الفاتيكان ونصرة القضايا العربية العادلة

 

إميل أمين – مصر –عُمان العُمانية

ألقت احتفالات الميلاد التي شهدتها مدينة بيت لحم الفلسطينية الكثير من الضوء على العلاقة بين دولة الفاتيكان وإسرائيل وهي علاقة بلا شك تهم العالمين العربي والإسلامي مدا وجذرا ذلك أن إسرائيل تبقى دوما وأبدا دولة الاحتلال الجاثمة على صدر المقدسات الإسلامية والمسيحية وبخاصة في المدينة المقدسة "القدس"، ومن جهة ثانية تبقى حاضرة الفاتيكان قوة دعم روحي لأتباعها من الكاثوليك حول العام والذين يتجاوز عددهم المليار والمائة والخمسين مليونا وربما أكثر حول العام، الأمر الذي دعا المؤرخ الأمريكي الكبير وول ديورانت لأن يصفها في موسوعته العالمية الخالدة "قصة الحضارة" بأنها أقدم وأهم تنظيم بشري عرفه العالم إذ يتجاوز عمر الكنيسة الكاثوليكية والتي يعبر عنها الفاتيكان نحو ألفي عام.

هذه العلاقة ولا شك قد تعرضت لصنوف من التبديل والتعديل عبر عصور طوال إلى أن وصلت إلى حالتها الراهنة في الأزمنة الأخيرة، وحسنا يفعل العالم العربي إذا توقف أمام مشاهد لأهم المواقع والمواضع التي تشابكت فيها الخيوط وتداخلت الخطوط بين حاضرة الفاتيكان ودولة إسرائيل لاستخلاص العبر ولمعرفة كيفية الاستفادة من الحضور الكاثوليكي حول العام بما يدعم عدالة القضايا العربية والإسلامية عامة والقضية الفلسطينية على نحو التحديد والتخصيص، وهو الأمر الذي سبب لإسرائيل في السنوات الأخيرة إزعاجا بالغا.

كان واضحا ومنذ اللحظة الأولى لطرح فكرة قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين رفض الفاتيكان لهذه الدولة فنجد البابا بيوس العاشر يوجه رسالة عام 1904 إلى تيودور هيرتسل مؤسس الحركة الصهيونية ردا على رسالة سبق أن بعث بها إليه طالبا دعم الفاتيكان في تهجير اليهود إلى فلسطين يخبره فيه بأننا "لا نستطيع أبدا أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية وأننا إن كنا لا نقدر على منع اليهود من التوجه إلى القدس إلا أننا لا يمكن أن نقره أبدا" ويكمل "إنني بصفتي قيما على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك في شكل آخر".

وفي ذلك الوقت أي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت القطيعة غالبة على التفكير تجاه اليهود من قبل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وهو ما يتجلى فيما أشار إليه البابا من أن اليهود لم يعترفوا بالسيد المسيح لذلك لا اعتراف بالشعب اليهودي وقد كان ذلك شكل المشهد الفاتيكاني اليهودي في بدايات القرن المنصرم وهو يغاير تماما صورة العلاقة الرسمية القائمة اليوم.

لم تنس "إسرائيل" ولن تنسى أن الفاتيكان وفي عهد البابا بندكتس الخامس عشر عام 1917 رفض وعد بلفور ورفع شعارًا تاريخيًا "لا لسيادة اليهود على الأراضي المقدسة" وأنه كان وراء تشكيل لجنة التضامن الإسلامي المسيحي عام1920 التي كانت مهمتها مطالبة السلطات البريطانية بإعادة النظر في وعد بلفور، فهل الأمر عند صناع القرار في دولة "إسرائيل" هو التخوف من البابا بندكتس… أيّ بابا بندكتس؟

على انه من أهم الأسئلة التي تطرح اليوم من خلال المراقبين للشأن الفاتيكاني: ماذا عن كاثوليك أمريكا الخاضعين روحيا لسلطة بابا الفاتيكان الروحي؟ ومنطلق السؤال هو أن هؤلاء قوة مؤثرة ولا شك في صناعة القرار الأمريكي المؤثر في الشرق الأوسط وأمريكا هي روما العصر مالئة الدنيا وشاغلة الناس.

المقطوع به أنه قد عرف عن الاتجاهات الكاثوليكية الأمريكية أنها داخل الولايات المتحدة بلورت منذ زمن بعيد رؤيتها في اتجاهين الأول وضع رجال الاكليروس فيه عقائد الدين المنزل التي سلموا بها دون جدال في جانب ووضعوا في القسم الثاني الحقائق السياسية التي اعتقدوا أن الألوهية قد تركتها مفتوحة للمساءلة الحرة في جانب آخر، وبهذا أضحى الكاثوليك في أمريكا أكثر المؤمنين طاعة وأكثر المواطنين استقلالا، وتعلم الكاثوليك كيف يفصلون بشكل كامل بين المجالين الديني والعلماني وكانت الكاثوليكية مقتصرة على المجال الديني بينما كانت الأمريكية مقتصرة على المجال العلماني فكان الكاثوليك الأمريكيون كاثوليكيين رومانيين في الكنيسة وإثنيين في العالم.

ومما لا شك فيه أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عملت جاهدة على أن لا تأخذ الكاثوليكية الأمريكية صف القضايا العربية أو الإسلامية وجلي للعيان المواقف التي دعمت فيها الكاثوليكية الأمريكية القضايا العربية بشكل مشرف فاق بعض المؤسسات الإسلامية العربية، وليس أدل على ذلك من رفضها للحر ب الأمريكية على العراق، وكان إعلان أساقفة أمريكا الكاثوليك لهذا الرفض واضحا عشية لقاء الكاردينال روجيه اتشيجاراي مبعوث سعيد الذكر البابا يوحنا بولس في واشنطن للرئيس بوش في محاولة لإثنائه عن قرار الحرب الذي كان قد اتخذه.

هذا في الوقت الذي كان فيه أنصار إسرائيل في وزارتي الخارجية والدفاع والبيت الأبيض من أمثال ديك تشيني وبول وولفويتز وريتشارد بيرل يدفعون عجلة الحرب دفعا تجاه أسوأ حرب خاضتها أمريكا لحساب إسرائيل في التاريخ المعاصر، وكلهم قد خرجوا من عباءة اليمين الديني البروتستانتي المتطرف في أمريكا والمناهض بل والكاره للكاثوليكية والتي يعتبرها الكثير منهم معقلا للشيطان.

أما عن القضية الفلسطينية تحديدا فيكفي الإشارة إلى نتائج استطلاع رأي أجراه معهد جالوب مؤخرا فيما يختص بتأييد قيام الدولة الفلسطينية وكانت النتيجة أن 87% من كاثوليك أمريكا يؤيدون قيام تلك الدولة فيما 42% من البروتستانت يدعمون الفكرة وأقل من 20% من اليهود الأمريكيين يؤازرونها.

والواقع أن محاولة تصوير الكاثوليك الأمريكيين على أنهم أول من أشار إلى أن إسرائيل هي الحليف الأقرب وليست الدول العربية والإسلامية في الحرب ضد الشيوعية هو قول تنقصه الدقة العلمية والدينية ويبعد كثيرا عن حقائق التاريخ المعاصر فنقاط الالتقاء بين الإسلام والمسيحية كانت ولا تزال حاضرة في تفكير الكنيسة الكاثوليكية وقراءتها ووقائعها وخير مصداقية لما نقول به ما ورد في أحدث الوثاق الفاتيكانية التي تبطل المزاعم الإسرائيلية التي لا تنفك تروج بأن الإسلام والمسلمين هم نواة ومركز الإرهاب الذي يهدد أمن وسلام العالم.

تذكر الوثيقة المعروفة بـ"عقيدة الكنيسة الاجتماعية" ما نصه أن الإرهاب باسم الله تدنيس وتجديف على اسمه القدوس فالإرهاب يجعل من الله وسيلة يستغلها البعض لتحقيق أهدافه المجرمة.

وتدين الوثيقة الإرهاب بشدة "لأنه يزدري الحياة البشرية ولا مبرر له لكون الإنسان هدفا وليس وسيلة لذا فمن حق الإنسان أن يدافع عن نفسه من جميع أشكال الإرهاب ولكن ليس بطريقة عشوائية وفارغة" في إشارة إلى رفض فكرة الحروب الاستباقية الأمريكية.

وهنا من جديد يتجلى الصدام بين الرؤى الفاتيكانية والتوجهات الأمريكية إذ تؤكد الوثيقة على انه "يجب تحديد المسؤولية بدقة لأن التهمة الجنائية شخصية وفردية ولا يمكن رميها على الديانات والأمم والقوميات التي ينتمي إليها الإرهابيون" وهو منطوق واضح لا يقبل الالتباس تجاه الفصل الفاتيكاني في التعاطي الفكري مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويبقى التأكيد على موقف الكرسي الرسولي من مدينة القدس من زهرة المدائن فحل مشكلة القدس في رأي الكنيسة الكاثوليكية يتمثل في ضرورة "أن تتمتع المدينة المقدسة بخصوصية دولية تبقيها مركزا ورمزا لكافة أتباع الأديان في العالم".

وفيما يخص القدس الشرقية ينظر إليها الفاتيكان في إطار القرار 242 باعتبارها أرضا محتلة ضمن أراضي الضفة الغربية التي استولت عليها إسرائيل بصفة غير شرعية نتيجة حرب 67 وان أي حل منفرد أو مفروض بالقوة من شأنه تغيير طابع المدينة لا يمكن أن يمثل حلا شرعيا أساسيا لمشكلة القدس وأن أي ادعاء خاص بشأن السيادة على المدينة سواء كان دينيا أو سياسيا يعد متناقضا مع طبيعة ومفاهيم المدينة وغير مدعم بأية معايير تاريخية أو عددية وهو ما يعتبر إعلانا واضحا لرفض الفاتيكان للسيادة الإسرائيلية على أراضي القدس الشرقية ورفضه للأسس التي تدعي إسرائيل بأحقيتها في ممارسة تلك السيادة.

هل حان الوقت لندرك عربيا وإسلاميا أهمية دور الفاتيكان في عالم الدبلوماسية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين؟ ربما كان ذلك كذلك بالفعل غير أن التساؤل الحقيقي بالتوقف أمامه كيف نقوّي أرباح العلاقات الفاتيكانية العربية وان لا نترك دائرة الفاتيكان حكرا مستباحا لإسرائيل وللسياسات اليهودية والإسرائيلية ولتقديم ذواتهم على أنهم الصديق الأوثق والحليف الأقرب للمسيحيين في العالم وان المسلمين هم الأعداء الحقيقيين لليهود والمسيحيين؟

منذ ثمانينات القرن المنصرم حاولت إسرائيل أن تقنع بابا روما السابق البابا يوحنا بولس الثاني بأن النزاع الحقيقي في القرن الحادي والعشرين لن يكون بين الشرق والغرب ولا بين روسيا وأمريكا أو أوروبا بل بين العالم المسيحي والاتجاهات الأصولية الإسلامية.

كان البابا حريصا في خطبه العلنية على فصل الإسلام كدين ومعتقد عن الأصولية الإسلامية. ففي عام 1985 بدأ البابا حوارا أسماه أساقفة الإدارة البابوية المتشددين "حوارا مزعجا" يستهدف المؤمنين بالله كان لدى الحبر الأعظم فكرة جيدة عن بعض نواحي الديانة الإسلامية، التوحيد القوي، الخضوع والتسليم التام لإله رحيم، الالتزام بالصلاة المنتظمة وممارسة الصوم من أجل التوبة «وهذا تختفي ملامحه بسرعة في الغرب".

كان البابا مقتنعا بالضرورة القصوى للحوار مع الإسلام في كل أنحاء العالم سيما في العالمين العربي والإسلامي ولهذا سجل له التاريخ انه أول بابا في التاريخ يزور المسجد الأموي في دمشق وفي حواراته ولقاءاته كان يؤكد على أن الحوار بين المسيحيين والمسلمين أصبح اليوم أكثر صعوبة من قبل في عالم يزداد علمانية ويقترب أحيانا من الإلحاد لكن يمكن للشباب على حد قوله "أن يصنعوا مستقبلا أفضل إذا عاهدوا أنفسهم على بناء هذا العالم الجديد حسب نهج وتدبير الله… سيما وأنه علينا أن نبين اليوم القيم الروحية التي يحتاجها العالم المعاصر اليوم".

والمقطوع به انه يمكن الجزم بأنه في ضوء المؤامرات الإسرائيلية الأخيرة على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وعموم فلسطين وفي ظل اتجاه التهويد الساعية فيه حكومة بنيامين نتانياهو بات الأمر في حاجة لزيارات متعددة من العالم العربي للكرسي الرسولي ولتمتين الثقة مع هذه القوة الروحية التي تخاطب مليارا وربعا حول العالم، ومن ثم الاستفادة مما يمثله الفاتيكان من ثقل عالمي لنصرة القضايا العربية العادلة وفي مقدمتها الخلاص من الاحتلال وقد يكون ملائما دعوة البابا أو من ينوب عنه لزيارة الدول العربية حيث التعايش الإسلامي المسيحي المشترك يبطل كافة الاتهامات الباطلة الموجهة إلى الإسلام والمسلمين.