من وحي زمن المجيء

(النص الكامل)

بقلم روبير شعيب

روما، الخميس 24 ديسمبر 2009 (Zenit.org). – الإنسان هو كائن زمني، واعتلان الله في حياته لا يمكن أن يكون مناسبًا إذا لم يأخذ بعين الاعتبار هذا البعد الجوهري والوجودي في كينونة الإنسان، لهذا يشدد البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة "الإيمان والعقل" (Fides et Ratio) على أن "الوحي الإلهي يندرج في الزمان وفي التاريخ" مذكرًا أن تجسّدُ يسوع المسيح صار "في ملء الزمان" (غل 4، 4). ويؤكد البابا على أنه على مسافة ألفي سنة من هذا الحدث، "أشعر بحاجة العودة إلى التأكيد بقوة أن الزمن في المسيحيّة له أهمية أساسية. ففـي الزمن يظهر كل عمل الخلق والخلاص، ويتجلى لنا خصوصاً أننا، بواسطة تجسّد ابن الله، نعيش ونستبق، منذ الآن، ما سوف يكون كمال الزمان (را عب 1، 2).

نظرة وجودية إلى العلاقة بين الإنسان والزمان: الإنسان كائن للموت

قبل أن ننظر نظرة مسيحية إلى الزمان، نتوقف لبرهة للنظر إلى الطريقة التي عالج فيها أحد كبار الفلاسفة في القرن العشرين، الفيلسوف الألماني مارتن هايديغر (Martin Heidegger) الذي توقف، بشكل خاص في كتابه الشهير "الكائن والزمان" ( Sein und Seit)، على إعادة دراسة أنطولوجية الكائن مستعرضًا هذا الأخير على ضوء الزمنية.

نقطة انطلاق هايديغر هي الإنسان الذي يُدرك مفهوميًا كـ "كائن-هنا، موجود-هنا" (Da-sein). كينونة الإنسان ليست كينونة نهائية، إذا جاز التعبير، بل هي إمكانية كينونة. بتعبير أبسط: الإنسان هو مشروع لم يتحقق بعد بالكلية، بل هو في مسيرة تحقيق مستمرة تدوم ردح وجوده بأسره. هذا ويشكل الزمان إطار-الممكن الذي يفسح للإنسان مجال تحقيق كينونته. "الزمنية" تفسح المجال أمام الإنسان لكي يتصل بإمكانياته ويوحد وجوده، وهذا الأمر غير ممكن من دون ظاهرة المستقبل، التي من خلالها يعود الدازين إلى نفسه.

المستقبل – بحسب هايديغر – هو ظاهرة الزمن الأساسية" (M. Heidegger, Il concetto di tempo, Milano 1998, 40). يشرح الباحث الإيطالي كارلو سيني (Carlo Sini) مفهوم هايديغر هذا فيقول: "الزمان موجود لأن هناك أمور يجب أن نفعلها". الزمان ليس واقعًا مجردًا بحد ذاته، بل هو محسوس في وجدان الكائن البشري، ولذا يقاس الزمان انطلاقًا من حالات الوجدان. هذا ما يشرح لنا كيف أن هناك دقائق صعبة يبدو وكأنها تدوم دهورًا، وكيف أن هناك لحظات سعادة تمر مرور الطير. بهذا لا نعني أن الزمان هو وجداني وحسب، ولكن جل ما نبغي التصريح به هو أن حدس الزمان في وجداننا يجعلنا ندركه بشكل يتجاوز محدودية قياس الزمان الاصطلاحي.

بالعودة إلى تحليل هايديغر، يصف الفيلسوف الإنسان بأنه كائن-نحو-الموت أو كائن-للموت (Sein-zum-Tode). فالمستقبل الأكيد الذي يخبره بالضرورة كل إنسان هو الموت، وتوحيد الكائن، بالنسبة للفيلسوف الوجودي، يتم من خلال الإقرار بواقع الموت واعتبار الوجود من هذا المنطلق. لا يخفى عن القارئ كيف أن هذه النظرة تعتبر بمصداقية واقع الإنسان المجرد، الإنسان بمعزل عن الله وعما يتجاوز الطبيعة.

العلاقة بين الإنسان والزمان: النظرة المسيحية

إننا وإذ نشارك هايديغر مفهومه بأن المستقبل هو ظاهرة الزمان الأساسية (راجع القسم الأول من المقالة)، لا نشاركه مفهومه للإنسان ككائن للموت، ككائن يسير نحو الموت كمصير حتمي ونهائي. الموت بالنسبة لنا هو المحطة ما قبل الأخيرة، وهناك نقطة أخيرة وأخيرية تقدم لنا وجهة لمسيرتنا، سنسعى لاستعراضها الآن.

يميز اللاهوتي اليسوعي كارل راهنر بين وجهين من وجوه المستقبل. فكلمة "مستقبل" تحمل في طياتها بشكل عام ما يحققه الإنسان. هذا المستقبل هو بكلمات راهنر: "ما نتوقعه اليوم ونحققه الغد، مطبقين مشاريع محددة ومستعملين الوسائل المناسبة التي تسمح لنا – والمسألة هي فقط مسألة وقت – أن نترجم المشاريع في وقائع" (K. Rahner, «Il concetto di futuro: considerazioni frammentarie di un teologo», in Id., Nuovi saggi, III, Roma 1969, 619-626). هذا المستقبل يسميه راهنر، "المستقبل المكنون الأرضي" (innerweltliche)، إنه واقع لم يدخل بعد في وقائع عالمنا، ولكنه سيحدث عاجلاً أم آجلاً، ولدى حدوثه سيضحي واقعًا من وقائع هذا التاريخ. إنه حدث حديث طالما هو حاضر، ولكن مع الوقت يضحي واقعًا ماضيًا يطويه الزمان ويتجاوزه، إنه مستقبل يمضي. هذا المستقبل هو إذًا مؤقت، وليس نهائيًا بشكل كامل، إنه "ما قبل النهائي".

ولكن في إطار هذا المستقبل المكنون الأرضي، يختبر الإنسان اللقاء بحرية تتجاوز القدرية الزمنية، حرية تمكّن الإنسان أن ينفتح في صلب هذا "المستقبل المكنون الأرضي" على مستقبل مختلف، على مستقبل يتجاوز مشاريعه وحساباته، على ما هو مختلف عن بالكلية عن ذاته، على الآخر. في أفق مستقبلنا، ذلك المستقبل الذي نصنعه نحن، تظهر علامات مستقبل آخر. هذا المستقبل الذي لا نستبقه في مخططاتنا وبرامجنا، هو الجدة الحقة (novum)، وبالتالي هو المستقبل بامتياز لأنه ما يجب أن يحدث، إنه "المستقبل المطلق". فبما أنه ليس مستقبلاً ثمرة الإبداع البشري، هو مستقبل يبقى ما وراء كل لحظات الزمان البشري، وإذ نقارن لحظات زمننا بهذا المستقبل نكتشف أنها كلها نسبية. فهذا المستقبل الذي يدخل تاريخنا هو الأخيري الحق (eschaton – novissimus)، المحور الذي يجمع كل لحظات تاريخنا حول المعنى الذي ينبثق منه جاذبًا زمننا ما وراء ذاته ومحققًا توقه الباطن.

ويقوم اللاهوتي البروتستانتي الألماني يورغن مولتمان (Jurgen Moltmann) بتمييز مماثل فيفصل بين مستقبل يسميه " futurum"، والذي يعبر عن واقع الحدوث الذي تتضمنه كلمة " fieri" اللاتينية. أما ما يطابق المستقبل المطلق عند راهنر فيسميه مولتمان " ad-ventus" الذي يعني: الوصول إلى، الوصول من، أو ببساطة الآتي (من فعل " advenio" اللاتيني الذي يعني: أتى إلى، وصل إلى). المستقبل البسيط والأرضي (futurum) هو تقدمنا الزمني، بينما الآتي (ad-ventus) هو ما\\من يأتي إلينا، يأتي إلى لقائنا.

 

المستقبل المسيحي: شخص المسيح

وإذا ما نظرنا بالعمق إلى المفهوم المسيحي للآتي (ad-ventus) لأدركنا أن الآتي ليس حدثًا بل شخصًا. يقول راهنر: "المستقبل المطلق هو الله بالذات، هو فعل مشاركة الذات الكلية الذي قام به من تلقاء ذاته". مشاركة الذات هذه يتمها الله في يسوع المسيح، في حدث يدخل التاريخ لا كحلقة زمنية بل كحدث يلخص التاريخ ويجمع تحت رأس واحد هو المسيح كل شيء ما في السموات وما في الأرض (anakephalaiósastai tà pánta) (راجع أف 1، 10). عبر تجسد المسيح يدخل الله في تاريخنا، ولكن من خلال انحناء المسيح، تدخل البشرية في أبدية حب الله.

هذا المستقبل الآتي (ad-ventus)  يقوم بين مجيئين يشكلان زمن الكنيسة، مجيء المسيح الأول في تواضع بشريتنا، ومجيئه الثاني في مجد ألوهيته. أمام هذه النظرة إلى الزمان، يتخطى مفهوم المسيحية للإنسان تعبير هايديغر  (كائن-نحو-الموت) لتجعله كائن-نحو-المسيح،  كائنًا للمسيح. رباط الإنسان بالزمان يمر من خلال العلاقة. في علاقتنا مع الآخر يستمد الزمان معناه، ونبدأ بقياس الزمان لا كواقع وقتي نقرأه من وجهة عقارب الساعة بل كواقع شخصاني نقرأه في وجه ونظرة الآخر. بكلمة يضحي الإنسان كائن-الانتظار.

تشابيه انتظار مجيء المسيح

بعد أن رأينا كيف أن الإنسان هو كائن الانتظار، وأنه، في وجه نظر المسيحية، كائن يعيش في انتظار "الآتي" (Adventus)، المسيح يسوع. نتوقف الآن على استعراض بعض التشابيه التي تساعدنا على فهم معنى وكيفية الانتظار.

انتظار الترقب

يقدم الكاردينال جون هنري نيومان في خطبة رعائية بعض الأمثلة التي تشرح معاني الانتظار فيقول: "أتدري ما انتظار صديق، انتظار مجيئه، وأنت تراه بطيئًا؟ أتدري ما الجلوس إلى إنسان مزعج، وأنت تشتهي أن يذهب الوقت، وتحين الساعة، وتتحرر من رفقته؟ أتدري ما القلق من أمر يحدث أم لا، أو من انتظار أمر هام، يخفق له قلبك حين تذكره، وأول ما تفتح عينيك تفكر فيه؟ أتدري ما هو أن يكون لك في بعيد صديق، تحوم على أخباره، تتساءل يومًا بعد يوم ما يفعل في مقل هذه اللحظة، وهل هو في صحة جيدة تامة؟ أتدري ما العيش في سبيل عزيز تتبع عيناك عينيه، تقرأ أساريره، تلحظ في محياه أدق تغيّر، يسبق حسك رغباته، تبتسم لابتسامته، وتحزن لحزنه، ترتعش لانزعاجه، وتفرح بنجاحه؟" (الخطب الرعائية، 22)

من خلال هذه الأحاسيس والمواقف المختلفة يسعى الكاردينال نيومان إلى تبيان أبعاد انتظار المسيح. فانتظار المسيح يشابه لهفة انتظار الصديق، وحس ضيق هذه الحياة بالمقارنة مع ما ينبض في قلوبنا من رجاء، وأمل الفرج والتغيير الذي يجتاح فكرنا ويحتكره. إنه انتظار توق ورجاء يتحدث عنه الكتاب المقدس بالقول: "انتظار نفسي للرب أشد من انتظار الرقباء للصبح" (مز 129، 6). إنه انتظار الخلاص الذي يعبر عنه أشعيا باسم شعب العهد القديم بأسره: "أقطري أيتها السماوات من فوق ولتمطر الغيوم الصديق" (أش 45، 8)، وأيضًا: "كما يرفع العبيد عيونهم إلى يد سادتهم وكما ترفع الأمة عينيها إلى يد سيدتها كذلك عيوننا إلى الرب إلهنا حتى يتحنن علينا" (مز 123، 2).

مشاعر الانتظار هذه هي مشاعر صالحة وممدوحة، وتبين لنا عن حاجتنا إلى الخلاص، ويمكننا تسمية هذا الانتظار "انتظار الترقب" لا بالمعنى السيء كانتظار سلبي، بل بمعنى أنه انتظار يتوقع كل شيء من الآخر. إلى جانب هذا الانتظار، هناك بعد آخر في انتظار المسيح.

الانتظار الفاعل والخلاق

إلى جانب انتظار الترقب الذي هو تعبير عن ثقة مطلقة في مجيء الرب وفي تدخله، هناك انتظار من نوع آخر يشكل تكملة للنوع السابق. نستعرض في ما يلي مثلين من حياتنا البشرية يبينان لنا خصائص هذا الانتظار: انتظار الحبيب لحبيبته، وانتظار الأهل لمولد طفل.

انتظار الحبيب لحبيبته

إذا ما فكرنا بلقاء الأحبة، استنتجنا بعض العناصر التي تساعدنا على فهم الانتظار الخلاق. فلقاء المحبين الحقيقيين ليس أبدًا لقاءًا مبتذلاً أو عاديًا. دون الوقوع في رومانسية مثالية ومبتذلة، يمكننا أن نلاحظ، عن خبرة أو عن تبصر، أن المحب يزداد شوقه تدريجيًا مع اقتراب موعد اللقاء، وتتضاعف قدرته الخلاقة، فيجده يعد الهدايا ويهيئ المفاجئات، يستعد قلبيًا ويفكر بمختلف المواضيع التي سيتقاسمها مع الحبيبة، إنه انتظار يعد مكانًا للآخر فيضحي حاضرًا حتى لو في غيابه.

انتظار مولد طفل

إن من خبر انتظار مولد طفل في عائلته، وخصوصًا من اختبر انتظار مولد ابنه أو ابنته بالذات، يعرف جيدًا أن الانتظار في هذا الإطار ليس مجرد ترقب وتوق، الانتظار هو إعداد واستعداد في آن.

هو إعداد: أي تهيئة للبيئة التي ستستقبل الطفل، هو شراء المستلزمات التي سيحتاجها الطفل، من سرير، وعربة أطفال، وألبسة، وأغطية، وما إلى ذلك من اللوازم. وهو تطهير المحيط من الجراثيم حفاظًا على صحة الطفل، والاستعداد لتدفئة البيت بشكل يتناسب مع حاجات الطفل.

وهو استعداد: الأبوة والأمومة ليستا أمرين يحدثان في لمحة بصر بحيث ينتقل الرجل والمرأة حال ولادة الطفل إلى حالة الأبوة والأمومة. فترة الحمل، كزمن انتظار، هي فترة مؤاتية للاستعداد وللتحضير، للنمو والنضوج في الأمومة والأبوة، اللتين تشكلان مسيرة تدوم مدى الحياة. بهذا المعنى يشكل انتظار الولادة عاملاً خلاقًا، يحول جوهر الوالدين ويعدهما موسعًا قلبيهما، ومخيلتيهما وفردانيتها لقبول آخر في وجودهما وفي قلب الثنائي. هذا الاستعداد هو من أهم الهدايا التي يستطيع الوالدان أن يقدماها للوليد حال ولادته.

بالشكل عينه يمكننا أن نشبه الاستعداد الفاعل والخلاق في فترة "الانتظار" بالاستعداد لمجيء الرب. إن الكنيسة تعلمنا من خلال ليتورجيتها هذا الاستعداد، فتكرس كل كنيسة بحسب طقسها زمن استعداد للميلاد يتضمن التأمل بمراحل سر الخلاص، ويتخلل هذا الزمن أوقات توبة ورجوع إلى الذات، واستعداد. كما وتقوم بعض الكنائس بتكريس زمن صوم وتوبة لإعداد طريق الرب الآتي.

خاتمة

انطلقت هذه المقالة من نظرة فلسفية للإنسان أمام ظاهرة الزمان سمحت لنا أن نقوم بمقارنة بين نظرة إلى الإنسان والزمن بمعزل عن الله ونظرة إلى الإنسان والزمن مع دخول الله في تاريخنا. ففي الأولى الإنسان هو كائن-نحو-الموت، في الثانية الإنسان هو كائن-نحو-المسيح الذي هو الطريق والحق والحياة. المسيح هو فسحة الرجاء في ضيق هذا التاريخ، وانتظاره هو شوق الأجيال. هذا الشوق ليس فقط موقفًا سلبيًا توقعيًا بل هو خبرة فعالة وخلاقة.

المسيح الآتي هو في الآن نفسه المسيح الحاضر، المسيح الذي يؤجج في قلوبنا شوق الانتظار بفضل لقاء تم ويستمر في الحدوث والتمام. لقاؤنا به في دروب حياتنا لا يستهلك جدة اللقاء، والاحتفال بعيد الميلاد ما هو إلا محطة على دروب مجيء الرب الذي نتوق إلى لقائه وإلى الدخول في حميمية حياته الإلهية بشكل كامل في ملكوت الآب. لسان حال الكنيسة هو صوت ذلك الصارخ في البرية: "أعدوا طريق الرب، اجعلوا سبله في الصحراء مستقيمة". فسر الزمان هو اللقاء بالأزلي والولوج في أبدية حبه، ولذا فالروح والكنيسة يقولان: "آمين! ماراناتا! تعال أيها الرب يسوع" (راجع رؤ 22، 20).

* * *

– روبير شعيب يعلم "الكريستولوجيا" و "مدخل إلى الفكر اللاهوتي الآبائي" في مدرسة الرسالة في فلورنسا إيطاليا، ويقوم حاليًا بكتابة أطروحة دكتورا في اللاهوت الأساسي في جامعة الغريغوريانا الحبرية في روما حول موضوع "حواس ومعنى الإيمان"، ويواظب في إيطاليا ولبنان على إلقاء محاضرات ذات طابع بيبلي، روحي ثقافي ولاهوتي.