قداس الرماد: عظة بندكتس السادس عشر

 

روما، الجمعة 19 فبراير 2010 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر يوم أربعاء الرماد خلال القداس الذي تم الاحتفال به في بازيليك القديسة سابينا على تلة الأفنتينو، أولى "محطات" الصوم في روما.

***

"يا رب، أنت تحب كل المخلوقات،

ولا تمقت شيئاً مما صنعت؛

أنت تتغاضى عن ذنوب المهتدين

وتصفح عنهم،

لأنك الرب إلهنا" (نشيد الدخول) 

أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية،

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

بهذا الابتهال المؤثر المأخوذ من سفر الحكمة (11: 23، 26)، تفتتح الليتورجيا الاحتفال بسر الافخارستيا في أربعاء الرماد. إنها كلمات تفتتح نوعاً ما كل مسيرة الصوم، متخذة كأساس لها محبة الله الكلية القدرة، وسلطانه المطلق على جميع الخلائق الذي يترجم برأفة لامتناهية تحركها إرادة عيش ثابتة وشاملة. ففي الواقع أن مسامحة أحد ما تعني القول له: لا أريدك أن تموت بل أن تحيا؛ ما أريده دوماً هو فقط مصلحتك.

هذا اليقين المطلق دعم يسوع خلال أيامه الأربعين التي قضاها في صحراء يهوذا بعد معموديته على يد يوحنا في نهر الأردن. لقد شكل له هذا الزمن الطويل من الصمت والصوم توكلاً تاماً على الآب وتدبيره المحب؛ كان "معمودية" أي "انغماساً" في مشيئته، واستباقاً للآلام والصليب. فالتقدم في الصحراء والبقاء فيها وحيداً لفترة طويلة كان يعني التعرض طوعاً لتجارب الشرير المجرب الذي أوقع بآدم والذي دخل الموت إلى العالم بحسده (حك 2، 4)؛ هذا ما يعني محاربته في أرض مكشوفة وتحديه من دون أي سلاح آخر سوى الثقة اللامحدودة بمحبة الآب الكلية القدرة. تكفيني محبتك وتغذيني مشيئتك (يو 4، 34): هذه القناعة كانت تسكن في ذهن يسوع وقلبه خلال "صومه". لم يكن ذلك فعل زهو، وعملاً جباراً، وإنما خيار تواضع منسجماً مع التجسد والمعمودية في نهر الأردن، ومع الطاعة لمحبة الآب الرحيمة، الآب الذي "أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يو 3، 16).

الرب يسوع هو من فعل كل ذلك لأجلنا. صنعه لينقذنا ويظهر لنا الطريق لاتباعه. وفي الواقع أن الخلاص هبة ونعمة من عند الله، ولكن تأثيره في وجودنا يتطلب موافقتنا وقبولنا الظاهر في الأعمال، أي في إرادة العيش مثل يسوع واتباعه. من هنا يعتبر اتباع يسوع في صحراء الصوم الشرط الأساسي للمشاركة في فصحه، في "خروجه". لقد طرد آدم من الفردوس الأرضي، رمز الشركة مع الله. بغية العودة إلى هذه الشركة، أي إلى الحياة الحقيقية، الحياة الأبدية، ينبغي علينا الآن أن نجتاز الصحراء، اختبار الإيمان، ليس وحدنا بل مع يسوع! هو الذي سبقنا وتغلب على روح الشر. هذا هو معنى الصوم، الزمن الليتورجي الذي يدعونا سنوياً إلى تجديد خيار اتباع المسيح على درب التواضع للمشاركة في تغلبه على الخطيئة والموت.

هنا نفهم أيضاً الرمز التكفيري للرماد الذي يوضع على رأس الأشخاص الذين يبدأون مسيرة الصوم بنية حسنة. إنها بادرة تواضع تعني أن أدرك حقيقتي، كمخلوق ضعيف خلقت من التراب لأعود إلى التراب، لكنني خلقت أيضاً على صورة الله لأعود إليه. صحيح أنني رماد لكنني محبوب ومجبول بمحبته ومنتعش بنفحته الحيوية وقادر على التعرف إلى صوته والاستجابة له؛ وأنني حر قادر أيضاً على العصيان والاستسلام لتجربة الزهو والاكتفاء الذاتي. هذه هي الخطيئة، المرض المميت الذي ظهر باكراً ليدنس الأرض المباركة أي الإنسان. فهذا الإنسان الذي خلق على صورة المقدس والصالح فقد براءته ولا يستطيع الآن أن يستعيد طبيعته الصالحة إلا بفضل بر الله، بر المحبة "الذي يمنحه الله على أساس الإيمان بيسوع المسيح" (رو 3، 22)، حسبما يكتب القديس بولس. من كلمات الرسول هذه، استقيت جوهر رسالتي الموجهة إلى كل المؤمنين بمناسبة هذا الصوم: التأمل في مسألة البر على ضوء الكتب المقدسة وتحققها في المسيح.

في القراءات البيبلية لأربعاء الرماد، ترد أيضاً مسألة البر. تشكل صفحة النبي يوئيل مع المزمور Miserere لوحة تكفيرية تبرز أن سبب كل ظلم مادي واجتماعي يعود لما يسميه الكتاب المقدس بـ "المعصية" أي الخطيئة التي تقوم أساساً على عصيان الله، أي على غياب المحبة. يقول المرنم: "فإني عارف بمعاصيَّ وخطيئتي أمامي في كل حين. إليك وحدك خطئت وأمام عينيك صنعت الشر" (مز 50: 5، 6). لذا يقوم أول عمل بر على إدراك المعصية وإدراك تجذرها في "القلب"، في قلب الإنسان. فلا يحسن لدى الله "الصوم والبكاء والانتحاب" (يوئيل 2، 12) وكل تعبير تكفيري إلا في حال دلالته على قلوب تائبة. كذلك يشدد الإنجيل المأخوذ من "عظة الجبل" على ضرورة عمل البر – الصدقة والصلاة والصوم – ليس أمام الناس، وإنما فقط أمام الله "الذي يرى في الخفاء" (مت 6: 1، 6؛ 16، 18). فالمكافأة الحقيقية ليست نيل استحسان الآخرين، بل الصداقة مع الله والنعمة المنبثقة عنها التي تمنح السلام والقوة لفعل الخير ومحبة من لا يستحق المحبة، والصفح عمن أخطأ إلينا.

أما القراءة الثانية أي دعوة بولس إلى المصالحة مع الله (2 كور 5، 20)، فهي تتضمن إحدى أشهر المفارقات البولسية التي توجه تأملنا في البر نحو سر المسيح. يكتب القديس بولس: "فإن الذي لم يعرف خطيئة – أي الابن الذي صار إنساناً –، جعله الله خطيئة لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه" (2 كور 5، 21). في قلب المسيح، أي في شخصه الإلهي والبشري، كانت مأساة الحرية على المحك. لقد أخذ الله تدبيره الخلاصي إلى أقصى العواقب، محافظاً على الأمانة لمحبته حتى على حساب تسليم ابنه الوحيد إلى الموت، الموت على الصليب. وكما كتبت في رسالة الصوم، "هنا يتجلى البر الإلهي المختلف عن البر البشري (…). بفضل عمل المسيح، نستطيع الدخول في بر "أكبر"، بر المحبة" (رو 13: 8، 10).

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن الصوم يوسع آفاقنا ويوجهنا نحو الحياة الأبدية. نحن في رحلة حج على هذه الأرض "فليس لنا هنا مدينة باقية، وإنما نسعى إلى المدينة الآتية"، بحسب الرسالة إلى العبرانيين (عب 13، 14). كما يدفعنا الصوم إلى إدراك الطابع النسبي لخيرات هذه الأرض ويجعلنا قادرين على التضحيات الضرورية، محرراً إيانا لفعل الصالحات. دعونا نفتح الأرض على نور السماوات، على حضور الله في وسطنا. آمين. 

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010