الأب سميح رعد
29 تشرين الثاني 2009
يستوقفني شعار النّسر الذي استعملته حضارات كثيرة كحضارة الفراعنة أو الحضارة الفنيقيَّة. وأشخاص كثر منحوا هذا الرمز أو أخذوه شعارًا لحياتهم مثل الرسول الحبيب يوحنا.
وجدت خلال تفتيشي عن كلمة نسر في سفر المزامير أنَّها لم ترد إلاَّ مرة واحدة فقط في المزمور 102، "الذي يشبع شيبتك بالخير، فيتجدّد كالنسر شبابك." وهو مزمور ننشده صباحًا في مزامير السَحَرِ.
إن النسر طائر معروف بقوَّته ورهبته وحدَّة بصره. وهو من الطيور القليلة التي يمكنها أن تطير عاليًا جدًّا، ومع القدرة العالية التي يمكنه أن يصل إليها يبقى نظره ثاقبًا جدًّا يمتّعه أن يرى طرائده.
من المعروف أنَّ النسر من الطيور المعمِّرة. عندما يبلغ من العمر ثلاثين سنة يتحوّل جسمه بشكل غريب، فتخور قواه، لأنّ كل شيء فيه وصل إلى مرحلة قصوى من البلوغ: أظافر مخالبه تصبح كبيرة جدًّا، فيصعب عليه صيد طرائده من خلالها؛ وريش أجنحته تلتصق بصدره، فيصعب عليه الطيران لارتفاعات عالية؛ ومنقاره يتدبَّب فيصعب عليه أكل طرائده… يبدو أن هلاكه لا محالة.
في هذه الحال، يصبح النسر أمام خيارين لا ثالث لهما، إمَّا الاستسلام لقدره فيموت أو يقبل معمودية الولادة الثانية… إلاَّ أنَّ ضريبة الخيار الثاني مكلفة للغاية، وقبوله ليس بالموضوع السهل.
معمودية الثانية قاسية… يذهب النسر إلى قمّة عالية حيث يبتنـي له عشًّا ليعيش فيه مدة مئة وخمسين يومًا.
بداية يَكْسِرُ مخالبه بالضرب على الصخور، وينتظر حتى تنمو مخالب جديدة… وما أن تنبت حتى يقوم بكسرها مرّة جديدة، فينبت مكانها مخالب جديدة تكون أقوى وأمتن.
أمَّا منقاره الطويل، فليس أسهل. يطرق النسر منقاره على الصخر طرقًا مبرحًا حتى تتفتت أخر قطعة منه… وينتظر، صابرًا على جوعه، حتى ينبت منقاره مجدَّدًا، فيقوم بعملية خلع ثانية تكون أهون بقليل من الأولى، ويصبر لينبت له منقار جديد أقوى من الاوَّل.
المرحلة الأخيرة والأخطر تكون بنتف الريش. ينتف النسر ريشه وينتظر لينمو له ريشٌ جديد. هذا الريش الجديد يعمل على تقوية جناحه الذي لن يلتصق بصدره لاحقًا.
… وهكذا يبدأ النسر حياة جديدة. ويصبح صيَّادًا جديدًا ماهرًا.
إنَّ حياة النسر هذه لهي مثال على أهمية تجدد حياة الإنسان منّا لا ليعيش فقط حياة جديدة ومديدة مليئة بالحيوية.
كلٌّ منَّا يمرّ بمراحل عديدة في حياته… وعندما تصعب عليه ظروفه فيرهل ولا يعد يشعر أن حياته هرمت فليمتثل بالنسر كيف يمر بهذا التغير لكي يتجدد ويستمر.
هذا التجدد هو خلعٌ للإنسان العتيق ولباس للإنسان الجديد.
لنتذكر المزمور أنَّ الله هو الذي "يشبع شيبتك بالخير، فيتجدّد كالنسر شبابك".