رسالة عيد الميلاد المجيد + البطريرك الأنبا أنطونيوس نجيب

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين .

 

من الأنبا أنطونيوس نجيب ،
بنعمة الله، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك ،
إلى إخوتنا المطارنة، وأبنائنا القمامصة والقسوس ،

والرهبان والراهبات والشمامسة ،

وإلى جميع أبناء الكنيسة القبطية الكاثوليكية ،

على أرض الوطن، وفى بلاد الانتشار .

 

فرح الميلاد

 

" ها أنا أبشـّركم بخبر عظيم يفرح له جميع الشعب :

وُلد لكم اليوم فى مدينة داود مخلـّص، هو المسيح الرب "
( لوقا 2: 10 – 11 )

 

1- المسيح سبب الفرح

                      

مَن منا لا يشعر بالفرح والسرور فى ليلة الميلاد. إنه العيد الأمثل الذى يثير هذه المشاعر فى القلوب. فميلاد طفل هو مصدر فرح وابتهاج فى كل بيت، ينتظره الوالدون بلهفة، ويستقبلون المولود الجديد بالبُشر والتهليل. يتقبّلون التهانى ويحتفلون بعطية الله الحبيبة. يحتضنوه بفيض من الحب والحنان والرعاية. إنها حياة جديدة، جاءت تجدّد وتواصل حياتهم، وتحمل معها الكثير من الآمال والتمنيات الطيبة. هذا ما يجىء به كل مولود جديد .

 

أما فى ميلاد يسوع، فالأمر يختلف كثيرا : " ها أنا أبشـّركم بخبر عظيم ". إنه حَدَث استثنائى، فريد فى تاريخ البشر. إنه اللحظة الفارقة التى اختارها وحدّدها الله ليتدخـّل بصورة حاسمة فى حياة ومسيرة البشرية … " اليوم وُلد لكم مخلـّص، هو المسيح الرب ". إنه بداية العهد الجديد، الذى يحمل لنا الخلاص والعودة إلى الوحدة والمصالحة مع الله، والمصالحة بعضنا مع بعض. تجدّدت بشريتنا فى الكلمة المتجسّد، فقادها بحياته وتعليمه إلى الخلاص والحق وطريق القداسة والحياة الأبدية. بموته وقيامته فتح لنا من جديد باب السماء، بعد أن أغلقه أبوانا الأولان بمعصيتهم .

 

وقد سبق الأنبياء وتنبّئوا بمجىء المسيح المخلـّص، إله المحبّة والسلام، واهبا الفرح والبهجة لبنى البشر. أعلن أشعيا النبى : " السيد الرب نفسه يعطيكم هذه الآية : ها هى العذراء تحبل وتلد ابنا، وتدعو اسمه عمّانوئيل " ( 7 : 14 ). ويعلن يوئيل النبى : " لا تخافى أيتها الأرض، ابتهجى وافرحى، لأن الرب صنع العظائم " ( 2 : 21 ). إننا نفرح بميلاد السيد المسيح فرحا عظيما، لأنه عيد "عمانوئيل، أى الرب معنا " (متى 1 : 23). نفرح لأن مخلـّص البشر جاء وصار واحدا منا : " الكلمة صار جسدا وحلّ بيننا " (يوحنا 1 : 14). أراد الابن الكلمة أن يعيش مع البشر، أن يحيا ويتكلم ويعمل معهم، بل أن يبذل حياته من أجلهم. أراد أن يقيم فى قلوبنا وبيوتنا ومدننا. وهنيئا لنا متى وجدناه وأحببناه وخدمناه فى شخص إخوتنا بنى البشر.

 

 2- ظلال وأضواء

 

أحبائى، كم نحتاج إلى الفرح. فالأزمنة التى نعيشها تمتلىء بأسباب تهدّد الفرح القلبى والعائلى والاجتماعى بالذبول، بل بالاختفاء التام. فالأخبار اليومية تحمل لنا أنباء المآسى والحوادث والكوارث. كم من الناس، سواء بالقرب أو على مسافة منا، يعانون الجوع والمرض. وكم يكتوون بويلات الحروب وأعمال الإرهاب والقرصنة، فيموت الآلاف ويتيتـّم الأطفال، ويتشرّد الملايين ويُصاب الكثيرون بالعاهات التى تشوّه أجسادهم وتعطـِّل طاقاتهم عن العمل من أجل حياة كريمة. وكم من المؤسسات التى تنهار بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، فتصيب بالبطالة عشرات الآلاف من العاملين أصحاب العائلات الكادحة. وضحايا الأنفلوانزا تتزايد يوما بعد يوم، مهدّدة صحة وحياة الناس. وكم من حوادث الطرق والعمل، التى تترك المئات من الموتى والمصابين. وكم من الصدامات الاجتماعية والطائفية التى تثير الفزع والرعب. وكم من الأفراد والعائلات التى لا تشترك فى فرح هذه الليلة المباركة، بسبب فقد أعزاء تركوا فى قلوبهم جراحا من الحزن العميق. إننا نشارك البشر فى كل مكان آلامَهم ونصلى من أجلهم .

 

أمام هذا الواقع الأليم، يشعر الكثيرون باليأس والأسى. يتذمّرون من كل ما يحيط بهم من أحوال مؤلمة. وينغلق آخرون على أنفسهم، مكتفين بالبحث عن سعادة أنانية محدودة. وقد ينساق البعض وراء إغراءات أصحاب المصالح الشخصية والطموحات الانتفاعية العابرة، فيتجنـّدون لزعزعة السلام وخلخلة الأمان وتمزيق الأخوّة والمحبة. ووسط كل ذلك يضيع الفرح من القلوب والبيوت والمجتمعات .

 

رغم هذه الظلال، تشرق أضواء كثيرة تبدّد ظلام اليأس والقنوط، وتبعث فى القلوب مشاعر الفرح والابتهاج. فالمآسى والأحزان توحِّد بين القلوب المُحِبـَّة والمتعاطفة. والحوادث والكوارث تثير الهمّة للمسارعة إلى المعونة والمساندة. وآلام الفقر والمرض توحى للكثيرين بالمشاركة والمساعدة والافتقاد. فشعبنا المصرى بنوع عام طيب القلب، عطوف، عَطـّاء، شهم، كريم ومُحبّ. فلا نترك الأحداث القاتمة المخالفة لذلك، وإن تكرّرت، تغيّر هذه الملامح الجميلة التى تبعث الفرح وتحافظ عليه وتحميه. بل بالعكس فلنعمل جاهدين على تربية أبنائنا على هذا النهج، لنضمن لبيوتنا ومجتمعاتنا السلام والفرح والمحبة .

 

مسيح الميلاد علـّمنا سر هذا التضامن فى الحياة والتعامل، عندما قال لنا : " كل ما عملتوه لواحد من إخوتى هؤلاء الصغار، فلى عملتوه  " ( متى 25 : 40 ). عندما نرى شخص المسيح فى كل إنسان، لن نستطيع أن نتعامل معه إلا بالحب والعطاء والتضحية، مثلما صنع هو معنا. ومن يختبر ذلك يعرف كم هو مصدر فرح لا مثيل له، كما أعلن بولس الرسول : " العطاء أكثرُ غبطة من الأخذ " (أعمال 20: 35) .

 

3- إفرحوا دائما فى الرب، وأقول لكم أيضا إفرحوا ( فيلبى 4 : 4 )

 

ويناشدنا القديس بولس الرسول قائلا : " إفرحوا دائما فى الرب، وأقول أيضا إفرحوا ". نعم، إفرحوا فى الرب. هذه هى دعوة عيد الميلاد لنا فى هذا المساء. هذا ما بشـّر به الملائكة، رغم كل ظروف التى عاشتها العائلة المقدّسة فى هذا الميلاد العجيب. الفرح رغم البُعد عن الدار والجار، ورغم انغلاق جميع الأبواب أمام هؤلاء المسافرين الغرباء. الفرح رغم فقر المغارة ومِذود البقر، ورغم انشغال سائر الناس بشئونهم الخاصة ولا مبالاتهم بهذه الأسرة العابرة. والفرح رغم عداوة القوّة الغاشمة، فها هو هيرودس يريد أن يعرف أين يوجد المولود ملك اليهود ليقضى عليه. وعندما لم يرجع إليه المجوس ليخبروه بموضعه، أرسل جنوده فقتلوا كل أطفال بيت لحم وجـِوارها، من ابن سنتين فما دون ( متى2 : 16 ) .

 

تعمل الكنيسة الكاثوليكية على أن يشعَّ الفرح الروحى والقلبى فى جميع النفوس، وتجنـّد كل طاقاتها من أجل ذلك. هكذا مثلا فى شهر أكتوبر الماضى، انعقد مجمع الأساقفة من أجل أفريقيا، شارك فيه أكثر من ثلاثمائة من كرادلة وبطاركة وأساقفة وكهنة وراهبات ومؤمنين علمانيين من كل بلاد أفريقيا، ومن ممثلين من باقى بلاد العالم. وكان موضوعه " الكنيسة فى خدمة المصالحة والعدالة والسلام ". واشترك فيه ستة من المطارنة الكاثوليك بمصر وثلاثة مصريين آخرين عن الكهنة والراهبات والعلمانيين … وتكرّس الكنيسة الكاثوليكية سنة كاملة للكهنة، ليتجدّدوا فى التقوى والتضحية والمحبة، فيصيروا صانعى سلام وفرح.

 

وتسعى الكنيسة بهذه المبادرات وأمثالها إلى أن تزرع فى القلوب وفى المجتمع، القِيم التى تحقـّق السلام والعدالة والمحبة، وهى المناخ الضرورى لحياة الفرح . ولا تتردّد فى شجب ما يعكـّر السلام والمودّة. فمثلا، فى اليوم التالى مباشرة لنتيجة الاستفتاء السويسرى بمنع بناء المآذن، أعلن الفاتيكان استنكاره لهذا الموقف، كما جاء بجريدة الأهرام. لأن الكنيسة الكاثوليكية اختبرت فى أماكن كثيرة فى العالم ما يسببه الحرمان من أماكن ورموز الصلاة من غـَبن وألم، ولا تريد أن يعانى منه أى شخص أو جماعة. وإنى أضم صوتى وصوت الكنيسة الكاثوليكية المصرية إلى صوت قداسة البابا، مستنكرا إثارة الفرقة بين الأديان والشعوب .

 

فلنبتهل إلى أمنا العذراء مريم، التى أنشدت " فلتبتهج روحى بالله مخلـّصى" (لوقا 1 : 47)، وعاشت ميلاد ابنها يسوع فى أصعب الظروف وأقساها، وهى ممتلئة بالفرح الإلهى، لأنها أعطت لنا المسيح المخلـّص، أن تعلـّمنا أن نفرح كل حين فى الرب. ونحن نفرح اليوم وكل يوم، لأن " الكلمة الذى كان فى البدء " صار واحدا منا حباً بنا. ووعدنا أن يبقى معنا " إلى انقضاء الدهر " ( متى 28 : 20 ). ففى كل مرة نلاقى يسوع، فى شخصه وفى شخص إخوتنا، يولد الفرح الإلهى فى قلبنا. فى ليلة عيد الميلاد هذه، نرفع تسبيحنا وحمدنا لله ولكلمته المتجسد، سبب وينبوع فرحنا .

 

 ونريد أن نقدّم شكرنا الجزيل لرئيسنا المحبوب السيد محمد حسنى مبارك، من أجل كل ما يبذله من جهد فى الداخل والخارج لتحقيق السلام والوحدة والرفاهية. ونلتمس من المولى سبحانه وتعالى أن يحفظه لنا قائدا للوطن، وأن يحمى قواتنا المسلحة، حرّاس بلدنا العزيز، وأن يبارك ويوفـّق جميع المسئولين الذين يبنون أجيالنا. حفظ الله مصر وشعب مصر، أرض السلام والمحبة .

 

" والمجدلله فى الأعالى، وعلى الأرض السلام، وللناس الفرح والمسرة. "