لم تمح من الذاكرة، انها زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى جمهورية مصر العربية في شباط عام 2000. وبعد عقد من الزمان، تغيرت امور كثيرة، ورحل البابا في وسط العقد عائدا الى منزل الآب، الا أن ذكراه، وكلماته، وسحر شخصيته، ما زالت تصدح وتتردد أصداؤها في العالم أجمع. نستذكر اليوم هذه الزيارة، وكلنا أمل ورجاء من أجل مصر العربية، مصر التاريخ، والحضارة، لكي تعود كما يعرفها التاريخ وكما تعرفها الحضارة، بلدا للعيش المشترك والمساواة بين الناس واحترام حريات الناس، وبخاصة حريتهم الدينية.
بذر الراحل الكبير بذار الخير والمحبة والحوار والتعاون. في مصر في شباط 2000، وبعدها في الارض المقدسة في الشهر التالي (وسنخصص أقساما خاصة لاستذكار زيارة آذار). الا أن حديثنا اليوم يلزمنا على احياء التفكير الحصري من جديد على زيارة البابا الذي بات تطويبه وشيكا الى مصر العربية. فبعد عقد على تلك الزيارة، وهو العقد الاول من القرن الحادي والعشرين والالفية الثالثة، تغيرت أمور كثيرة وتحدثت تقنيات الاتصالات اكثر فأكثر، الا أن جوانب قاتمة ما زالت موجودة، ومنها عدم احترام الحرية الدينية وحرية المعتقد وحرية العبادة في كثير من الاماكن في العالم، وحديثنا هنا عن مصر الشقيقة. وكان آخرها طبعا ما حدث في نجع حمادي في أقدس ليلة على الاطلاق لأخوتنا الاقباط، أي ليلة الميلاد.
لماذا نتكلم هنا عن هذا اليوم؟ لان الحرية الدينية هي هاجس الكنيسة في كل زمان ومكان، وهي أم الحريات جميعها، فاذا توفرت في بلد ما، توفرت معها بالضرورة كل الحريات الاخرى، واحترمت، بالضرورة أيضا، كل حقوق الانسان الأخرى. ونتحدث هنا عنها لان رحلة البابا يوحنا بولس الثاني قد ركزت من خلال الزيارات العديدة التي احتوتها على احترام الكنيسة للكنائس الأخرى، من جهة، وعلى احترام المسيحية للديانات ألأخرى من جهة أخرى. فالبابا زار الكنائس الكاثوليكية، واحتفل معها بالقداس الالهي، ليبرز الصورة الكنسية الانصع في ترؤس الاسقف للافخارستيا ومعه شعب الله، كما زار البابا شنودة الثالث، تعبيرا عن الاحترام والدعوة الصادقة للوحدة المسيحية النية الأعز على قلب السيد المسيح وعلى قلب الكنيسة، كما زار ايضا الازهر والتقى بشيوخه، تعبيرا أيضا عن المحبة والاحترام واجواء الحوار الحقيقي والصريح التي عليها أن تسود في القلوب أولا قبل أن تتصدر الاقوال والشفاه.
لا نترحم على البابا يوحنا بولس الثاني، فهو في ديار الخلد يصلي أمام عرش الحمل ويشفع لنا نحن أبناء الارض التائهين، لكنا نأمل أن تكون ذكرى زيارته الى الارض العربية المصرية حافزا على تذكر اشارات ودلالات الزيارة، ودافعا للمزيد من العمل الجدي والدؤوب على احترام حقوق الانسان، كل انسان، وعلى تسييد مبادئ المساواة والأخوة الانسانية، والمواطنة الصالحة، والشراكة في كافة مجالات الحياة، وعلى هذه المبادئ يعامَل الناس والمواطنون، على المستويات الشعبية كما على المستويات الرسمية.
شكرا للبابا يوحنا بولس الثاني، لانه يجعلنا اليوم نتذكر هذه المبادئ ونعيد حساباتنا.
بدأ البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الكبير يوم الخميس الموافق 24-2-2000، زيارة تاريخية هي الأولى لبابا الكنيسة الكاثوليكية إلى مصر.
وكان البابا نفسه قد زار مصر عام 1962 حين كان أسقفاً.
وأقام البابا يوحنا بولس الثاني في مقر سفارة الفاتيكان في مصر في حي الزمالك، غرب القاهرة، وهو مقرّ متواضع نسبياً، بيد أن المسؤولين أكدوا أن هذا تقليد فاتيكاني، وأن سفارات الفاتيكان تكون هي مقرات إقامة البابا في العادة.
الاستقبال
كانت مراسم الاستقبال حافلة، بدأت باستقبال الرئيس المصري حسني مبارك له بحضور حشد كبير من المسؤولين المصريين ومسؤولي مختلف الكنائس المسيحية في مصر، كما اصطفَّ لاستقباله آلاف من طلبة المدارس الكاثوليكية في مصر التي تبلغ 168 مدرسة كاثوليكية، والتي تخرَّج منها عدد كبير من المسؤولين، أبرزها مدارس الراهبات، واليسوعية، والفرير، والراعي الصالح، وسان جورج.
محادثات
بدأ البابا برنامجه بمحادثات مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك في مطار القاهرة، تناولت مسيرة السلام في الشرق الأوسط، والعلاقات الثنائية، ومستقبل المنطقة.
زيارتان
ثم كانت له زيارة إلى البابا شنودة الثالث، بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في مقر الكاتدرائية الأرثوذكسية في منطقة العباسية شرق القاهرة.
اعقبتها زيارة لشيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي في مقر مشيخة الأزهر الجديد القريب، حيث استغرقت الزيارة قرابة 45 دقيقة.
القداس الإلهي
وكان ذورة الزيارة عندما احتفل البابا يوحنا بولس الثاني صباح الجمعة 25-2-2000 بالقداس الإلهي في الصالة المغطاة باستاد القاهرة، حضره حوالي خمسة وعشرين ألف شخص، ونقله التلفزيون المصري مباشرة على الهواء. وشارك في القداس بطاركة المنطقة و15 أسقفًا من الكنائس القبطية واللاتينية والمارونية واليونانية والأرمنية والآشورية والكلدانية، وأقيم القداس بسبع لغات تكريساً للمبدأ الذي تدخل في إطاره زيارة البابا للمنطقة، وهو توحيد الكنيسة والحوار بين الأديان والطوائف والشعوب.
وأشار كثير من المصريين إلى ما حملته الكلمات التي تضمَّنها القداس، والتي ركزت على أهمية وحدة العالم المسيحي بكنائسه المختلفة لمواجهة الثقافات والحضارات الأخرى الموجودة في مصر وفي غيرها من الدول.
وقال البابا خلال عظة القداس (باللغة الفرنسية – اللغة المستخدمة في المدارس الكاثوليكية بمصر): إنه يصلي لكي "تتطور علاقات صافية وأخوية بين كل الكنائس في إطار الإحسان والإرادة الطيبة".
وأضاف "أن مثل هذا الجو من الحوار والتقارب سيساهم في إيجاد حلول للمشاكل التي لا تزال تعرقل المشاركة التامة، كما أن هذا الجو سيشجع أيضا على احترام الحساسيات الخاصة لكل طائفة". وأعرب عن أمله في أن يتمكن المسيحيون من تشكيل "جسد واحد يكون صورة للعالم المقبل".
وقال البابا أيضاً: إن الهيئات الكاثوليكية تأمل في تقديم مساهمتها في تطوير الإنسان وخصوصًا النساء والعائلة "من خلال توعية الشباب على القيم الإنسانية والروحية والأخلاقيات الأساسية في إطار احترام معتقدات كل منهم"، وتابع: "إنها تعتزم أيضا تشجيع العلاقات الودية مع المسلمين لكي يعمل أفراد كل من الطائفتين بصدق على فهم الآخر وعلى العمل من أجل العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية والسلام والاحترام والحرية لكل البشر".
أما التقادم فكانت على الشكل التالي: التقدمة الأولى هي الحمام – رمز السلام. والثانية التي قدمتها له امرأة تلبس زي فلاحة مصرية هي عبارة عن سلة بها بعض البلح والقصب والقطن. ومن ثم قدمت له امرأة أخرى تلبس زياً فرعونياً. أما الرابعة، فقامت مجموعة من السودانيين بتقدمة عبارة عن "القرع والماء".
لقاء مسكوني
مساءً التقى البابا مع رؤساء الكنائس المسيحية في مصر، وذلك بمقر كنيسة السيدة العذراء بمدينة نصر.
جبل سانت كاترين
ثم توجه صباح السبت 26-2-2000 إلى جبل سانت كاترين بسيناء، الذي يحتلّ مكانة خاصة لدى المسيحيين بجانب المسلمين، لكونه المكان الذي تلقَّى فيه النبي موسى الوحي من الله.
انطباعات
أما انطباعات الحاضرين في القداس الإلهي فقد تنوَّعت، ولكن كثيرين منهم اعتبروا هذا اليوم عيداً لكل المسيحيين المقيمين في منطقة الشرق الأوسط ويوماً تاريخياً.
قال رجل الأعمال الأرمني الكاثوليكي ريمون ترزيان، الذي وصل إلى استاد القاهرة منذ الساعة السادسة صباحاً: "أشعر بفرح عارم يجتاحني بمناسبة مجيء قداسته إلى مصر. إنها بركة لي ولعائلتي وأولادي".
أما التلميذة القبطية الأرثوذكسية نور مكرم عبيد، فقالت: "إنها لحظة مشحونة بالانفعالات لمصر ولي شخصياً، هذه الزيارة تمثل السلام ووحدة الكنائس المسيحية".
وقالت الكاثوليكية مرغريت نظمي: إن "هذه الزيارة هي حدث مهم جداً، لأنها تثبت أن كل شيء يسير على ما يرام في مصر".
أما الممثلة المصرية يسرا، التي حضرت القداس، فقد اعتبرت أن "الحب كان دائماً موجوداً في مصر، وسيبقى موجوداً… إنه أحد أهم وأكبر الأحداث بالنسبة للشرق الأوسط وللإنسانية. هذا الشيء لا يحدث إلا مرة واحدة في الحياة".
الراهبة ماري دميانة من المدرسة الكاثوليكية في الإسكندرية "مدرسة نوتر دام دي سيون" قالت: "لا يمكنني أن أعبر عن شعوري بالكلام، ولكن هذه الزيارة ستبين للعالم أجمع أنه يوجد مسيحيون في مصر، لأنني عندما أسافر إلى الخارج يعتقدون هناك أن كل الشعب المصري مسلم".
أما الشاب المصري حسين عبد الرحمن الذي حضر القداس هو الآخر.. فقد قال: إنه جاء للمشاركة في القداس بدعوة من أصدقائه الكاثوليك، وأضاف في كلمات تعكس الوحدة الوطنية التي يشعر بها المسلمون في مصر: "لقد كبرنا معا ونريد أن يشارك بعضنا بعضاً أجمل أيام حياتنا".
عن أبونا