الطلاق وبطلان الزواج في الكنيسة

 

الدكتور عيسى بولاديان – عمان

الدكتور عيسى بولاديان، وهو أول علماني متخصص بالحق القانوني في الكنيسة، ويعمل حاليا في المحكمة الكنسية اللاتينية في عمان، وهو يشرع بكتابة مقالات قانونية تختص بالمشاكل التي يواجهها المسيحي في حياته، وبخاصة فيما يتعلق بالزواج والارتباط في العائلة. وهي من أكثر المشاكل التي تجعل البيت مظلما وخاليا من الاساس الذي تبنى العائلة عليه: أي المحبة والرضى المتبادل. مع الشكر الجزيل للدكتور عيسى.

ما هو الفرق بين الطلاق وبطلان الزواج, وما هي الآثار المترتبة عليه؟ أليس بطلان الزواج يعني الطلاق؟ ولماذا الكنيسة ترفض الطلاق بالرغم من أنها تحكم في قضايا بطلان الزواج؟

إن هذه الأسئلة تواجهني كلما عرف أحد أنني أعمل في المحكمة الكنيسة, فيقوم الناس بالسؤال أليس بطلان الزواج يعني الطلاق؟

لذلك أود في مقالتي هذه طرح هذا الموضوع, ومحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة. ولكي نستطيع الإجابة يجب أن نتطرق إلى مفهوم الزواج بالنسبة للكنيسة وما هي الشروط الواجب توافرها لعقد زواج كنسي صحيح بحسب مجموعة الحق القانوني.

الزواج بالنسبة إلى الكنيسة هو عهد يقوم بين رجل وامرأة يؤلفان بموجبه شراكة تدوم مدى الحياة، وهو عهد معد من طبعه لخير الزوجين، ولإنجاب البنين، وتربيتهم بحسب المادة 1055 بند 1 من مجموعة الحق القانوني. ويكون هناك زواج عندما يكون هناك رضى لدى الطرفين يعربان عنه بطريقة شرعية، وهما يملكان ملء قدرتهما القانونية، وهو رضى ليس باستطاعة أي سلطة بشرية أن تقوم مقامه (المادة 1057 بند 1). والرضى الزواجي هو فعل إرادة يمنح به الرجل والمرأة أحدهما الآخر، ويقبلان أحدهما الآخر بموجب عهد غير قابل للنقض ليشكّل الزواج (المادة 1057 بند 2). والزواج الصحيح يولّد بين الزوجين رباطا دائما وحصريا من طبعه.

وبحسب مجموعة الحق القانوني، إن لفظة زواج بإمكانها أن تعبر عن العقد الذي يهب ويقبل بموجبه الرجل والمرأة احدهما الآخر، بطريقة دائمة وحصرية، ويقبل كل منها ويعطي الآخر الحق على جسده لجهة الأفعال التي تنتهي بالإنجاب، أو الشراكة الدائمة التي تتولد بينهما، وهي نتيجة العقد السابق.

وطبيعة الزواج المسيحي التعاقدية تمد جذورها أساسا إلى الرضى المتبادل بين الشخصين اللذين هما قادران قانونا، أي الرجل والمرأة، على منح احدهما الآخر القبول ذاته، أو الرضى بإعلان كل منهما إرادته إعلانا صريحا.

فالكنيسة بهذا تعرب عن تقديريها لشخص المتعاقدين عندما تحدد بأنه ليس في العالم من سلطة بشرية تستطيع أن تنوب عنهما في الإعراب عن رضاهما. فدور الرضى أساسي في الزواج, إذ إن أي عيب فيه, وإن كان خفيّا و داخليا يبطل الزواج.

وطبيعة التكوين التي تميز الرجل والمرأة تقضي بالاحترام الواجب لكل منهما، وهما متساويان من حيث الكرامة، ولكنهما متكاملان بما بينهما من فوارق تكوينية. والله هو الذي جعل في قلب كل من الرجل والمرأة الانجذاب المتبادل احدهما إلى الآخر. وهذا الانجذاب يصبح في الزواج عقدا قائما على الرضى المتبادل. وهذا يقود إلى الإنجاب. والاتحاد الزواجي متى اقترن بالرضى المتبادل يصبح رباطا أبديا لا عودة عنه.

الرضى الباقي إلى الأبد يقتضي الوحدة والحصرية والأمانة، وهذه الميزات التي يتمتع بها الاتحاد الزواجي تجد أساسها في طبيعة المحبة التي تقوم بين الرجل والمرأة. وهذا يعني أنه عندما يتحابب رجل وامرأة فهما يريدان دائما أن يكونا معا، وهذه هي الوحدة، ولا يريدان أن يقتسما الحياة أو خصوصيتهما مع غيرهما من الناس، وهذه هي الحصرية، وهما يريدان أن يبقيا متحدين، وهذه هي الأمانة. وهذا ما تقضي به العدالة. والزواج يؤسس اتحادا تتقاسم فيه إرادتان مشروع حياتهما، أي ما يملكان اليوم وغدا، وما هما، وما يكونان مستقبلا. و بهذا يصبح الزواج مؤسسة اجتماعية من باب المجاز. وما من مؤسسة اجتماعية يمكن أن نجد فيها ما نجد في الزواج من تفاهم قوي، ونهائي، بحيث أن المحبة الزواجية تتحول إلى شيء واجب من الناحية القانونية. وهذا منطقي، لأنه من العائلة القائمة على الزواج يولد المجتمع بأكمله. فالزواج إذن هو المؤسسة الاجتماعية الناشئة عن الشخص، وهي تعطي المجتمع ما له من كيان.

إن المحبة القائمة بين الرجل والمرأة تغير ما بينهما من جاذبية إلى انصهار دون أن يقضي على تمايزهما، ويغير وجود كل منها إلى وجودهما معا، واتحادهما إلى مشاركة فيكونان جسدا واحدا. هذه هي الميزات الأساسية التي تحدد حتى اليوم الاتحاد الزواجي.

لذا، إذا أردنا آن نعطي تعريفا للزواج, فيمكننا القول: الزواج هو عقد طبيعي رُفع لكرامة سرّ بالنسبة للمعمّدين (المادة 1055 بند 2). يُفهم في هيكليته الطبيعية بواسطة جذوره، أهدافه وتصميمه وتنفيذه أسست على الطبيعية العقلانية للإنسان". ويؤكد الوحي الإلهي، أنَّ هناك التحاماً في الزواج في النظام الطبيعي والزواج السرّيّ، فالأخير مقدَّس بطبيعته وبتأسيسه وسر من أسرار العهد الجديد، وإنّ مبدأ عدم الفصل بين الزواج الصحيح والسرّ تُعدّ نقطة مركزية للعقيدة الكاثوليكية: "النعمة تكمل ولا تهدم الطبيعة".

والزواج المعقود بطريقة صحيحة هو غير قابل للانفصام, ولا يمكن حله بإرادة المتعاقدين المتبادلة, ولا بأية إرادة بشرية. وهذا يصح على الزواجات الطبيعية, أي كل زواج صحيح, وليس فقط الزواج المسيحي, حيث أنه مفروض من قبل القانون الطبيعي, لخير الأولاد, وللعطاء المتبادل بين الزوجين نفسيهما خاصة, ولخير المجتمع البشري عامة. غير أنه يكتسب قوة خاصة وثباتا خاصا لكون الزواج المسيحي, علاوة على كونه عقدا طبيعيا, هو أيضا سر مقدس, يعطي النعمة والقوة للالتزام بالواجبات المفروضة على الزوجين, والقيام بها على أوفى وجه. فالزواج الذي يحمل طابع السر هو صحيح. وهناك فرق بين بطلان الزواج, والطلاق.

فالطلاق: هو حل الرابطة الزوجية الصحيحة من جانب الزوج بلفظ مخصوص أو ما يقوم مقامه في الحال أو المآل, أو بالرغم من إرادته بحكم القاضي. إذ يعتبر إنهاء للزواج بالنسبة للمستقبل فقط, مع الاعتراف بكافة آثاره في الماضي.

أما بطلان الزواج يعنى قانونا: إن عقد الزواج ابتداءً فقد أحد أركانه الجوهرية التي لا يوجد إلا بها, فيكون باطلا منذ وجودة لأنه ولد ميتا, فلا يكون له أي آثار في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. أي يصبح هذا الزواج كأنه لم يكن أصلا لأنه نشأ معدوم الوجود والأثر فيكون باطلا منذ نشأته.

ولا يمكن للكنيسة أن تعلن الزواج باطلا, إلا إذا كان لم يعقد عقدا صحيحا. وهذا يعني أن الزواج لم يكن موجودا من الأساس, وبعكس ذلك, إن الزواج المعقود عقدا صحيحا, لا يمكن فسخه أبدا. وإذا كانت الكنيسة تمنع الطلاق, فلأن عدم فسخ الزواج هو ما طبعه الخالق في الزواج بمقتضى الشريعة الطبيعية.

فبالزواج الرجل والمرأة يهب احدهما الآخر عن محبة تامة, ويقيمان فيما بينهما, بقوة العقد الزواجي, شراكة تستمر مدى الحياة, وتتميز, ليس فقط بالوحدة, بل أيضا بعدم الانحلال, على ما أشار إليه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بقوله: "وهذا الاتحاد الحميم، كونه عطاءً متبادلاً بين شخصين، وكذلك خيرُ البنبن، كُلُّ ذلك يقتضي أمانةً تامةً عند الزوجيّن، وارتباط الواحد بالآخر ارتباطاً لا ينفصم" (فرح و رجاء, 48).

إن الشريعة الإلهية الوضعية وهبت الجنس البشري عدم انحلال رباط الزواج, وهذا ما أشارت إليه صرخة آدم عندما ظهرت له شريكة حياته, فقال: "هذه عظم من عظمي, ولحم من لحمي… ولهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته, ويكونان كلاهما جسدا واحدا" سفر التكوين (2: 18-23). وفي العهد القديم, وضع موسى, كمرسل من الله إلى العبرانيين, حدودا لعدم حل الزواج فقال: "إذا اتخذ رجل امرأة وعاش معها, ولكنها لم تحظ عنده لعيب أنكره عليها, فليكتب لها كتاب طلاق يدفعه إلى يدها, ويصرفها من بيته, وإذا خرجت من بيته ومضت وصارت لرجل آخر… فليس لبعلها الأول الذي طلقها أن يعود, ويأخذها لتكون له زوجة بعدما تدنست, فان ذلك رجس لدى الرب".

فالطلاق ما هو إلا تفسيحا من الله جاد به على شعبه لقساوة قلوبهم, غير انه في البدء لم يكن هكذا على ما جاء في إنجيل القديس متى في مستهل الفصل التاسع عشر. وفي العهد الجديد, إن الرب يسوع, بعد أن ألغى ما سمح به لموسى, أعاد عدم حل الزواج الذي كان منذ البدء, وأعلنه إعلانا أكثر وضوحا فقال: "لقد قيل إن من طلق امرأته يجب أن يسلمها كتاب طلاق, غير أني أنا أقول لكم إن من طلق زوجته, إلا في حال مساكنه زنى, يجعلها تزني, وان من تزوج أخرى فقد زنى, ومن يتزوج مطلقة يزني".

وان بولس الرسول يؤكد هذه الحقيقة بقوله: "أما المتزوجون فآمرهم, لا أنا بل الرب, بأن لا تفارق المرأة رجلها, وان فارقته, فلتبق بلا زواج, أو فلتصالح رجلها, وبأن لا يترك الرجل امرأته", ويقول أيضا إن المرأة تظل مرتبطة برجلها ما دام حيا.

إن للمسيح زوجة واحدة هي الكنيسة، وان للكنيسة زوجا واحدا هو المسيح، وهو رأسها، ومخلصها، يسوع المسيح. وعلى هذا المثال الإلهي تأسس الزواج المسيحي، ولهذا السبب إن هذا الرباط، وهو كالرباط القائم بين المسيح والكنيسة، ليس فقط مقدسا، بل انه دائم، على ما يقول القديس بولس: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه، ويلزم امرأته، فيصير الاثنان جسدا واحدا". وجميع هذه الأقوال الكتابية قد لخصّها السيد المسيح بكلمة واحدة وهي "ما جمعه الله، فلا يفرقه إنسان"، وكان إذ ذاك يتحدث عن قيمة عدم انحلال الزواج التي لا تثمن.

الطلاق في "ما عدا مساكنه الزنى، يرتكب خطيئة", هذه الجملة لا تعني إن الزنى هو سبيل إلى فسخ الرباط الزوجي. الزنى يبرر طلاق الزوجة (أي انفصالها عن زوجها)، دون أن يسمح لها بزواج جديد, اذ يبقى رابط الزوجية قائما (راجع المادة 1152 بند 1, من مجلة الحق القانوني). إن السلطة والتقليد قد أعطيا لهذين المقطعين تفسيرا عمليا وهو عدم فسخ الزواج.

لذلك نجد أن علة الزنى تعطي للطرف البريء الحق في الانفصال وفي قطع الشركة الزوجية, إلا أنها لا تعطيه الحق في إبطال الزواج الذي يبقى قائما, ويبقى الزوجان مرتبطين به, ولا يحق لهما عقد زواج جديد, لأن الزواج الجديد يكون باطلا في حال عقدة في مثل هذه الشروط والظروف. ورغم كل ذلك, أي رغم هذا الحق للطرف البريء بطلب الانفصال, وحتى بعد صدور قرار المحكمة بالانفصال, فان المشّرع الكنسي يبقى يصّر على الطرف البريء بمسامحة الطرف المذنب واستئناف الحياة الزوجية المشتركة معه (المادة 1155).

وأخيرا علينا أن نلاحظ أن الرباط الزواجي قائم بين الزوجين في هذه الحياة الأرضية فقط, حيث أنهم في السماء لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة. ففي موضوع المرأة التي اتخذت سبعة أزواج, وسؤال الصدوقيين للمسيح عن مصيرها في الأبدية لمن تكون, أجابهم يسوع: "أنتم في ضلال لأنكم لا تعرفون الكتب ولا قدرة الله. فلا الرجال في القيامة يتزوجون ولا النساء يزوجن وإنما هم كالملائكة في السماء" (متى 22: 29–31).

عن موقع ابونا