التبشير التكنولوجي

بقلم روبير شعيب

 

الفاتيكان، الاثنين 2 نوفمبر 2009 (Zenit.org).

لو تجسد المسيح في مطلع القرن الحادي والعشرين، ما الأسلوب الذي كان سيتعمده في إعلان بشرى الخلاص؟ هل كان سيعتمد الأساليب الحديثة والمتطورة؟ أو كان سيكتفي بالوسائل التي توسّلها في زمنه؟

قبل أن أغامر في تقديم جواب، أود أن أعترف بأنه إذا كان من الصعب تكهن ما قد يفعله شخص يعيش يوميًا بالقرب منا، فصعوبة التكهن تضحي شبه مستحيلة إذا ما أردنا تطبيقها على إنسان إله عاش منذ ما يقارب 2000 سنة، ولكن، مع نبرة من الفكاهة والخيال، أود أن أستنتج قدر المستطاع من موقف يسوع الوجودي أمس ما قد يفعله اليومي في مجال التبشير.

 

الصوت والصورة

إذا ما تجاوزنا العادة السيئة المتمثلة عند المحترفين بيننا في تصفحنا الأناجيل، والمتمثلة بهذا الموقف "أعرف الخبر والنتيجة مسبقًا"؛ أي إذا ما سمحنا للإنجيل أن يفاجئنا، لاحظنا أن الإنجيليين – بعكس بعض الأناجيل المنحولة، مثل إنجيل توما – لا يكتفون بتقديم أمثولات أو أقوال يسوع المأثورة، بل يعرضون أيضًا المواقف التي يعتنقها يسوع في عرض أفكاره: "أجال طرفه"، "وقف وهتف عاليًا"، "رفع عينيه إلى السماء وقال"، "حدق به وأحبه"، "نظر إليهم بغضب"، "أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين بيديه ورفع عينيه إلى السماء"…

يسوع لم يكن يتواصل في حالة اختطاف وغيبوبة (trans)؛ كان حاضرًا ومؤثرًا. ولدينا بعض الأمثلة عن إعجاب الحضور بكلامه، مثل حماسة تلك المرأة التي تطوب الرحم الذي حمله والثديين اللذين رضعهما، ومثل هتاف الأطفال يوم الشعانين. هذا التأثير والسلطان الذي يحمله يسوع والذي كان روحيًا ونفسيًا في آن، يصفه الإنجيليون بكلمة  "exousia". يمكننا أن نقول أن يسوع كان يتحلى بـ "كاريزما" بالمعنى اللاهوتي (كاريزما يعني المواهبي وحامل المواهب، ويسوع كمسيح الرب هو حامل الكاريزما بامتياز) وبالمعنى البشري: كان يسوع متحدثًا معبرًا، وهذا ما يشرح تحاشد الجموع للإصغاء إليه، لدرجة أنها كانت تنسى الحاجات الأولى، ويضطر يسوع وتلاميذه أن يؤمّنوا الغذاء لهم.

تلفزيون يسوع

لم يكن يسوع يملك محطة تلفزيونية، ولكنه كان "يبثّ" في مخيلة ونفوس سامعيه صورًا عن ملكوت الله في أمثاله لأنه كان يدرك أن المسافة الأقصر بين القلب البشري والحقيقة الإلهية هي الأقصوصة. فوضاعة القصة تشبه نور الشمعة الضئيل الذي يمكن المرء أن يجد كنزًا دفينًا في أعماق الأرض.

إن استعمال يسوع للأمثال والصور يجعلنا نعتقد أنه كان ليستعمل وسائل الاتصال الحديثة، وخصوصًا المرئية منها لكي يبشر المخيلة، التي هي البعد الأول في عملية الإدراك البشرية. فالأطفال لا يبدأون بفهم المفاهيم المجردة، بل بفهم الرموز والصور. وقد أصاب الكاردينال جون هنري نيومان عندما قال أن الارتداد هو عملية تبدأ في المخيلة لا في الأفكار.

 

سطوح اليوم

لن أتوسع في تقديم الأمثلة، فما قدمناه يكفي ليقنعنا بأن الإنجيل ليس قالبًا متحجرًا بل واقعًا حيًا يعرف أن يغتني بكل الوسائط والوسائل الممكنة لكي يحمل رسالة الفرح والخلاص للجميع. لقد دعا يسوع تلاميذه يوميًا لكي يعلنوا على السطوح ما قد سمعوه يُهمس في الآذان.

سطوح اليوم ليست حجرية فقط، بل هي رقمية، وسينمائية، وفنية، وتكنولوجية. سطوح اليوم هي تلك الأماكن التي يجتمع فيها أبناء عصرنا، والي يجب أن يتردد فيها صدى الكلمة والبشرى. سطوح اليوم هي شبكة الانترنت، والجرائد الإلكترونية، والمدونات، والإذاعات، والتلفزيونات.

يسوع لم يتجسد تاريخيًا اليوم، ولكن نحن هنا على هذه الأرض اليوم. كمسيحيين، كجسد المسيح واجبنا أن نحمل عدوى فرحه وإنجيله عبر الوسائل المتوفرة لدينا اليوم. هذا هو عيش روح التبشير اليوم.

في هذا الصدد تأخذ كلمات يوحنا بولس الثاني بعدًا نبويًا عندما يقول في رسالته العامة "رسالة الفادي" (Redemptoris missio): "الالتزام في وسائل الاتصال، لا يهدف فقط إلى مضاعفة البشرى: بل يهدف إلى أمر أعمق بكثير، لأن تبشير الثقافة الحديثة يعتمد بشكل كبير على تأثير وسائل الإعلام". ويضيف: "لا يكفي إذًا أن نستخدم وسائل الإعلام لنشر الرسالة المسيحية وتعليم الكنيسة، بل يجب أن ندمج البشرى عينها في هذه ‘الثقافة الجديدة‘ التي خلقتها وسائل الاتصال الحديثة".

وأيضًا ما يقوله البابا بندكتس السادس عشر: " إن الثقافة الحديثة تنبثق، قبل مكنوناتها، من وجود أشكال جديدة من التواصل التي تستخدم لغات جديدة، وتقنيات جديدة وتخلق مواقف سيكولوجية جديدة. وكل هذا يشكل تحديًا للكنيسة المدعوة إلى إعلان الإنجيل لإنسان الألفية الثالثة دون تحريف مكنونات البشرى، ولكن مع جعلها مفهومة بفضل وسائل وأشكال تتطابق مع عقلية وثقافة اليوم".

وسيلة الاتصال المسيحية

ولكن لكي لا يضحي التبشير مجرد براعة من براعات العصر الحديث، لا بد أن نحافظ على الجوهر وأن نعززه. لا يكفي أن ننقل البشارة عبر وسائل الاتصال، بل أن نضحي نحن بالذات بشرى الإنجيل. وبما أن البشرى ليست مجرد كلمة وفكرة بل عيش وقداسة، فلا بد من أن نعيشها وأن نكونها لكي يضحي حملها عبر وسائل الاتصال مليئًا بالمعنى.

وأخيرًا، يجب أن نعي أن البشرى ليست عملنا بل عمل الله. وسيلة  الاتصال المسيحية المثلى ليست مخلوقة بل خالقة، هي الروح القدس الذي يجعل يوحد قلوب المؤمنين، ويقودنا إلى الحق كله، والذي يخلق التواصل الحق بين العقول والقلوب والأشخاص.

استخدام وسائل الاتصال الحديثة يتطلب أولاً ودائمًا عمل الروح القدس الذي هو أفضل وسيلة اتصال في صلب الثالوث، كونه الحب الأزلي الأقنومي بين الآب والابن، ووسيلة الاتصال الفضلى بين الخالق والخليقة كونه نفحة الحب الخالق، ووسيلة الاتصال الأكثر فعالية في قلب الواقع الكنسي والبشري حيث الرب يسوع ما زال حاضرًا في المعمدين باسمه بالروح حتى انقضاء الدهر.