التلوث البيئي – خطيئة مميتة

بقلم المهندس وميض شمعون ادم

– عن موقع كلدايا.نت.

 

ماهي الخطيئة:

من اجل عدم الاسهاب في شرح معنى الخطيئة و تجنبا لحصرها في تعريف معين نقول, ان الخطيئة عموما هي قوة شاملة (universal power) تعمل في العالم من خلال الانسان "خليقة الله", وهي حالة ضد الله والخير فضلا عن انها تعادي المخطط الخلاصي في التدبير الالهي. ان الخطيئة تناقض كامل لفضيلتي المحبة والمصالحة اللتان جسدمهما المسيح على الصليب, وهي لاتقف عند حدود تجاوز الشريعة والقيم والمبادئ فحسب بل تتعداها من خلال روح التمرد التي تعمل في داخلها (intrinsically) ضد صورة الأنسان التي ارادها الله في عملية الخلق. اما الافعال والأنتهاكات والتجاوزات (acts and transgressions) ضد الله والقريب فما هي الا القوة التي تزود الخطيئة بالديمومة وتوفر لها اسباب النمو والانتشار على حد سواء من خلال الملحدين ومن خلال اولئك اللذين يكرمون الله بشفاههم اما قلوبهم فبعيدة عنه (اشعيا 13:29(. وفي هذا تأنيب وتوبيخ لكل من يتشندق بادعائه بحب المسيح والتشبه به له المجد وهو في داخله روح نجس, ومن قلبه يخرج كل ماهو نجس.

 

الخطيئة في الكتاب المقدس:

باختصار نقول, ان الكتاب المقدس بعهده القديم يصور الخطيئة على انها تمرد ضد ارادة الله, وهي (اي الخطيئة) في جانب كبير منها ممارسة الحرية بعيدا عن الله مما سبب انهيار العلاقة بين الله والانسان, وفي ذات الوقت فانها اساءت الى الانسان ذاته (شعور ادم وحواء بالعري والخجل تكوين 7:3), كما انها اساءت الى الآخر (من خلال توجيه الاتهام الى حواء التي خلقها الله كجزء من أدم. تكوين 12:3), ناهيك عن الاساءة لخليقة الله التي عليها الان (ان تكد وتكدح حتى تأكل من ثمر الارض. تكوين 19:3), وصولا الى عقوبة الخطيئة بحسب العهد القديم وهي الموت اي الانفصال الكلي عن نعمة الله والعودة الى اللاشئ ( لانك تراب والى التراب تعود تكوين 19:3). ويصف اشعيا النبي الخطئية على انها الفشل في محبة الله ومواجتهه بقلب قاس ( اشعيا 13:29), لذلك فان داوود النبي يطلب من الله في المزمور50 (قلبا نقيا اخلق في يا الله وروحا مستقيما جدد في احشائي), وهي شروط واجبة لابد من تنفيذها للارتماء في احضان الله مرة اخرى.

اما في العهد الجديد من الكتاب المقدس, فاننا نستخلص ان الخطيئة هي رفض ملكوت الله من خلال رفض المسيح وبعبارة أوضح رفض تعاليمه وشريعته الجديدة, شريعة النعمة (The Law of Grace). والخطيئة بحسب مفهوم النعمة هي رفض التوبة والأيمان ورفض العيش بحسب الروح القدس ( مرقس 29:3). ويؤكد مار بولص الرسول بان الخطيئة هي ناموس ضمن الجسد, تقودنا نحو كل ما هو زائل ومؤقت ( 1 قورنثوس 3:10), وانها تعتمر في قلب الانسان وتستعبده فيفقد الانسان بذلك وجوده بفقدانه حريته.

الخطيئة بحسب تأملات آباء الكنيسة:

يتكلم القديس اوغسطينوس (430-354) عن شمولية الخطيئة فيقول في مؤلفه ذائع الصيت "مدينة الله" ان جميع الخطايا والرذائل هي متلازمة. اي ان من كانت فيه واحدة منها كانت فيه كلها. لانه كما ان "محبة الله" التي تقيم في "مدينة الله" مبدأ واصل كل الفضائل فأن"محبة الذات" التي تقيم في "مدينة بابل"(1) اصل لجميع الخطايا.

اما القديس توما الاكويني ( 1274 – 1225)(2) فانه يصف الخطيئة بانها" اول الاضداد للفضيلة" فهي تضاددها من جهة غايتها لان الخطيئة تدل على الفعل المذموم كما تدل الفضيلة على الفعل المحمود والواجب. وبحسب هذا الوصف فان الخطيئة هي فعل قبيح, ولايمكن للخطيئة ان تجتمع مع الفضيلة, ونستخلص من ذلك ان الخطيئة هي حالة غياب الفضيلة. لذلك فمن يفتقد الى الفضيلة فأنه منغمس في الخطيئة وهذا يؤكد قول ربنا ومخلصنا يسوع المسيح "من ثمارهم تعرفونهم" (متى 16:7) فلا يستطيع والحالة هذه ان يقول كلاما طيبا من لم توجد الفضيلة في قلبة ولذلك يصف ربنا يسوع المسيح هؤلاء بقوله "يا اولاد الافاعي, كيف لكم ان تقولوا كلاما طيبا وانتم خبثاء"(متى 34:12).

ويؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني ( 1965- 1962)(3) حقيقة ان الله خلق الانسان على صورته ومثاله في حالة القداسة, ولكن الانسان استغل حريته بشكل سيْ من خلال الثقة التي وضعها في الشرير.

اما التعليم المسيحي بحسب الكنيسة الكاثوليكية (4) فانه يعرف الخطيئة بانها جريمة ضد الحق والضمير, وهي الفشل في اعطاء الحب الحقيقي للله والقريب من خلال الابتعاد عن الصلاح, وهي تسبب تشويه الانسان وتشوه بدورها العلاقة مع القريب. الخطيئة هي كلمة او فعل او رغبة ضد الشريعة الابدية.

الكنيسة الكاثوليكية وتحديد الخطايا

في القرن السادس الميلادي اعلنت الكنيسة الكاثوليكية من خلال قداسة البابا كريكوري الكبير Gregory the great )604-540) ما اصبح بعدها معروفا بالخطايا المميتة السبعة وهي :

1. الكبرياء   Pride

2.الحسدEnvy

3.الشراهةGluttony

4.الشهوةLust

5.الغصب Anger

6.البخلGreed 

7.الكسلSloth

ومرة اخرى, باختصار, سميت بالخطايا المميتة لانها تؤدي الى انفصال الانسان عن نعمة الله (موت أدبي) وكشرط للتغلب على هذا الأنفصال يستلزم من الأنسان أن يتصالح مع الخالق من خلال فعلي الندامة والأعتراف (contrition and confession) حتى يكون بمقدوره أن يشترك في الوليمة السماوية, أي تناول القربان المقدس.

وتتميز الخطايا المميتة عن اخرى سميت عرضية لأن الاخيرة قد تكون هفوات و اخطاء عابرة لايمكث الأنسان فيها ويصر عليها! او اخطاء ترتكب تحت الاجبار والاكراه, او اخطاء ترتكب بدون معرفة كاملة,  فضلا وذلك الاهم انها لا تشوه العلاقة بين الانسان والله وبين الانسان والقريب. وبعيدا عن مناقشة تداعيات الخطايا المميتة والعرضية وعقاباتها المختلفة(5), نقول عندما اعلن قداسة البابا كريكوري ومعه آباء الكنيسة هذه الخطايا فانهم من دون شك قد استندوا الى تعاليم الانجيل المقدس لربنا يسوع المسيح له المجد وتعاليم الآباء القديسين الذين سبقوهم ولاسيما القديس اوغسطينوس ملفان الكنيسة ومعلمها العظيم ورؤيته الى الخطيئة الاصلية. لكن اضف الى ذلك وكعادة الكنيسة الكاثوليكية في الاستجابة لظروف العصر ومتطلباته جنبا الى جنب مع وصية المسيح له المجد عندما قال"كل ما تربطون في الارض يكون مربوطا في السماء وما تحلونه في الارض يكون محلولا في السماء" ( متى 16– 19), وبذلك عكست هذه الخطايا حاجة المجتمعات والمؤمنين للسير على الطريق المستقيم المؤدي الى الحق والحياة, اي الى يسوع المسيح.

وظلّت الكنيسة امينة لتعليمها من خلال حث المؤمنين للابتعاد عن هذه الخطايا حتى يبقوا ضمن العائلة المقدسة ويتمتعوا بثمار النعمة والبركة التي تأتي مع الفرح الحقيقي الذي يشعر به الانسان الممتلئ من محبة الله والايمان والرجاء به.  ولم تستطع كل البدع والهرطقات ان تحيد الكنيسة عن تعليمها المقدس والمستند كما اشرنا سابقا الى الكتاب المقدس وتعليم أباء الكنيسة القديسين,  بل واصلت رسالتها لتقود جمع المؤمنين الى المسيح برغم طريق الجلجلة الوعر.

وبعد ما يقارب خمسة عشر قرنا من الزمان جاء البابا الحالي قداسة مار بندكتس السادس عشر (والذي كان يشغل منصب رئيس المجمع العقائدي قبل تنصيبه كرأس للكنيسة الكاثوليكية واسقف روما) ومعه الاباء اساقفة الكنيسة الكاثوليكية الاجلاء ليظيفوا سبعة خطايا مميتة الى تعليم الكنيسة الكاثوليكية وذلك في أذار عام 2008, داعين رعية الرب للالتزام بهذا التعليم الجديد والابتعاد عن ارتكاب هذه الخطايا او المشاركة فيها او تقديم العون لمن يرتكبها وهي:

1. التلوث البيئيEnvironmental Pollution

2.التجارب على الجينات البشريةGenetic Manipulation

3.الظلم الاجتماعيSocial Despotism and Human Rights Violation

4. تجارة وتعاطي المخدراتDrug Trafficking and Consumption

5.استغلال الاطفالChild Abuse

6.الأجهاضAbortion 

7.الغنى الفاحش Excessive Wealth

التلوث البيئي … خطيئة :

لقد اشرنا في الجزء الاول من هذه المقالة(6) ان التلوث البيئي مهما تعددت اسبابه فان الانسان هو المسؤول الاول عنه, كما اشرنا الى ان مظاروتبعات التلوث سوف تسئ الى الانسان ذاته حيث تؤثر على الصحّة العامة ناهيك عن الخلل الذي يحصل في التوازن الطبيعي للعناصر والمكونات البيئية المختلفة.  ومن حيث أن الانسان يقوم باي عمل يؤدي الى التلوث مع علم سابق واصرار على المواصلة,  فانه يسئ بعلم منه الى الاخر والى الطبيعة التي ليست من حقّه بقدر ما هي وديعة عليه الحفاظ عليها حتى تكون لللآخرين من بعده.

وتناغما مع معنى الخطيئة ونظرة الأيمان المسيحي الكاثوليكي لها, فقد وجد آباء الكنيسة الكاثوليكية الأجلآّء أن في كل عمل يسبب تلوث البيئة هناك خطيئة كامنة يمكن أن تتفاقم لتصل بذروتها وتأثيرها الضّار على المجتمع البشري من جهة والطبيعة من جهة أخرى. فكان لا بدّ لها أن تدق ناقوس الخطر لما يجتاج عالم القرن الواحد والعشرون من مخاطر يمكن أن توصف بأنها جبل جليدي لا يظهر منه سوى قمّته, أما ما كان في كوامنه فهو الأخطر.

أن ما يؤكد خطيئة التلوّث البيئي, هو الآثار السلبيّة التي نجمت عن هذه المشكلة وكان وما يزال لها تأثير مباشر على حياة الأنسان"صورة الله ومثاله" حيث أن طمع الأنسان قد أدى الى أستغلال الطبيعة لصالحه فحسب دون الأكتراث لأية نتائج سلبيّة قد تترتب على ذلك في المستقبل, مستندين الى حقيقة مزيّفة وهي أن الطبيعة هي خزّان لا ينضب! وكعادة الأنسان فأنه يرمي باللائمة على كل ما هو خارج عنه, فعلى سبيل المثال, تعرية مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والغابات وتحويلها الى مناطق سكنيّة, أندثار أنواع معينة من الحيوانات والنباتات, أستخدام المبيدات والأسمدة الكيمياوية في الأراضي الزراعية, ورمي النفايات والسموم الصناعية في البحار والمحيطات, أجراء التجارب النووية والأشعاعية في الصحارى والمحيطات, زيادة نسبة ثاني أوكسيد الكاربون بسبب قلّة الغطاء النباتي, بناء وأقامة سدود غير نظامية على مجاري الأنهاروالبحيرات, ردم الجداول والنهيرات من أجل مشاريع تنموية مختلفة, مشاريع التطوير الحضري بدون دراسات بيئية مناسبة, أختراع وتسويق سلع وبضائع تفتقر الى مواصفات بيئية وصحية معينة ….. الخ, كل هذه هي أسباب خارجة من الأنسان. ولكن هذا لا يعفي الأنسان من مسؤوليته الشخصية في الحفاظ على البيئة من التلوث.

وليس من المبالغة اذا ما تأملنا في أن مسؤوليتنا تجاه الحفاظ على البئة تأتي في صلب أيماننا, حيث يوضّح ربنا ومخلصنا يسوع المسيح أن كل ما يخرج من قلب الأنسان هو الذي يلوّثه, حيث من قلب الأنسان تنبعث المقاصد السيئة (متي 15 : 19), التي تؤدي على المديات اللاحقة الى التأثير على المحيط الذي يعيشه الأنسان أي على البيئة, ومن هذا التأثير ما يكون مادّي ومنه ما يكون معنوي. وما يندى له الجبين أن تشرّع بعض القوانين التي تتيح للبعض بممارسات تؤدي الى تلوّث البيئة تحت ذريعة الحرية الشخصيّة !

لقد أوكل الله الى آدم الأنسان الأول مهمّة الحفاظ على"الأرض" كونها مصدر طعامه وغذاءه, فهل يحق للأنسان أن يسيء الى مصدر غذائه؟ ان فعل ذلك فأنما هو يجرم بحق نفسه وحق الآخرين أيضا, فاليوم أصبح الوجود الأنساني في خطر لأن مصدر غذاء الأنسان وطعامه وشرابه أصبحا في خطر مدقع أيضا. وفي الوقت الذي لا نستطيع لوم باقي المخلوقات أن كانت لها مساهمات سلبيّة تجاه البيئة, فأن الأنسان وحده يتحمل اللائمة أستنادا الى حقيقة أنه المخلوق الوحيد على صورة الله ومثاله, وهو الوحيد الذي أعطاه الله ليكون حارسا أمينا على الأرض والطبيعة, فالسلطة التي أعطاها الله للأنسان على سمك البحر وطير السماء والحيوانات (تكوين 1:28) أنما هي سلطة مسؤولة على الأنسان أن يمارسها بشكل يحفظ كرامة ما أعطي له ويصونها بل يدافع عنها وقت الخطر, وهذه السلطة ليست بأي حال من الأحوال تحويل ملكيّة الطبيعة الى الأنسان! فالطبيعة كانت وستبقى ملكا لله خالقها.

الخلاصة

مما تقدم وفي ضوء أيماننا المسيحي وتعليم الكنيسة الكاثوليكية نستخلص أن لنا مسؤولية مضاعفة كمسيحين علينا أن نمارسها لنساهم لا بل لنقود عملية الحفاظ على البيئة من المخاطر التي تحدق بها من جراء سوء المعاملة والأستخدام لمصادرها المتنوعة من قبل الأنسان, أن الدعوة للحفاظ على البيئة يجب أن تكون في صلب البشارة بالأنجيل المقدس في عالم اليوم وهذا ما فعلته الكنيسة الكاثوليكية, بأنها أطلقت صرخة مار يوحنا المعمدان في بريّة اليوم (زمن العولمة) ليصل صداها الى كل القلوب والعقول والضمائر, ويأخذ الكل دوره في الحفاظ على نصاعة الأرض والطبيعة وشكلها السليم قبل أن تستفحل فيها الخطيئة, فتلوّثها وتشوّهها وتجرّدها من كل عفة وجمال .

 

——————————————————————————————————————-

الهوامش  

1.مدينة بابل هنا هي رمز كتابي تشير الى عصيان ارادة الله بحسب سفر التكوين الفصل الحادي عشر

2.الخلاصة اللاهوتية- المجلد الرابع: المبحث الحادي والسبعون Summa Theologiae Vo1.IV

3.عقيدة الكنيسة في العصر الحديث-فرح ورجاء (Gaudium et Spes G5.13)

4.Catechism of the Catholic Church # 1849

5.للمزيد من المعرفة حول هذا الموضوع راجع على سبيل المثال المجلد الرابع من الخلاصة اللهوتية للقديس توما الاكويني المبحث السابع والثمانون.

6.الرابط…. http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,354940.0.html