الكاهن مرشد روحي

بقلم المطران عصام درويش

غرين آيكر، استراليا، الخميس 17 ديسمبر 2009 (zenit.org)

جرت العادة في الرهبانية المخلصية كما في باقي الرهبنات أن يقوم الراهب المزمع أن يرتسم كاهنا برياضة روحية يرافقه فيها مرشده الروحي أو أحد الآباء الشيوخ يقدم له النصح ويوجهه ويصلي معه. قبل رسامتي كاهنا دعاني مرشدي لخلوة لعدة أيام للتأمل والصلاة والتحضير للرسامة، لم تكن كلماته خلال الرياضة الروحية كثيرة لكني كنت أعلم بأن صلواته كانت أكثر نفعا لي. كان يصغي إلى أحلامي ومقاصدي ومشاريعي ومن وقت إلى آخر يلفت انتباهي إلى أمور مهمة في الحياة الكهنوتية، فتارة كان يصوب فكرة رددتها على مسامعه وتارة أخرى يبث فيّ حماسا مليئا بالرجاء. هذا الأب المرشد ألهب قلبي شوقا للساعة التي أركع فيها أمام الهيكل ألتمس بوضع الأيدي نعمة الروح القدس.

خلال السنوات الطويلة التي ترددت فيها إلى مرشدي اختبرت كم كانت مرافقته لي ضرورية لحياتي الكهنوتية فقد كان من الصعب أن أسير وحدي في طريق الكهنوت وأكتشف إرادة الله في حياتي. تعلمت تدريجا أن أثق به وأتكلم معه بصدق وبساطة عن حياتي ومشاعري وصداقاتي وعن فشلي ونجاحي، فكان بدوره يساعدني في التقدم في علاقاتي مع الله ومع الآخرين. لم يحدثني في البداية عن دعوتي بل تركني أتلمسها وأكتشفها، ساعدني لأفهم نفسي وأتخلص من العراقيل الكثيرة التي كانت تعيق عمل الروح القدس فيّ. علمني أيضا وبصمت أن أكون أولا إنسانا يشعر مع الآخرين، يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم، وأن أقبل ذاتي ومن ثمّ أقبل الآخرين وأحبهم، ثم ساعدني لأميز دعوتي وأتخذ القرار المناسب.

بعد هذه الخبرة الجميلة كان من الطبيعي أن أعتبر بأن كل كاهن هو مرشد، وبالتالي عليه أن يجذبهم ويدلهم إلى الطريق التي توصلهم إلى الله، لا بل دعوته هي أن يكون الطريق نفسه الذي يسير عليه الناس ليلتقوا المسيح القائم من بين الأموات. وما من ريب في أن بولس الرسول يلمح مرارا إلى هذا الدور، فهو يولي الذين "ولدهم"[1] أو "دربهم" اهتماما كبيرا ويجد نفسه معنيا بخلاصهم وبهذا هو مثال الكاهن "أنتم الذينَ أتمخضُ بهم مرةً أخرى حتى يُصوَّرَ فيهم المسيح"[2] فالرسول لم يتوقف عند تحولهم إلى الإيمان بيسوع المسيح الحي، بل داوم السهر عليهم بمثابة أب لهم ولم يكتفي بتبشيرهم بكلمة الله بل رافق نموهم الروحي وحمل همومهم وأتعابهم "فأيُّ إنسانٍ كان ضعيفا فما أنا معَه بضعيف؟ وأيُّ إنسانٍ زَلَّت قَدَمُه فلا أحتَرِقُ أنا بِالنَّار"[3].

المرشد أيضا مثال حيّ يُحتذى به فكهنوته لا يقتصر على التوجيه وشرح الكتاب المقدس وإعطاء المعلومات بل عليه أن يشرك الناس، بمثله الصالح وبتصرفاته ومسلكه، في علاقة صداقة شخصية مع الله. إن الآباء القديسين شكّلوا بسيرتهم نموذجا وافيا عن حياة الكاهن المرشد وهي تشير بوضوح إلى طابع الأبوة الروحية التي عليه أن يتمتع بها. المرشد إذن لا يكتفي بإعطاء النصح فحسب، بل يُقدم حياته نموذجا كما ناشد بولس الرسول أهل كورنثوس "أناشدكم أن تقتدوا بي"[4] والاقتداء يشمل مرافق الحياة كلها، الصلاة، مخاطبة الآخرين، طريقة اللبس والمشي والأكل وطبيعي جدا أن يشمل أيضا  الفضائل الروحية التي يتمتع بها المرشد.

يصف القديس يوحنا السلمي المرشد الروحي بأنه "معلم يداوي بكلمته"، يداوي جراح أبنائه وبناته بحضوره أولا ومن ثمّ بالنصح الذي يقدمه لهم لكي يصالحهم مع الله، كما أنه يساعدهم بأن يلجوا إلى حضرة الله بثقة وشجاعة. تبعا لذلك على الكاهن أن يكون أولا صديق الله ومتمتعا بخبرة شخصية مع الله لأن الناس ينظرون إليه بأنه أيقونة المسيح الحيّ، يريدونه على مثال يسوع المسيح، الكاهن الأعظم، بلا عيب ومنزها عن الخطيئة ومختلفا عن سائر البشر. المرشد أيضا يحمل بصلاته وقلبه هموم وأثقال المؤمنين والمؤمنات، إنه بحسب القديس بولس "حامل الأثقال"، "ليحمل بعضُكم أثقالَ بعضٍ وبذلك تُتِمُّونَ العملَ بشريعةِ المسيح"[5]. وهو أيضا "حامل الخروف" فكونه كاهنا، صار راعيا يحمل مثل المسيح، الخروف الضال على منكبيه ويبذل حياته من أجل كل القطيع. إن الراعي يحب خرافه ويعرفهم ويجعلهم يعرفوه، لذا ليس بمقدور أحد أن يكون كاهنا ومرشدا وأبا روحيا ما لم يحب رعيته ويضحي من أجل كل واحد من أفرادها ويكون مثلا لهم.

ليس بمقدور أحد أن يكون مرشدا وأبا روحيا ما لم يكن ممتلئا من الروح القدس، هذه الموهبة الخاصة ينالها الكاهن عند رسامته وهي تخوله قيادة شعب الله إلى يسوع المسيح، فللمرشد الروحي دور واحد وهو أن يعزز بتواضعه وطاعته حضور الروح القدس في قلب المسترشد فيتمكن هذا من المحافظة على دينامية قوية تقوده إلى عنصرة دائمة ويصير قادرا على حمل الروح القدس والاحتفاظ به رغم السلوك السيئ الذي ينتهجه أحيانا. إن الروح القدس يُرشد المرشد والمسترشد على السواء فيتمكن الاثنان من الثبات في المسيح "إذا ثَبتم في كلامي، صِرتُم حقا تلاميذي، تعرفون الحق، والحق يُحررِّكُم"[6].

جاء بعض اليونانيين وسألوا فيلبس قائلين "سيدي نريد أن نرى يسوع"[7] السؤال ذاته يتكرر اليوم فالناس يريدون منا نحن الكهنة أن نريهم المخلص ونرشدهم إليه، إنهم يطلبونه ويريدون من أعماق قلبهم أن يشعروا بحضوره والشعور هنا هو أكثر من إيمان وأكثر من ممارسة، إنه حضور شخصي في حياة المسيح وتوق لشركة روحية عميقة معه.

يا أخوتي الكهنة أطلب منكم أن تمتلئوا من الروح القدس لتستطيعوا قيادة الشعب إلى الله لأنه يتعذر    علينا بدونه، أن نعيش مع المسيح وفي المسيح، وبدونه لن نتمكن أبدا من أن نكون آباء ومرشدين ووسطاء لأخوتنا البشر أمام عرش الله. لقد أنعم الله عليكم واختاركم لتكونوا خلفاء رسله فكونوا على قدر هذه المسؤولية وليتمجد الله في كل ما تفعلونه. آمين

 

[1] 1كور 4/15

[2] غلا 4/19

[3] 2كور 11/29

[4] 1كور 4/16

[5] غلا 6/2

[6] يو 8/31

[7] يو 12/21