، وبفضل شهادة قديسين مثل كارلو بوروميو، فيليبو نيري، اغناطيوس دي ليولا، جوزيبي كالاسانسيو، كاميلو دي ليليس ولويجي كونزاغا.

كرس نفسه بحماس للعمل بين الشباب من خلال جمعية العقيدة المسيحية، وجمع حوله مجموعة من الشباب ومعهم، أسس في سبتمبر 1574 ، جمعية الكهنة المصلَحين من قبل العذراء الطوباوية، والتي أصبحت فيما بعد رهبنة خدام أم الله. وكان يطلب من رسله ان يضعوا نصب أعينهم "شرف ، وخدمة ، ومجد يسوع المسيح المصلوب"، وكونه صيدلي معتاد على تحديد الجرع، كان يضيف: "ارفعوا قلوبكم لله أكثر من ذلك بقليل، ومعه تعاطوا مع الأشياء".

بدافع الحماس الرسولي، بعث ليوناردي، في مايو 1605، برسالة للبابا الجديد بولس الخامس يقترح فيها شروط تجديد الكنيسة الحقيقي. وفيها تحدث عن "ضرورة أن يبحث المصلحون قبل كل شيء عن مجد الله". "عليهم أن يتألقوا باستقامة الحياة وامتياز التقاليد، وهكذا بدلاً من الإكراه، يجتذبون الآخرين بلطف الى الإصلاح". "من أرد القيام بإصلاح ديني وأخلاقي جدي، عليه قبل كل شيء – وكطبيب صالح – أن يكشف عن الأمراض التي تتمخض بها الكنيسة، ليستطيع أن يصف الدواء الصحيح". "على تجديد الكنيسة أن يتحقق في الوقت عينه في المسؤولين وفي الأعضاء، في أعلى السلم وفي أسفله. الإصلاح يبدأ بمن يحكم ومنه ينتقل  للأعضاء. وكان، بينما يحث البابا على تعزيز "إصلاح شامل في الكنيسة، يعمل على تنشئة الشعب تنشئة مسيحية، وبخاصة الأطفال، وينشئهم منذ السنوات الأولى… في نقاوة الإيمان المسيحي والتقاليد المقدسة".

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن صورة هذا القديس المشعة تدعو المسيحيين عامة، والكهنة بنوع خاص، الى التوق الى "غاية الحياة المسيحية" التي هي القداسة، كل بحسب وضعه. فقط من الأمانة للمسيح، ينبع تجدد الكنيسة الحقيقي. خلال تلك السنوات، مرحلة العبور الثقافي بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، بدأت ملامح الثقافة المعاصرة المستقبلية بالظهور، متميزة بالفصل بين الإيمان والعقل، الذي أدى الى تهميش الله، موهماً الإنسان بأنه سيد ذاته، وبأنه قادر على العيش "كما لو كان الله غير موجود". إنها أزمة الفكر الحديث، الذي تحدثت عنها أكثر من مرة، والتي تظهر غالباً بشكل النسبية. لقد عرف جوفاني ليوناردي الدواء الحقيقي لهذه الشرور الروحية، ولخصه بالقول: "المسيح أولاً"، المسيح في القلب، وهو محور التاريخ والكون. وكان يشدد بالقول بأن ما تحتاجه البشرية هو المسيح لأنه هو "مقياس حياتنا". لا يوجد محيط لا تمسه قوته؛ لا يوجد شر لا يجد الشفاء فيه، ولا توجد مشكلة لا تجد الحل فيه. "المسيح أو لا أحد"! هذه هي وصفته لكل نوع من الإصلاح الروحي والاجتماعي.

هناك ناحية أخرى من روحانية القديس جوفاني ليوناردي، أود التشديد عليها. كان يردد في أكثر من مناسبة بأن اللقاء الحي بالمسيح يتحقق في كنيسته، المقدسة والهشة، المتجذرة في التاريخ وفي تقلباته المظلمة بعض الأحيان، حيث ينبت القمح والزؤان معاً (راجع مت 13: 30)، وهي دائماً سر خلاص. بوعيه التام الى أن الكنيسة هي حقل الله (راجع مت 13: 24)، لم يفقد الشجاعة بسبب ضعفه البشري. في وجه الزؤان، اختار أن يكون القمح الجيد: قرر بالتالي أن يحب المسيح في الكنيسة وأن يعمل لتكون الكنيسة علامة شفافة للمسيح. نظر الى الكنيسة بواقعية كبيرة، بضعفها البشري، ولكن في الوقت عينه بكونها "حقل الله"، أداة الله لخلاص البشرية. وليس فقط. محبة بالمسيح عمل جاهداً لتطهير الكنيسة، لتكون أكثر جمالاً وقداسة. لقد فهم بأن كل إصلاح يتم داخل الكنيسة وليس ضدها أبداً. وفي هذا المجال كان القديس جوفاني ليوناردي مثالاً رائعاً. إن كل إصلاح يطال بالطبع الهيكليات، ولكن عليه بدرجة أولى أن ينحفر في قلوب المؤمنين. وحدهم القديسون – رجال ونساء يقودهم الروح القدس، مستعدون للقيام بخيارات جذرية وشجاعة على ضوء الإنجيل – يجددون الكنيسة ويسهمون في بناء عالم افضل.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، لقد كانت حياة القديس جوفاني ليوناردي دائماً مستنيرة ببهاء "وجه يسوع المقدس"، المحفوظ في كاتدرائية لوكا، والذي أصبح رمزاص للإيمان. وعلى مثال القديس بولس –  وجه أنظار تلاميذه ولا يزال يوجه انظارنا الآن نحو مركزية ومحورية المسيح، الذي من أجله لا بد من أن نتعرى من كل مصلحة ذاتية وأن ننظر فقط في ما هو لخدمة الله"، موجهين "عقولنا فقط نحو شرف وخدمة ومجد المسيح يسوع المصلوب". والى جانب وجه يسوع، وجه جوفاني ليوناردي نظره الى وجه مريم الوالدي. أختارها شفيعة لرهبنته، وكانت له معلمة وأختاً وأماً، وحارسة. فليكن مثال ووساطة "رجل الله" هذا، وبخاصة في هذه السنة الكهنوتية، نداء وتشجيعاً للكهنة ولجميع المسيحيين ليعيشوا دعوتهم بشغف وحماس.

نقله الى العربية طوني عساف – وكالة زينيت العالمية (zenit.org)