عظة الأحد الأول من الزمن الأربعيني

 

الأخ سالم يونس الفرنسيسكاني

"وبعد أن اعتمد، رجع يسوع من الأردن وهو ممتلئ من الروح القدس فأقام بدافع من الروح في البرية"

 

لقد بدّل يسوع حياته للتوّ وسيشكّل هذا الأمر منعطفا حادا في حياته. فمنذ أيام خلَت، كان مجرّد نجار في قريته الناصرة. وها قد تلقى معموديته في الأردن، وتلقى معها تكليفه كنبي وهو الآن مملوء من الروح القدس.

 

وقبل أن يبدأ مهمته، يحسّ بالحاجة إلى الاختلاء في الصحراء وحيدا إنه يريد أن يصلي ويفكّر ويختار الوسائل التي سيستخدمها في عمله ومن نافل القول، أنه ليس هناك من عمل إنساني ضخم وجليل، ولا حياة روحية أصيلة، دون أن يسبق ذلك وقت يمضيه المرء في التفكير والوحدة والصمت الداخلي.

 

فهل كرّستُ، في هذا الصوم الذي يبدأ، بعض الدقائق كل يوم من أجل ذلك؟ أو هل كرّستُ ربع ساعة في الأسبوع للصلاة والتأمل والتفكير؟

 

لنتأمل يسوع مبتعدا عن المناطق المأهولة بالسكان، متجها صوب الصحراء حيث لا ماء ولا شجر ولا إنسان!

 

وأنا، هل لدي الجرأة يا رب، أن أتبعك لنمضي بعض الوقت في "الصحراء"؟

 

"فأقام في البرية أربعين يوماً، وإبليس يجرّبه"

 

تبعا للوقا، فإنّ تجربة يسوع قد دامَت طيلة الأربعين يوما التي أقامها في الصحراء ومن هنا يتضح لنا أنّ وقت الصلاة هو أيضا وقت "التجربة والاختبار" وتشير هذه الكلمة إلى الوجه الإيجابي للتجربة ؛ فأن يختبر الإنسان نفسه، يعني أن يكتشف ما لديه من "قدرات"، أن يقدِّم براهينه ؛ فتجربة جهاز ما، تعني اختبار قدرته الحقيقية والحب المجرَّب هو حب صامد وصلابته معروفة لدينا.

 

وعندما نطلب من الله في الصلاة التي علّمنا إياها يسوع: "ولا تدخلنا في التجارب، لكن نجنا من الشرير"، فإنّ ذلك لا يعني قطعا أنّ يسوع يريد القول أننا لن نتعرَّض للتجارب ، بل أن ننتصر عليها ، ألاّ ندعها تسحقنا وتنتصر علينا وتخضعنا للشرير لقد اختبر يسوع منافع التجارب التي من شأنها أن تنمّي الحب: فتجارب يسوع ستُظهِر"أمانته" للآب.

 

"ولم يأكل شيئا في تلك الأيام، فلما انقضت أحسّ بالجوع"

 

لنتأمّل معا هذا المشهد: يسوع (كإنسان) يتألّم من الجوع ؛ معدة خاوي غثيان وجع في الرأس وتجدر الإشارة إلى أننا نجد ممارسة "الصوم" الاختياري موجودة في أغلب الديانات الكبيرة في العالم ويبدو أنّ حضارتنا المعاصرة، هي الوحيدة في التاريخ، في رفضها لهذه التجربة الدينية العامّة والشاملة! فلسان حال حضارتنا يقول: يجب أن نتمتّع لماذا نحرم أنفسنا! وهل حسّن صيامنا من "نوعية" حياتنا! ولكن هناك رأي يطرح نفسه: وهو أنه عندما يترك الإنسان لنفسه "الحرية المطلقة" في ممارسة الجنس أو الأكل، فإنه يعرِّض نفسه لخسارة كبيرة جدا ؛ ألا وهي "فقدان السيطرة على الذات"، متحوّلا بذلك إلى كائن أشعر (له وبر)، عبدا لغرائزه الأكثر وضاعة، وبلا أخلاق أما يسوع، ومن خلال تعليمنا الصوم، فإنه يريد أن يقدّم لنا صورة إنسان قوي، قادر على إنكار ذاته، قادر على "الصيام" الإختياري. فهل أقدِّم بعضا من التضحيات وإنكار الذات في صيامي؟

 

التجربة الأولى: "فقال له إبليس: "إن كنت ابن الله، فمر هذا الحجر أن يصير رغيفا"

 

صحيح أنّ تجربة الجوع هي تجربة بني إسرائيل في صحراء سيناء ولكنّ تجربة "إشباع الجوع" هي تجربة كل إنسان إنّ رغباتنا الجسدية التي نعرفها جيدا، هي جيدة بحدّ ذاتها، وقد وضعها الله فينا. ولكن ما أسهل أن "تنحرف" لتصبح طاغية متطلّبة! ويزيد المجتمع الاستهلاكي الذي نعيش فيه من حدّة هذه الرغبات: اشترِ الغذاء الفلاني، اشترِ الآلة الفلانية… إنّ العالم الغربي متخَم بمجمله، ويحذر الأطباء باستمرار من هذه التخمة!

 

"فأجابه يسوع: مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"

 

"الإنسان" كم أحبُّ سماعها من فمك يا يسوع! فالانسان هو موضوع حبك! لقد جئت إلى العالم لترفع من قيمة الإنسان على كل الصعد وها أنتَ تكرّر على مسامعنا اليوم، بأنّ الإنسان لا يحيا بالخبز وحده! أنتَ لا تريدنا أن نبقى عند مستوياتنا الأكثر بدائية وبساطة! ولسان حالك يسألنا: ألا تحتاجون إلاّ إلى الأكل والشرب والتدخين؟

 

فهل سنستطيع في هذا الصوم أن نرفع من سويّة قيَمِنا الروحية ؟وهل سنفرض على أنفسنا بعض الإماتات الطوعية المحيية؟

 

التجربة الثانية: "فصعد به إبليس، وأراه حميع ممالك الأرض في لحظة من الزمن، وقال له :"أوليك هذا السلطان

 

كله ومجد هذه الممالك، لأنه سُلِّم إليّ وأنا أوليه من أشاء فإن سجدتَ لي، يعود إليك ذلك كله.

 

إنّ هذه الرواية ليست مقالا صحفيا وصفيا، ولا فيلما تسجيليا لحدث ما ؛ إنها صفحة لاهوتية تلخص وتشمل، رمزيا، "كل أنواع التجارب" التي سيصادفها يسوع "واقعيا" طيلة أيام حياته. ومن الواضح مثلا أنّ هذه "التجربة الثانية"، تجربة "السلطة الزمنية" لم تكفّ عن محاصرة يسوع. فلقد كان عليه أن يرفض كل يوم، التجربة المغرية، تجربة "المسيحانية الزمنية" التي كان معاصروه يحاولون دفعه إليها: لقد أرادوا منه أن يكون مسيحا سياسيا، "ملِكا لهذا العالم" على غرار جدّه الملك داود، متزعّما مع الغيورين حركة استعادة "السلطة" والمجد من المحتل الروماني (يوحنا 6/15). فمنذ هذه اللحظة في الصحراء وحتى آخر دقيقة في حياته، كان يرفض دائما هذه الملكية، مفضّلا أن يكون ذلك "العبد الفقير المتألّم" (يوحنا 13/1-20) لقد كان بوسعه أن يكون غنيا وقادرا! ولكنه جعل من نفسه ضعيفا (كورنتوس الأولى 1/27)، واختار "الصليب الذي كان عارا عند اليهود وجهالة عند الوثنيين".

 

إنّ تجربة السلطة هي تجربتنا نحن أيضا ؛ إنها تجسّد ميلنا إلى السيطرة وفرض الرأي وتقديم المصلحة الخاصة.

 

"فأجابه يسوع : مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (تثنية 6/13)

 

ردّا على هجمات الشيطان، فإنّ يسوع يردّ ثلاث مرات من الكتاب المقدس (تثنية 8/3-6/13-6/16)، لأنه كان في تلك اللحظة يعيش في شخصه تجارب شعبه في الصحراء خلال أربعين عاما ؛ كتجربة المنّ (خروج 16) وتجربة الأصنام وعجل الذهب (خروج 32-34) وتجربة المعجزات والآيات (خروج 17).

 

إنّ تجربة إسرائيل هي تجربة يسوع، وهي تجربة البشرية كلها، وهي تجربتنا نحن أيضا ؛ إذ ما زلنا نحن أيضا نشكّ في الله لأنه لا يُظهِر لنا ذاته، وبالتالي نضع ثقتنا في "آخرين"! أمّا جواب يسوع فكان مختصرا وقاطعا: "لا أحد سوى الله! فعلى غرارك يا يسوع، أنا لا أريد أن (أعبد) أضع ثقتي لا في المال، ولا في اللذة، ولا في السلطة، ولا في النظريات السياسية، ولا في التطور، ولا في هذا العالم أنا لا أريد أن أسجد إلاّ "لله" وحده.

 

إنّ ما هو دنيوي ليس سيئا بحدّ ذاته، ولكنّ كل السوء يكمن في أن نجعل منه "مطلقا" ووهما مأساويا.

 

إنّ يسوع هو الذي يحرّرنا من "آلهتنا الكاذبة" التي تخدعنا وتستغلّنا!

 

التجربة الثالثة: فمضى به إلى أورشليم، وأقامه على شرفة الهيكل، وقال له: "إن كنت ابن الله، فألقِ بنفسك من هنا إلى الأسفل، لأنه مكتوب: يوصي ملائكته بك ليحفظوك"، ومكتوب أيضا: "يحملونك على أيديهم لئلا تصدم رجلك بحجر" (مزمور 91/11-12)

 

إنّ هذه التجربة، هي التجربة الدائمة التي كانوا يطرحونها على يسوع طيلة حياته العلنية: إصنع المعجزات،  أعطنا آية من السماء، أظهِر لنا بقدرتك ومعجزاتك أنك المسيح المنتظَر، إنزل عن الصليب! (لوقا11/29-11/16-21/7؛ يوحنا 2/18-6/30-12/37؛ متى 27/42-43). ونحن، ألا نطلب ذلك من الله دائما؟

 

إنّ لوقا قد رتّب هذه التجربة، تجربة "أورشليم" في المرتبة الثالثة (وهي الثانية عند متى 4/5) مشيرا بذلك إلى نوع من التقدم ؛ فيسوع سيعيش أقسى تجاربه في أورشليم، سيما تلك التجربة المأساوية التي فيها تمنّى لو يتخلّص من الموت: "إن كان ممكنا أن تبعد عني هذه الكأس" (لوقا 22/42).

 

إنّ الملائكة لم تحمِ يسوع، وهذا بحدّ ذاته يُعتبَر من أقسى التجارب ؛ فأمام الألم، يخشى أن يفقد ثقته بالآب! نعم، لم يتلقَّ يسوع أية حماية ؛ فرجله كثيرا ما اصطدمَت بحجارة الطريق! إنه لم يلجأ أبدا إلى استخدام قدرته الإلهية ليتجنّب الثقل الرهيب "لوضعه البشري المميت" ؛ فنراه يرفض كل "الوسائل المبهرة" في تحقيق رسالته، مختارا "أبسط الوسائل" وسيُظهِر أنه الابن الوحيد، من خلال طاعته التامّة للآب حتى في أحلك اللحظات، حيث صار لديه الانطباع بأنّ الآب "قد تخلّى" عنه (متى27/46) وسيُنقَذ من الموت بقيامته، ولكن بعد أن يعيش الحب حتى النهاية فلا نستغربنَّ أن نُجَرَّبَ بدورنا بنفس التجربة المأساوية، تجربة الإحساس بتخلّي الله عنا! وهذه أخطر التجارب ؛ إنها تجربة الإلحاد:"فلو كان الله موجودا، لما حصل معي هذا!".

 

"فأجابه يسوع : لقد قيل:" لا تجربنَّ الرب إلهك

 

كثيرا ما نجرّب الله نحن أيضا ؛ وذلك عندما نحاول فرض إرادتنا عليه: "إن كنتَ موجودا، وإن كنتَ تعتبرني ابنك حقا، فعليك أن تشفني، أن تنقذني من المحنة الفلانية، أن تنجحني في الامتحان فإذا لم تنفذ هذه الشروط، فأنت لم تعد تهمني، ولست موجودا بالنسبة لي، "ونحن نعلم أن مشكلة الشر والألم في العالم هي وراء أكثر الأزمات الروحية وفقدان الإيمان، ولكننا نؤمن بأنّ يسوع "معنا"، وأنه كان الأوّل والسبّاق في الانتصار على هذه التجربة ببقائه على الدوام أمينا لله حتى وهو "مسمّر على الصليب".

 

"فلما أنهى إبليس جميع ما عنده من تجربة، إنصرف عنه إلى أن يحين الوقت"

 

إذن فهذه التجارب لم تكن إلاّ البداية! وسيُجرَّب يسوع من جديد! وسيَضرِب له الشيطان موعدا في أورشليم ؛ فالمجابهة الحقيقية ستحصل هناك، ساعة الآلام (لوقا22/3). آمين.