للأب هاني باخوم
نائب مدير اكليريكة امّ الفادي في لبنان
رأينا في المرّة السّابقة ان الرّبّ وعد ابراهيم من جديد بنسل يرثه، يقيم عهداً معه ليثبّتَ ذلك الوعد. وهنا الكلّ يتوقع ان الامر قد انتهى. الرّبّ وعد واقسم ان يحقق وعده، ويبقى الآن التّنفيذ: ابنٌ من ابراهيم وامراته ساراي. لكنّ الامر ليس هكذا!!!
يقول الكتاب: "أمّا ساراي امرأة ابراهيم، فلم تلد له" (تك 16: 1). بالرّغم من الوعد والقسم والعهد الذي أقامه الرّبّ. بالرّغم من انّه آمن بكلمة الرّبّ، انتظر ووضع كلّ ثقته به على عكس كلّ رجاء، الا ان امراته لم تلد له. بالرّغم من مرور الوقت والسّنين على خروجه من أور، ومن حاران، امراته لم تلد له. نعم هكذا يقول الكتاب: "أمّا ساراي امراة ابراهيم، فلم تلد له". كلمة "أمّا" تعبّر بالكثير من الدّقة عن الواقع، عن خيبة الامل، عن التّعب من الانتظار، عن انّه بالرغم من كلّ ما حدث حتّى الآن، لم يتمّ شيء لان ساراي امراة ابراهيم لم تلد له.
لماذا امراة ابراهيم لم تلد له؟ لم يذكر الكتاب سبب ذلك. هل رجع الله عن وعده؟ ام رجع ابراهيم عن ايمانه؟ لماذا اذاً؟ الكتاب يقول فقط: " أمّا ساراي امراة ابراهيم، فلم تلد له". لا يقول شيئاً آخر. الرّبّ صامت! وابراهيم ايضاً صامت، ولكن شخصاً آخر بدأ يتحدث!! شخص يتحدث لأوّل مرّة في الكتاب. في كلّ ما جاء سابقاً لم يتفوه بكلمة، كان موجوداً، ولكن وجوده كان صامتاً! لكن الآن بدأ يتحدث ويفسر الاحداث، بدأ يقرأ ويعطي معنًى لها. ساراي، امراة ابراهيم، زوجته تقول له:"هوذا قد حبسني الرّبّ عن الولادة، فأدخل على خادمتي، لعل بيتي يبنى منها" (تك 16: 2).
ساراي ترى الواقع يكذّب الوعد، فتقول ان الله قد قرّر: فقد حبسني عن الولادة. لا أمل. الأمر واضح يا ابراهيم! لا معنى ان ننتظر اكثر، الرّبّ منعني عن الولادة، لكن انت لا! انت مازلت قادراً! هيّا. تلك هي الحقيقة، هذا هو الواقع، اتّحد بخادمتي، هاجر المصرية، اتّحد بها فهي التي ستعيد بناء بيتي، هي التي ستمنحنا الابن! وجدت الحل، تقول ساراي! انا عاقر والرّبّ منعني عن الولادة ولي خادمة تزوج بها واحصل على النّسل!
ساراي ومعنى اسمها السّيدة، الرّئيسة، وايضاً الاميرة، تتخلى عن رجائها، تترك الاحداث تغمر الوعد. تتخلّى عن كونها السّيدة وتقبل كي تحصل على الابن، ان تأخذ خادمتها مكانها. لكن بفعلها هذا، ساراي لا تدرك انها تتخلّى ايضاً عن هويتها كسيدة ورئيسة للبيت وتصبح عبدة.
لكن ابراهيم اين هو؟ ابراهيم الذي رأى الرّبّ يقسم له، بماذا سيجيب امراته؟ هل سيتذكّر الوعد وان ليس عليه القيام بأي شيء كي يتحقق؟ هل سيطلق تلك الصّرخة "الهي الهي لماذا تركتني؟" كي ينقذه الرّبّ من هذه التّجربة القاسية؟ هل سيصرخ للرّبّ؟ فهذا هو الوقت المناسب لتلك الصّرخة، التي لا تعبّر فقط عن الم جسديّ او نفسيّ او معنويّ، بل تعبرعن استفسار، وفي نفس الوقت طلب مساعدة واستغاثة بالله. صرخة، ترغب كما ذكرنا سابقاً، ان تصل إلى أعالي السّماوات وتقول للرّبّ لماذا لم يتحقق وعدك حتى الآن؟ ماذا سيفعل ابراهيم؟
يقول الكتاب:"فسَمعَ ابراهيم لقول ساراي" (تك 16: 2). لم يناقش، لم يحاور، لم يحاول ان يشرح لها ايّ شيء، ساراي قالت وهو استمع لها. يتكرّر نفس المشهد، مشهد آدم وحواء. حواء تأخذ من الشّجرة، تأكل وتعطي آدم، الذي أخذ وأكل بدوره، بدون كلام، بدون حوار، بدون اعتراض.
ساراي هي امراة ابراهيم، لحم من لحمه. وكأن التّجربة تأتي من جسده نفسه، وكأن جسده هو الذي يتكلّم، اوبالاحرى وكأن ساراي تُعير صوتها لما يشعر به جسد ابراهيم كي يسمعه بأذنيه. وهكذا كان بالفعل "فسَمعَ ابراهيم لقول ساراي، لقول جسده"، فأخذ هاجر امراة له.
نسي ابراهيم الوعد من جديد؟ هل فقد الايمان؟ لا نعلم. لكن ما نعلمه ان الايمان طريق. الايمان شجرة زُرعت كي تعطي ثماراً، ولتحقيق ذلك يجب ان تصل الى قامتها. لا يعني سيره خلف الرّبّ، انّه اصبح قادراً على مقاومة كلّ المحن والتّجارب، واعطاء ثمار الايمان البالغ. لكي يحقق ذلك، ابراهيم يحتاج إلى طريق. طريق يسير فيه وراء الرّبّ، وليس بمفرده مع امراته، واهل بيته. طريق كي يتعلم الايمان، من خلال احداث حياته، وكلمة الرّبّ تنيره امامها.
ابراهيم هو ابّ لكلّ مؤمن. اي انّ ايمانه نموذج لكلّ مؤمن. لا يكفي فقط ان يكون الإنسان معمداً ليصبح جاهزا كي يعطي ثمار الايمان. العماد يعطي بذرة الايمان ويرسخها في قلب الانسان إلى الابد. لكن لتصبح تلك البذرة شجرة وتعطي ثمارها تحتاج ان تنمو، تحتاج كما ابراهيم، ان تخرج وتسير خلف الرّبّ.
وحملت هاجر وولدت ابناًُ وسماه ابراهيم اسماعيل. نعم ولدت ابناً، ولكن هل هو الابن؟ هل هو الموعود من الله لابراهيم؟ كيف سيكون ردّ فعل الرّبّ امام هذا الابن وامام ابراهيم؟ هل ينتهي الوعد هنا وسيكتفي الرّبّ بهذا الابن لابراهيم؟ ام سيعاقب الرّبّ ابراهيم لانّه دبّر لنفسه الابن ولم ينتظر الوعد؟….للمرة القادمة.