عظة البابا بمناسبة عيد العذراء مريم

الفاتيكان، الجمعة 1 يناير 2010 (zenit.org).

ننشر في ما يلي عظة البابا التي ألقاها اليوم في الفاتيكان بمناسبة عيد العذراء مريم الكلية القداسة واليوم العالمي للسلام.

الإخوة الموقرون،

السيدات والسادة الكرام،

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

في اليوم الأول من السنة الجديدة يغمرنا فرح وغبطة الاحتفال لوالدة الإله الكلية القداسة، وفي الوقت عينه باليوم العالمي للسلام. في الحدثين نحتفل بالمسيح، ابن الله، الذي ولد من مريم العذراء وسلامنا الحقيقي! إليكم جميعاً أنتم الحاضرين هنا: ممثلين عن شعوب العالم، والكنيسة الجامعة، الكهنة والمؤمنين، والى جميع المشتركين معنا عبر الإذاعة والتلفزيون، أردد كلمة البركة القديمة: "ليرفع الرب وجهه نحوكم ويمنحكم السلام" (راجع سفر العدد 6: 26). اليوم أود أن اتأمل بموضوع الوجه والوجوه، على ضوء كلمة الله – وجه الله ووجوه البشر – وهو موضوع يقدم لنا مفتاحاً أساسياً لمسألة السلام في العالم. لقد استمعنا في القراءة الأولى – من سفر العدد – وفي المزمور، الى بعض عبارات التي تتحدث عن وجه الله: "ليضىء الرب بوجهه عليك ويرحمك" (عدد 6: 25)؛ "ليرحمنا الله وليباركنا، ويضىء بوجهه علينا، لكي نعرف في الأرض طريقك وفي جميع الأمم خلاصك" (مز 66.67: 2-3). الوجه هو بامتياز التعبير الأسمى عن الشخص، وهو ما يجعل الإنسان معروفاً وعليه تظهر ملامح المشاعر والأفكار ونوايا القلب. الله، بطبيعته، محجوب، غير أن الكتاب المقدس يعطيه هذه الصورة. إظهار الوجه هو تعبير عن صلاحه بينما حجب الوجه يعني الغضب.

إن سفر الخروج يقول بأن "الرب كان يتكلم الى موسى وجهاً لوجه، كما يحدث المرء صديقه" (خر 33: 11)، والرب يعد موسى قربه بهذه العبارة الفريدة جدا: "وجهي يسير معكم وأنا أريحكم" (خر 33: 14). المزامير تتحدث عن المؤمنين كمن يبحث عن وجه الله (راجع مز 26.27: 8 ؛ 104.105: 4)، وبأنهم في عبادتهم له يودون رؤيته (راجع مز 42: 3)، ويقولون لنا لأن "المستقيمين" "يعاينونه" (مز 10.11: 7). يمكننا قراءة كل الرواية البيبلية ككشف تدريجي عن وجه الله، لنصل الى الظهور التام في يسوع المسيح. "عندما تم ملء الأزمنة – يذكرنا اليوم القديس بولس – أرسل الله ابنه" (غل 4: 4). ويضيف: "مولوداً من عذراءو مولوداً تحت الناموس. لقد اتخذ وجه الله وجهاً بشراً، مظهراً ذاته في ابن العذراء مريم التي نكرمها ونسميها "أم الله". فهي التي حفظت في قلبها سر الأمومة الإلهية، كانت أول من رأى وجه الله الذي صار بشراً في ثمرة أخشائها. للأم علاقة مميزة وفريدة وحصرية نوعاً ما بالمولود الجديد. أول وجه يراه المولود هو وجه الأم، وهذه النظرة هي أساسية لعلاقته مع الحياة، مع ذاته، مع الآخرين، مع الله؛ إنها اساسية لكي يكون "ابن السلام" (لو 10: 6).

من بين أنواع أيقونات مريم في التقليد البيزنطي، هناك أيقونة "سيدة الرقة"، التي تظهر الطفل يسوع وخده على خد أمه. الطفل ينظر الى الأم وهي تنظر إلينا، كأني بها تطلب رقة الله المتجسدة في الابن الذي تحمله بين ذراعيها، لمن يتأملها. في هذه الأيقونة المريمية يمكننا أن نتأمل بشيء من الله ذاته: علامة المحبة التي دفعته ليهب ابنه الوحيد (يو 3: 16). ولكن هذه الأيقونة تظهر لنا أيضاً في مريم، وجه الكنيسة، الذي يعكس نور المسيح علينا وعلى العالم كله، الكنيسة التي من خلالها تصل البشرى السارة الى كل إنسان: "لست عبداً بل ابناً" (غل 4: 7)، كما يقول القديس بولس.

أيها الإخوة في الأسقفية وفي الكهنوت، السادة السفراء، أيها الأصدقاء الأعزاء! التأمل بسر وجه الله والإنسان هو طريق متميزة تقود الى السلام. هذه الطريق تبدأ بنظرة احترام، تعترف في وجه الآخر بأنه شخص، بغض النظر عن لون بشرته، جنسيته، لغته ودينه. ولكن من غير الله يستطيع أن يضمن "عمق" وجه الانسان؟ في الواقع، فقط إذا كان الله في قلبنا يمكننا أن نرى في الآخر، ليس وسيلة بل غاية، وليس منافساً أو عدواً، بل ذواتنا، ونغور في عمق سر الكائن البشري اللامتناهي.

إن رؤيتنا للعالم وبنوع خاص لأترابنا، مرتبطة في الأساس بحضور روح الله في داخلنا. من كان قلبه فارغاً لا يرى سوى صوراً مسطحة لا عمق فيها. وبالمقابل، كلما سكن الله فينا، كلما أصبحنا واعين لحضوره في كل ما يحيط بنا: في جميع الخلائق، وبخاصة في البشر على الرغم من أنه يصعب في بعض الأحيان أن نرى ظهور الله على الوجه البشري المتسم بقساوة الحياة والشر. وبالتالي لكي نستطيع أن نقدر إخوتنا وأن نحترم بعضنا البعض، لا بد لنا من العودة الى وجه الآب، الذي يحبنا جميعاً على الرغم من محدوديتنا واخطائنا. منذ الصغر، لا بد من التربية على احترام الآخر، حتى عندما يكون مختلفاً عنا. لقد بات طبيعياً اليوم أن يكون في القاعات المدرسية طلاب من مختلف الجنسيات، ووجوههم هي نبوءة البشرية التي نحن مدعوون لتكوينها: عائلة عائلات وشعوب. كلما كان الطفال صغاراً وكلما أثاروا في داخلنا الرقة والفرح ببراءة وأخوة واضحتين: على الرغم من اختلافهم، يبكون ويضحكون على النحو ذاته، ولديهم نفس الحاجات، ويتواصلون بعفوية، ويلعبون معاً…

إن وجوه الأطفال هي انعكاس لنظرة الله للعالم. فلماذا إذن تطفأ ابتساماتهم؟ لماذا تسمَّم قلوبهم؟ للأسف، إن أيقونة والدة أم الله، سيدة الرقة، تجد نقيضها في الصور المؤلمة لكثير من الامهات والأطفال ضحايا الحروب والعنف: نازحين، لاجئين، مهجرين. وجوه جوّفها الجوع والمرض، وجوه شوّهها الالم واليأس. وجوه الصغار الأبرياء هي صرخة صامتة لمسؤوليتنا: أمام حالتهم المفجعة، تسقط كل مبررات الحرب والعنف. علينا بكل بساطة أن نرتد الى مشاريع سلمية، أن ننزع السلاح على انواعه، ونعمل جميعاً على بناء عالم يليق بالإنسان. إن رسالتي لليوم العالمي للسلام: "إن أردت بناء السلام، فاحم الخليقة"، تنصب في منظور وجه الله ووجوه البشر. يمكننا في الواقع أن نؤكد أن الانسان قادر على احترام الخلائق بقدر ما يحمل في نفسه معنى الحياة وإلا ينتهي به المطاف يحتقر ذاته ومن حوله، ويفقد احترامه للبيئة التي يعيش فيها، وللخليقة. من يعرف ان يرى في الكون انعكاسات وجه الخالق الخفي، يحمل في داخله محبة كبيرة للخليقة، ويقدر قيمتها الرمزية. ببساطة، إن سفر المزامير غني بالشهادات عن هذه العلاقة بين الإنسان والطبيعة: مع السماء، مع البحر، مع الجبالن مع الهضابن مع الأنهار والحيوانات… "ما اكثر أعمالك أيها الرب ! يقول صاحب المزامير – صنعتها كلها بحكمة، الأرض ممتلئة من خلائقك" (مز 104.103: 24)."الوجه" يدعونا الى التوقف عند ما سميته بـ "الإيكولوجيا البشرية". هناك علاقة وطيدة بين احترام الانسان وحماية الخليقة. لإن الواجبات تجاه البيئة تنبثق عن الواجبات تجاه الشخص البشري في علاقة مع ذاته ومع الآخرين". إذا تدهور الإنسان، تدهورت معه البيئة التي فيها يعيش؛ إذا مالت الطبيعة الى العدمية، فلا بد أن تدفع الثمن. هناك في الواقع حركة متبادلة بين وجه الإنسان و "وجه" البيئة: "إن احترام الإيكولوجيا البشرية في المجتمع، يعود بالفائدة على الإيكولوجيا البيئية (راجع المحبة في الحقيقة، 51). أجدد ندائي للاستثمار في مجال التربية، مع التركيز على مسؤولية إيكولوجية معمقة، ترتكز الى احترام الشخص البشري وحقوقه وواجباته الأساسية. هكذا فقط يمكن العمل في سبيل البيئة أن يتحول حقيقة الى تربية على السلام وبناء السلام.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، في زمن الميلاد نردد مزموراً فيه مثل رائع عن عمل الله في الخليقة والكون. هذا النشيد يبدأ بدعوة شاملة للتشبيح: "رنموا للرب ترنيماً جديداً، رنموا للرب يا جميع سكان الأرض، رنموا للرب، باركوا اسمه (مز 96.96: 1). ومن ثم ينتقل خذا الترنيم الى كل الخليقة: "تفرح السموات والأرض، وليرنم البحر وما فيهن ولتفرح البرية وما فيها ولتهلل أشجار الغابة" (11: 12). إن عيد الإيمان يصبح عيد الإنسان والخليقة: هذا العيد الذي في الميلاد يظهر أيضاً من خلال زينة الأشجار والطرقات والمنازل. كل شيء يزهر لأن الله ظهر بيننا. العذراء مريم تقدم الطفل يسوع لرعاة بيت لحم، الذين يفرحون ويرنمون للرب (لو 2: 20)؛ إن الكنيسة تجدد السر لكل جيل، وتظهر لهم وجه الله، لأن بواسطة بركتها يمكنهم أن السير على طريق السلام.

ترجمة وكالة زينيت العالمية