مشـيئة الله (7) المغفرة

 

بقلم نيران إسكندر

 لو سألتك يا إلهي "ما هي مشيئتك؟" لسمعتك تقول لي من خلال الإنجيل المقدّس بأنك إله مُحب غفور وفي الوقت ذاته عادل، وعَدلك لا يعني لك بأنك ستكره من يحتقر كلامك ولا يطيعه ويقترف الشر فتود له الفناء، بل مشيئتك أن تعطيه فرصة للتوبة فتأدِّبه وتغفر له (2 صموئيل 12: 1- 13)؛ فأنت متواضع ولا يُهمُّك أن تتألم من أجل العالم أجمع، لذلك كان تدبيرك الإلهي لمغفرة خطايانا التي نقوم بعملها ونسيء بها إليك. ولعلّنا يا إلهي أسأنا مفهوم المغفرة فإكتفينا بأن لا نسيء إليك وأن نطلب المغفرة منك حين نسيء إليك ناسين أن الإساءة لأي من أبناءك (أي خلقك) هو إساءة لك (زكريا 2: 8، متى 25: 41-45)، وعليه وجب علينا أن نطلب المغفرة ممن أسأنا إليهم. أجل يا إلهي، يؤلمك أن لا نعترف بخطأنا ونطلب المغفرة فنهلك (لوقا 13: 1-5)، كذلك يؤلمك أن يؤذي أحد أولادك الآخر ويسيء إليه لدرجة أن لا يغفر له أخاه، وما يؤلمك أكثر هو أن لا نغفر لمن يندم على خطأه تجاهنا ويطلب المغفرة (لوقا 17: 1-4) بل ونغضب على من أساء إلينا فنستحق الدينونة (متى 5: 22)؛ وكذلك يؤلمك أن لا نغفر دون طلب المغفرة فلا نُحب أعدائنا كما أوصيتنا من خلال إبنك الحبيب (متى 5: 44). ولأنك عادل يا إلهي، فمشيئتك أن تُعلّمني بأن المحبة التي على أبناءك أن يتحلّوا بها لا تكتمل إلا بالمغفرة لمن يسيء إليهم، فالمغفرة هي إحدى ركائز الإيمان الحقيقي وهذا ما يُميّز أبناءك الذين يعرفونك حق المعرفة (أي يحبونك فوق كل شيء) عن الآخرين الذين يجهلونك أو يعرفونك لكنّهم يُحبون أنفسهم أكثر (متى 5: 44-48). مشيئتك أن تُعلّمني أنني لن أستحق أن تغفر لي إن لم أغفر لغيري، وهذا عدلٌ يا رب (متى 18: 21-35). وبهذه العدالة أستطيع أن أفهم:

1.    أن خلاص نفسي من الدينونة  سيعتمد على محبتي للآخرين ومحبتهم لي: فإن غفرتُ لهم فستَغفر لي ما أسأتُه تجاهك وندمتُ على فعلِه وعدلت عنه بذبيحة الحمل الوديع الرب يسوع المسيح (متى 6: 14-15، لوقا 6: 37) لأنه أخذ عني عقاب الخطيئة من ضربات بالسوط (التثنية 25: 1-3، لوقا 12: 45-48)؛ وإن غفروا لي فلن أُدان على إسائتي تجاههم (لوقا 12: 58-59).

2.    إن خلاص الآخرين من الدينونة سيعتمد على محبتي لهم، فإن أحببتهم كما أُحب نفسي فإني سأغفر لهم لكي لا يُعاقبوا على الإساءة إليّ.

ولعل من أجل أن لا يُحرم أحد من رؤيتك يا إلهي وأنت الإله العادل فأوصيتنا "أن نحب الآخرين كمحبتنا لأنفسنا" (سفر اللاويين 19: 17-18، متى 22: 36-40)، وحين نثبت بإيماننا بتعاليم إبنك الحبيب ويمتلىء قلبنا بمحبتك ومحبة الآخرين فنسلك بحسب الروح، فإننا لن ندان كما قال إبنك الحبيب بأن من يثبت فيه فلن يأتي إلى الدينونة بل ينتقل للحياة الأبدية (يوحنا 12: 44-50، رومية 8: 1-17). أجل، إن التمسّك بتعاليم السيد المسيح بعد الوقوع بالخطأ لهو أحسن الطرق للقضاء على أعداءك (أي خطايانا والشيطان المسبِّب لها). ولعل جميع من يعرفونك يعلمون ويدركون أن التوبة الحقيقية والندم هي أفضل وسيلة للرجوع إليك، وهذا ما يُعيد لنا نحن ملح الأرض ملوحتنا بعد أن نكون قد خسرناها بإبتعادنا عنك (مرقس 9: 49-50). كما أن أساس رسالة السيد المسيح هو "المحبة والمغفرة" وبدونهما لا يكتمل الإيمان. ولذلك يكون الدافع للمغفرة للآخرين ليس خوفاً على روحنا من الدينونة فذلك حقٌ وعدل، بل "حباً بك فوق كلّ شيء" و"طاعةً لكلمتك"، وبالتالي ستكون المغفرة هي الطريقة التي بواسطتها:

1.    يُغلب الشيطان المسبب للإنشقاق بين الأشخاص ووضع بذور الكراهية.

2.    تمتلىء قلوبنا بمحبتك، ونُصبح مثالاً لمحبتك أمام الآخرين.

3.    نزداد فهماً لمحبتك لنا بمغفرة خطايانا حسب تدبيرك الإلهي لخلاصنا، فنستطيع بدورنا أن نكون على مِثال النبي إيليا ومار يوحنا المعمدان اللذان يتمتّعا بذات الروح التي تدعو الشعب للتوبة ولمعرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم فتُرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار (لوقا 1: 17).

4.    نتواضع أمامك: فإذ كنت أنت الملك قد فعلت ما فعلت وغفرت لنا فمن نحن لكي لا نغفر للآخرين.

5.    نقوم بفعل رحمة تجاه الأشخاص الخاطئين وهو ذات الفعل الذي قام به إبنك الحبيب حين صرخ إليك من على الصليب قائلاً: "يا أبي، أَغفر لهم، لأنّهم لا يدرَون ما يفعلون" (لوقا 23: 33-34)، فنتشبّه به فنستحق أن نكون من أبناءك، كما فعل القديس الشهيد إسطيفانوس (أعمال الرسل 7: 59-60).

6.    نقوم بغسل أرجل من أخطأ إلينا فنُزيل عن قدميه التراب (أوساخ الخطيئة)، ونُريحه من عذاب الضمير، وبذلك نصنع بالآخرين ما صنعه بنا السيد يسوع المسيح (يوحنا 13: 14-15). 

7.    نتعلّم أن نقول كلمة "متأسف" و"شكراً"، فكلتا هاتين الكلمتين لا تعتبر إنقاص من قيمة الشخص الذي يقولها بل هي دلالة على النضوج الروحي.

 

     مشيئتك يا إلهي أن يُعلّمني "مقدار الألم الذي تلقّاه إبنك الحبيب والذي قد يكون موازياً لمقدار الألم الذي يُصيبك عندما نُخطىء إليك ومع ذلك تقول لنا بأنك قد غفرت لنا" كيف أراقب تصرفاتي وتحثّني لتكون أعمالي كلها إرضاءاً لكلمتك. وكذلك "أخطاء الآخرين والإساءة لي وجرح مشاعري" تجعلني أراقب تصرفاتي لكي لا أفعل نفس التصرفات تجاه الآخرين، وألوذ بك فأطلب منك أن تُقوي روحي وتُزيد من إيماني فأنجو من أفعال الشيطان ولا أقع فريسة له في وقت التجربة لضعف إيماني (لوقا 21: 36، لوقا 22: 40)، وهذا ما علّمنا إياه إبنك الحبيب حين علّمنا كيف نُصلّي الصلاة الربية (متى 6: 9-13). هذه الصلاة التي وإن كنا ننطق بها بالكلمات ولكن علينا أن نعيش كل ما جاء فيها بصدق وأمانة، عالمين بأنه ليس هناك كائن حي معصوم من الخطأ.

    

     في إحدى إعترافاتي لدى الكاهن لأخبره عن ضعفي في كوني غير قادرة على مسامحة شخص أساء إليَّ، قال لي الكاهن: "ألا تصلّين؟". وإندهشت إذ أنني أصلّي كل يوم ولكني أدركت إني بصلاتي للصلاة الربية أقول لك يا أبي بأنني قد غفرْتُ لمن أخطأ إليّ. فكيف أكلمك وأنا لا أعي ما أنطق به وأطبِّقه؟  هل أكذب عليك؟ أم أنني لست من أبناءك؟  قال لي أحد كهنتك بأن المغفرة تتطلب: (1) شجاعة أن نُميت أهوائنا ومشاعرنا لأجل ملكوتك الذي مات من أجله المسيح (كولسيين 1: 24) وهذا أقل ما يمكن أن نفعله لخدمة الآخرين فنُظهر لهم محبتك دون القيام بالجهاد الجسدي الذي أدّاه الرسل، و(2) شجاعة أن نتوجه لإبنك الحبيب واثقين به ليغيّرنا ويجعل قلوبنا وديعة ومتواضعة مثل قلبه القدوس فنسامح الآخرين بقلبه الحنون فنجد الراحة لنفوسنا (متى 11: 28-30).

 

46

    ربي و إلهي، لو سألتك هل هنالك حدود للإساءة أي هل نغفر مهما كانت الإساءة؟ لسمعتك تقول لي من خلال الإنجيل المُقدّس أن يعقوب وهو الذي سمّيته "إبني إسرائيل" غفر لمن إغتصب إبنته وأراد من أبناءه أن يفعلوا المِثل بدل الإنتقام الذي كانت عواقبه وخيمة (سفر التكوين 34). وكذلك داوود الذي جعلتَهُ ملكاً على إسرائيل ومن نسله أتى المسيّا قد غفر للملك شاول حين أمسك به وهو الذي عزم على قتله (سفر صموئيل الأول 24: 3-21). ولعلي أقول لك أن المغفرة حين ذاك كانت نتيجة (1) حكمة أو (2) إذعان لإرادتك وعدم الإساءة للأشخاص الذين مسحتهم رؤساء عليهم أو (3) الإتكال عليك لمقاضاة الأعداء بما يستحقون، لسمعتك تقول لي بأنها وإن كانت كذلك، فأنك حين تُبتُ وغَفَرْتَ لي لن أتوقع منك أن تُقاصصني بعد ذلك بل نسيت كل آثامي وشروري تجاهك (مزمور 103: 11-12)؛ وهذه هي المغفرة التي تود أن أحملها في قلبي لمن يسيء إليَّ فأنسى ولا أطلب منك الإنتقام منه، وهذا ما علّمه كلمتك المتجسد يسوع المسيح لتلاميذه حين أعطاهم مَثل الإبن الضال الذي عاد تائباً فإستقبله والده بأخذه بحضنه (لوقا 15: 11-32)، وما قام بفعله للمرأة الزانية حين غفر لها وأبعد عنها القصاص ونصحها بعدم العودة للخطيئة (يوحنا 8: 3-11). ربي وإلهي إني أُخطأ حين أعتقد أنك تقاصصني وتكرهني ولا أفرِّق بين التعليم لبنائي وتصحيح تصرفاتي وبين القصاص، ولم أعرف الفرق إلى أن سمعتُ من أحد الآباء بأنه أراد أن يؤدّب إبنه لأنه عمل سلوك خاطىء لكي يتوب ولا يعود لذات السلوك، إلا أن إبنه غضب منه وإبتعد عنه ولم يفهم بأن أباه فعل ما فعل لأن الأب يعلم بأنه   يغفر له ولكن إذ أخطأ إبنه تجاه الآخرين فأنهم لن يغفروا له لأنهم قد لا يُحبّوه بنفس المقدار الذي يُحبّه به أباه وبالتالي تكون النتائج وخيمة.

 

     ربي وإلهي، ولو سألتك ما هذا الغضب الذي أصبح يملأ قلوب كثيرة وأصبح الغفران والعودة إلى المحبة أمراً يكاد يبدو مستحيلاً وتكاد الذكريات السيئة تحتل الفكر وتقف حاجزاً أمام المُضي قُدُماً نحو المصالحة وبالذات بين الأزواج فكثر الإنفصال والطلاق وتفكّكت العائلة؟  ما لي أرى قلوباً ممزَّقة، تئنُّ من وطئة قلوب لا أعلم إن عَرِفَتْك وإختارت جهلاً أنْ تفقد معنى أنك إلهٌ واحدٌ خالقَ الكُلّْ، أَمْ أنَّ هناك مَنْ إستهواها فأنكرَتْكَ وباعت ذاتَها حباً بالمال والذات وأزالت الرحمةَ من قلوبها، ونسِيت أنّك أرحمُ الراحمين؟ لسمعتك تقول لي من خلال إبنك الحبيب بأن الشيطان يود أن يُغربلنا ويبعدنا عنك وعن ملكوتك (لوقا 22: 28-31) وهو عازمٌ على إستغلال المادة والشهوة وحب السلطة وحب الذات وأحبّاءنا وحتى مشاعرنا وأحاسيسنا وإحتياجاتنا لكي نتخلّى عنك (تجارب الشيطان ليسوع في البرية (لوقا 4: 1-12)، وسفر أيوب)، لذا علينا دوماً أن نُوّكِّل أمرنا إليك ونطلب منك أن تُزيدنا من مواهب روحك القدوس فنتسلّح بسلاحك وننجو من الشرير الذي يود أن يأسرنا (هذا ما نتعلّمه من الكتاب المقدّس: "لو آمنت، فإن سقطتُ فسأقوم"، مثال الملك داوود، وسبي بني إسرائيل، وإنكار بولس الرسول ليسوع). أجل فحين نقع في قبضة الشيطان (أي العدو) وتكثر خطايانا ثم نُحس بعذاب الضمير لما فعلنا ونصرخ لك "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" (كما صرخ لك الملك داوود في مزمور 22 و42، وكما صرخ يسوع المسيح، مُمثّلاً عنا، من على الصليب وهو مُثقّل بخطايانا (مرقس 15: 34))، نجد أنفسنا تصرخ لك أيضاً: "يا أبتي، أني أستودع روحي بين يديك" (لوقا 23: 46) عالمين وواثقين بأنك تُحبنا ولم تتخلّى عنا (مزمور 22، 42، 43).        

 

   ربّي وإلهي، إني لا آتيكَ شاكيةً بل طلباً في أنْ تساعدَنا في إخراج الشوكة التي في أعيُنِنا لكي نسعى إلى إخراج الخشبةِ في أعْينِ الآخرين؛ لقد نَسَيْنا المعنى الحقيقي للمثل الذي أعطانا إياه السيد المسيح عن القريب؛ ونسينا أن هذا القريب لم يكن معروفاً لدى السامري الصالح (هل كان إنساناً صالحاً أم إنساناً على سوء؟) وبرغم ذلك حَنَّ قلبُه عليه ومدَّ له يدَ المعونة. أما الآن فهناك مِن أولادك مَن يفرح لموتِ الآخرين ويقولون "يستأهلون"، نسَوا إنك أنت وحدك القاضي وأن إبنك الحبيب قد تألّم ومات محبةً بنا وقد طلب منَّا حين نصلي أن نكون قد غفرنا لجميع من آذانا محبةً به وبهم؛ فكيف إذن نجعل للبغض مكاناً في قلوبنا؟ وإن كنّا نحن لم نعِ معنى المحبة فكيف يعيها غيرُنا؟ إرحمنا يا رب، إرحمنا. آمين.

 

    ربي وإلهي، ليتقدّس إسمك وليكن قلبك القدوس مباركاً وممجداً في كل زمان وكل مكان. أغفر لي يا أبي كلّ ما قمت به من إساءة لك سواء بالفكر أو القول أو الفعل، وأرجو أن تمدّني بمواهب روحك القدوس لأعرف طُرقك فأبتعد عن إهانتك ولا أكون بأعمالي سبب عثرة أمام الآخرين فأُبعدُهم عنك وعن محبتك.

 

    ربي وإلهي، زِدنا إيماناً ورجاءً ومحبة، فما أن نرى الدمعة في أعين أحِبّاءنا أو أن تُجرح أحاسيسهم أو أحاسيسنا حتى ننسى تعاليم إبنك الحبيب عن المحبة والتسامح وتتمتلىء أفواهنا بكلمات لاذعة عن معرفة أو عن غير معرفة بدافع إرجاع البسمة أو إرضاء الحبيب الذي جُرِحت مشاعره (حسب مفهومه) أو إشباع ذاتنا، إلا أننا لا نعلم بأننا بعملنا هذا نكون قد هدمنا من قلوبنا ما بنيته بآلام إبنك الحبيب يسوع المسيح. ففي كتاب العهد القديم، كُتب بأن الألم يولِّد الخطيئة. والخطيئة هنا هي ثمرة بذرة الكراهية التي يزرعها الشيطان في القلوب عِند حدوث أي سوء فهم أو خِلاف. ولقد أعطانا إبنك الحبيب رئيس السلام حلًّ لمثل هذه المواقف بأن نلجأ إلى المصالحة أو أن نسامح ونُدير الخد الآخر قبل أن نقف أمام الديّان ونُسأل عن طاعة وصاياك بالنسبة لمحبة لله وللقريب (متى 5: 9، 23-26). ربي وإلهي علِّمني طول الأناة والصبر في خدمتك، وعلّمني أن أُصلي لأعدائي، ولا أوجه أصبع الإتهام والنقد دون أن أمدّ يد العون للآخرين.

 

      يا ربُّ زِدنا إيماناً كصرخة الصليب: فلو تكلَّمَتْ خشبةُ الصليب فهل سنسمعها تصرُخُ ألماً من خرْق المسامير في داخلها، أم تتذمّرْ من ثِقَل الجسد المُمدّدْ عليها، أم تراها تنتصبُ عالياً نحو السماء فترفع الجسدَ المقدّس الملتصق بها والدم المُراق عليها بكل ما أُوتِيَتْ من قوة في الثبات على الأرض؟ لتصْرُخ لك يا أبي السماوي مع مَن حمَلَته: "يا أبي، أَغفر لهم، لأنّهم لا يدرون ما يفعلون".

أعطنا يا رب من نِعم روحك القدوس فنكون نحن أتباعُ المسيح (أي المملوؤن بالمحبة والرحمة) هذه الخشبة التي من خلالها يفهم العالم محبتك ورحمتك لنا، هذه الخشبة التي حملها إبنك الحبيب على عاتقه بكل محبة وفداء. فنُنَقّي ضمائرَنا ونفتح قلوبَنا للصَفح والغفران، مثلما فتح إبنك الحبيب قلبَه لنا، وعمَّدَنا بالروح والماء؛ عمّدنا بدمه الزكي حين غسل ذنوبنا التي غرسها بين جراحات جسده الطاهر حين كان على الصليب. ولتكن تعاليمه صليبَ الروح الذي نلتصق به ونحمله (بأفكارنا وأقوالنا وأفعالنا) فنتبعه إلى ملكوتك السماوي.

 

        يا ربُّ زِدنا محبةً كالمحبة التي في الصلاة الربية: فنحن عندما نصلّي فإننا نفسح المجال ونعمل مكاناً في قلبنا لنضع فيه محبتك لتشعَّ هذه المحبة للآخرين. إن وصيتك بالنسبة لمحبة الله ومحبة القريب كأنفسنا تكْمُن متكاملة في الصلاة الربية. فالصلاة الربية بالكلمات هي تعبير لك عن محبتنا لك، وإيماننا بك كأبٍ مُحب غفور وقدوس له الملكوت في السماوات وعلى الأرض وواهب الحياة، والثقة التامة بمشيئتك لنا والرضوخ لها؛ كما هي تعبير عن محبتِنا لجميع خلقك محبةً خالية من أي حقد أو رياء على مِثال محبتك لنا فنُحبَّ لهم ما نُحب لأنفسنا (الحصول على الغفران) وإقراراً منا بأنك سترانا (تعاملنا) كما نحن نرى الآخرين؛ كذلك هي بيان على عظم رحمتك بمغفرتك خطايانا دون أي ذبيحة منا بل كل ما أردته هو قلب نقي مُحِب. فهذه الصلاة هي: "المسيحية في كلمات"، وهي كذلك طلبٌ إليك بأن تخلق فينا قلباً نقياً وتُجدد فينا روحاً مستقيمة (مزمور 51: 10، حزقيال 11: 19، 18: 31، 36: 26). والآن أفهم بأنك أرسلت إبنك الحبيب ليكون مثالاً لي وليُعلمني كيف تُعاش الكلمة، فلقد عاش إبنك الحبيب هذه الصلاة الربية طوال حياته وطلب منا أن نعيشها نحن أيضاً الذين تبعناه: حياة مكرّسة لك وتشهد على قدسيَّتك وعلى محبتنا الغيورة على بيتك، حياة مبنية على المحبة (بذل الذات) والرحمة (المغفرة والإحسان) وشرح كلامك، مملوئين من مواهب روحك القدوس لبناء ملكوتك. وبالإمكان أيضاً أن نُحقِّق هذه الصلاة بساعة زمنية بحضور القداس الإلهي الذي يبدأ بشعائر لتقديس إسمك والوقوف والسجود أمام هيكلك كسجود الملائكة وأرواح القدّيسين في السموات أمام عرشك، ثم تتبعها إعطاءك لنا خبزنا اليومي لإحياء أرواحنا من خلال كلمتك (قراءات الكتاب المقدس) وأخذ جسد الرب ودمه الكريم لمغفرة الخطايا. والآن أعلم بأنه لإتمام هذه الصلاة فعلينا أن نتوجه إلى الكنيسة وقلوبنا خالية من أي حقد أو عدم مسامحة. ومن ثم ننهي الصلاة بالبركة التي يعطيها الكاهن والتي غالباً ما تكون الدعاء لك لإبعادنا عن التجارب ونجاتنا من الشرير وتقويتنا عند المصاعب، والإقرار بأن لك القوة والمُلك والمجد إلى أبد الآبدين، وثم يدعونا للإنصراف لنشيع المحبة في قلوب الآخرين كما تشاء، وهذا العمل يُعدُّ جزءاً من غذائنا الروحي كما علّمنا إبنك الحبيب.  فيا حبّذا لو أمكننا أن نُصلي هذه الصلاة بالفعل كلَّ يوم والإلتزام بهذه الصلاة بكافة أعمالنا فتكون جميعها لتقديس إسمك وتمجيدك ومحبتك ومحبة القريب وعمل مشيئتك لنصل إليك جميعاً سالمين. أجل، عندما نفهم أن علينا أن نخدم الآخرين فحينها نبدأ بفهمك وما يعنيهُ كلامك معنا، وحينها تكون "كلماتنا وصلواتنا وأصوامنا" أفعالاً مطابقة لمشيئتك الإلهية. 

 

     يا ربُّ زِدنا رجاءً كالرجاء الذي في كيان أسير الرجاء: الرجاء بقيامة الموتى أي نيل ملكوتك والإلتقاء بك ورؤية نورك ومجدك البهي. ولأن علينا أن نكون دائماً على أهبة الإستعداد الروحي لننال هذه النعمة لذلك فإن أفكارنا وأعمالنا وأقوالنا الجسدية والروحية النابعة من قلوبنا تكون أسيرةً لإرضاء قلبك القدوس  ونيل  محبَّتك  كمَثَل  الحبيب  حين يكون رهناً  لحبيبه من  دوافع  محبّته له

وللدلالة على هذه المحبة.

 

     ربي وإلهي، ما أحلى أن نصلِّ كما صلّى القديس أغناطيوس مُنشىء الرهبنة اليسوعية ونقول: "يا نفس المسيح، قدِّسيني. يا جسد المسيح، أسكرني. يا ماء جنب المسيح، أغسلني. يا آلام المسيح، قويني. يا يسوع الصالح، إستجب لي. في جراحاتك أخفني. لا تدعني أنفصل عنك. من العدو الخبيث أحمني. في ساعة موتي أُدعني. ومرني أن آتي إليك، لأُسبّحك مع قدّيسيك، إلى دهر الدهور. آمين."

 

مزمور 32:

"طُوبَى لِلَّذي غُفِرَت آِثامُهُ وسُتِرتْ خطاياه. طُوبَى لِرجل لا يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خطيئةً، وليس في روحِهِ غشٌّ. حين سَكَتُّ عن الإعتراف بالذنب بَلِيَتْ عظامي في تأوّهي النهار كلَّهُ، فقد كانت يدك ثقيلة الوطأة عليَّ نهاراً وليلاً. حتى تحولت نضارتي إِلى جفاف حرّ الصيف. أَعْترِفُ لك بِخطيئتي ولا أَكْتمُ إِثْمِي. قُلْتُ: «أَعْترِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وأَنت رفعْتَ أَثام خطيئتي. لِهذَا ليعترف لك كل تقيٍّ بخطاياهُ وقتما يجِدُكَ فلا تبلغ إليه سيول التجارب الطامية. أَنْتَ سِتْرٌ لِي. في الضِّيق تحْرسني. بِترانيمِ بهجة النَّجاة تُطوّقني.

يقول الرب: «أُعلِّمُكَ وأُرْشدُكَ الطَّرِيق التي تسْلُكُها. أَنْصحُكَ. عَيْنِي عليْكَ. لا تكونوا بِلا فَهْم كالفرسٍ والبغل، الذي لا يُطيع إلا إذا ضُبط باللجام وقُيّد بالحبل».

كثيرةٌ هي نكباتُ الشِّريرِ، أَمّا المُتوكِّلُ على الرّبِّ فالرَّحمةُ تُحيطُ بِهِ. إفْرحوا بِالرّبِّ وإبْتهِجُوا يا أَيُّها الصِّدِّيقُونَ، وإهتفوا يا جميع المُسْتقيمي القلوبِ."

 

لنُرتِّل ونعمل من أعماق قلوبنا ونقول:

"أبانا الذي في السّماوات، ليتقدّس أسمكَ! ليأتِ ملكوتك! لتكنْ مشيئتُك على الأرض كما هي في السماء! خُبزنا كفافَنا أعطنا اليوم؛ وأغفر لنا ذنوبنا، كما نغفرُ نحنُ لمن أساء إلينا؛ ولا تُدخِلنا في تجربةٍ، بل نجّنا من الشرير لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين." (متى 6: 9-13)

 

بقلم نيران إسكندر