رسالة البطريرك فؤاد الطوال لزمن الصوم 2010

 

"صام يسوع أربعين يوماً وأربعين ليلة"

 (متّى 4: 2)

 

أيها الإخوة والأبناء المباركون،

 

أنعم الرب على هذه الديار المقدّسة بأن تحضنه طفلا وتضمّه فتى وشابا يافعا وتشهده معلّما وشافيا. وتردد جبالنا وودياننا صيحات الناصري الخالد الذي اعتمد في نهر الأردن على يد سابقه النبي يوحنا بن زكريا. وتتوجه أبصارنا في هذه الأيام إلى الصحراء بقرب مدينة أريحا، إلى منطقة جبل "القرنطل" أي "الأربعين"، حيث يؤكد التقليد الشريف إن سيدنا يسوع المسيح  قام بصومه التقوي البطولي الأربعيني – مفترشا الثرى وملتحفا السماء. من هذه الأحداث والمواقع انطلق صيامنا،  بما أن الرب "جعل لنا من نفسه قدوة" (عن يوحنا 13: 15) في كل شيء وخصوصا في المحبة والتواضع واللطف والخدمة (عن متّى 11: 17 وتابع). وفعلا، تصوم الكنيسة مثل يسوع "المعلّم والرب" أربعين يوما، مقتدية هنا أيضا بالفادي الإلهي (عن قورنثوس الأولى 11: 1).

 

بمناسبة الصوم الأربعيني الفصحي وجّه قداسة البابا بندكتس السادس عشر رسالة بليغة شعارها يلخّص ما ورد في رسالة القديس بولس إلى أهل رومة (3: 21–22): "ظهر برّ الله عن طريق الإيمان بيسوع المسيح". ويوضح الأب الأقدس معنى البرّ الذي هو العدالة والصدق المبنيان على لطف الله ورحمته وسخائه تعالى. ويدعو الحبر الأعظم المؤمنات والمؤمنين إلى "مراجعة صريحة نزيهة لحياتنا" أي فحص ضمير عن معاملتنا للآخر. هل نعطي "كل ذي حقّ حقّه"، بداية بالله نفسه؟ وتحزّ في نفس قداسة البابا اللامبالاة والأنانية وضيق الآفاق التي تحكم بالموت سنويا على ملايين من البشر الذين يقضون نحبهم جوعا وقد أعوزهم كل ما هو ضروري من ماء وغذاء ودواء.

 

يستند قداسته إلى كلمات الرب يسوع (عن مرقس 7: 14-15، ثم 20–21) أن "ليس ما يدخل فم الإنسان ينجّس الإنسان بل ما يخرج من فم الإنسان، من قلبه". ويلفت الحبر الأعظم الأنظار إلى أن جذور الشر لا تأتي فقط من أسباب خارجية –هي في الواقع سطحية– بل "من داخل قلب البشر"، هذا القلب المجروح بالخطيئة الميّال إلى الشّر والأنانية (عن مزمور 51 (50): 7).

 

من هذه المعطيات، يخلص الأب الأقدس في رسالة الصوم الفصحي لهذه السنة إلى نتائج عملية منها نبذ الأنانية والانطواء على الذات، والتأمل بعدل الله أي برّه. ويجيب قداسته على سؤال وجيه: أين عدل الله والمسيح البريء يموت عنّا؟ يردّ الحبر الأعظم: ان عدل الله يختلف عن عدالتنا ويسمو عليها. عدل الله قضى أن يدفع الله ذاته عنّا ثمن معاصينا وافتدائنا في دم المسيح. وعلينا أن نشارك، قدر إمكانياتنا، في العدل والبر اللذين نرى قمّتهما في الله، ونحن عن خطايانا تائبون، ونحن نقدّم لكل إنسان ما هو ضروري ليس فقط للعيش الدنيوي – إذ "ما بالخبز وحده يحيا الإنسان" بل كلمة الله وقبسا من نور الله ومحبته لإخوتنا البشر، هذا النور وهذه المحبة اللذان يظهران عن طريق محبتنا للآخر ومساعدتنا له.

 

أمّا نحن في أبرشية القدس، فإننا بشكل خصوصي مميّز كنيسة الصوم وكنيسة الآلام وكنيسة الجلجلة وكنيسة القيامة التي ما كانت لتحدث إلا عبر نفق العذاب والموت. وهنالك رابط بين صومنا كمسيحيين وبين الآلام السيدية  كما كان الرب له المجد قد أوضح، أي أن تلاميذه وهو "العروس" سيصومون "يوم سيُرفَع هو عنهم"، على خشبتَي الصّليب (عن مرقس 2: 19–20).

 

معظمنا سوف يصوم عن طيب خاطر في هذا الزمن المقدس، مضحّيا، مقللا من الطعام، قنوعا في الشراب، متقشفا في العيش. وسيصوم قسم منّا ونفر كثير من مواطنينا في بعض المناطق كرها بسبب الضيق والفاقة. وبما أن الكنيسة الجامعة تضع الصوم في إطار الصلاة والصدقة والمصالحة، فليساعد صومنا اخوتنا المعوزين."الله يحب المعطي المتهلل" (قورنثوس الثانية 9: 7). لذا، بإذن الله، ستقدّم أبرشيتنا العون لفقرائها عن طريق تضحيات أبنائها وتقدماتهم.

 

وهذه السنة ندعوكم إلى تقديم الإغاثة لإخوتنا المنكوبين في جزيرة هايتي، وقد قضى نحبهم 170000 إنسان من بينهم أسقف العاصمة و49 من الكهنة والرهبان والإكليريكيين وتشرد وتيتم الآلاف. وينتظر السكان المشردين أهوال أخرى بسبب موسم الأمطار القادم. نقوم بذلك عملا بتوجيهات صاحب القداسة الحبر الأعظم، متممين رغبة الرسول الحبيب يوحنا: "لا تكن محبتنا بالكلام ولا باللسان فقط بل بالعمل والحق" (عن يوحنا الأولى 3: 18). وكما نعمت كنيستنا المقدسية عبر العصور بالمساعدات في شدّتها (عن قورنثوس الثانية 8 و 9)، يحلو لنا اليوم أن نعين سوانا إذ نحن مع إخوتنا المعمّدين واحد في المسيح (عن غلاطية 3: 26–28).

 

وفي سبيل التنسيق والتعميم، بودّي أن أقترح يوم الأحد الرابع من هذا الزمن الأربعيني المقدّس كي تقوم رعايانا ورهبنياتنا ومدارسنا بجمع التبرعات من اجل إخوتنا منكوبي جزيرة هاييتي الذين علينا أن نذكرهم دوما في صلواتنا طالبين أن تخفف الرحمة الإلهية والمحبة الأخوية ما ألمّ بهم من عناء وشقاء.

 

وإننا نطلب أدعية المؤمنين في هذا الزمن الأربعيني المقدس –زمن مقبول ووقت رضى إلهيين لصومنا وصلاتنا وصدقتنا ومصالحتنا مع الله والناس- من اجل مسيحيي الشرق الأوسط عامة وسينودس الأساقفة الكاثوليك من أجل الشرق الأوسط  ولاسيما أن قداسة الحبر الأعظم سيلتقي بالأساقفة المشرقيين في جزيرة قبرص في أوائل حزيران القادم استعدادا لعقد السينودس في روما في شهر تشرين الأول التالي، بإذن الله.

 

قدّرنا الله على أن نروّض النفوس بالدعاء والإماتة والصدقة "غالبين الشر بالخير" (عن رومية 12: 21).

 

+ البطريرك فؤاد بطرس الطّوال