كلمة البابا خلال المقابلة العامة: القديس بونافنتورا 04 مارس 2010

"لدى اقتراح هذا الموضوع، أشعر بنوع من الحنين"

حاضرة الفاتيكان، الخميس 04 مارس 2010 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه بندكتس السادس عشر خلال مقابلة الأربعاء في قاعة بولس السادس.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

أرغب اليوم في التحدث عن القديس بونافنتورا دي بانيوريجيو. أعترف لكم بأنني أشعر بالحنين عندما أقترح هذا الموضوع لأنني أتذكر البحث الذي أجريته كباحث شاب عن هذا الكاتب الذي أكن له تقديراً خاصاً. وقد كان لمعرفتي به تأثير كبير في تنشئتي. وقبل بضعة أشهر، ذهبت بكل سرور في رحلة حج إلى مكان ولادته، بانيوريجيو المدينة الإيطالية الصغيرة الكائنة في لاتيوم والتي تكرم ذكراه.

بولادته سنة 1217 ووفاته سنة 1274، عاش في القرن الثالث عشر، في حقبة ألهم فيها الإيمان المسيحي المتغلغل في الثقافة والمجتمع الأوروبيين، العديد من الأعمال الخالدة في مجال الأدب والفنون البصرية والفلسفة واللاهوت. من بين الشخصيات المسيحية العظيمة التي ساهمت في خلق هذا التناغم بين الإيمان والثقافة، يظهر بخاصة بونافنتورا رجل النشاط والتأمل، والتقوى والحكمة في الإدارة.

دعي جيوفاني دي فيدانزا. ويخبر أن حادثة حصلت معه عندما كان ما يزال شاباً وتركت أثراً كبيراً في حياته. فقد أصيب بمرض خطير لا أمل من شفائه حتى على يد والده الذي كان طبيباً. فالتجأت والدته إلى شفاعة القديس فرنسيس الأسيزي الذي كانت قد أعلنت قداسته قبل وقت قصير. فشفي جيوفاني. وأصبحت شخصية فقير أسيزي الصغير مألوفة عنده أكثر فأكثر بعد سنة عندما كان متواجداً في باريس لتلقي الدراسة. حاز على شهادة في الفنون يمكن تشبيهها بشهادة مدرسة ثانوية رفيعة المستوى في أيامنا هذه. في تلك المرحلة، وعلى غرار العديد من شباب الماضي والحاضر، طرح جيوفاني سؤالاً مهماً: "ماذا يجب أن أفعل في حياتي؟". بسبب افتتانه بشهادة الحماسة الإنجيلية التي يقدمها الإخوة الأصاغر الذين وصلوا إلى باريس سنة 1219، قرع جيوفاني باب الدير الفرنسيسكاني في تلك المدينة، وطلب قبوله في أسرة تلاميذ القديس فرنسيس الكبيرة.

بعد سنوات عديدة، أوضح أسباب خياره قائلاً أنه أدرك عمل المسيح في القديس فرنسيس وفي الحركة التي أنشأها. وكتب في رسالة وجهها إلى أخ آخر: "أعترف أمام الله أن ما جعلني أكن محبة أكبر لحياة المبارك فرنسيس هو شبهها ببداية الكنيسة ونموها. لقد بدأت الكنيسة مع صيادي سمك بسطاء، وزخرت بسرعة بعلماء بارزين وحكماء؛ ولم يبنى إيمان المبارك فرنسيس بفضل حكمة البشر، بل بفضل المسيح" (رسالة tribus quaestionibus ad magistrum innominatum، في أعمال القديس بونافنتورا، المقدمة العامة، روما، 1990، ص. 29).

لذلك، وحوالي سنة 1243، لبس جيوفاني الثوب الفرنسيسكاني الصوفي الخشن واختار اسم بونافنتورا. وسرعان ما توجه نحو الدراسة وارتاد كلية اللاهوت في جامعة باريس، متبعاً برنامج دروس صعبة. نال مختلف الشهادات المطلوبة في السلك الأكاديمي، فحاز على شهادات في الكتاب المقدس وفي الأحكام. تعمق بونافنتورا في دراسة الكتاب المقدس، وأحكام بيتر لومبارد، ودليل اللاهوت الخاص بتلك الحقبة، وأهم كتّاب اللاهوت. من خلال التواصل مع الأساتذة والتلاميذ الذين جاؤوا إلى باريس من كل أنحاء أوروبا، نمّى تأمله الشخصي ووعيه الروحي الثمين الذي ظهر على مر السنوات التالية في أعماله وعظاته، مما جعله أحد أهم اللاهوتيين في تاريخ الكنيسة. ولا بد من التذكير بعنوان الفرضية التي دافع عنها ليصبح مؤهلاً لتعليم اللاهوت، licentia ubique docendi، كما كانت تسمى في تلك الآونة. كان بحثه معنوناً "أسئلة حول معرفة المسيح"، مما يظهر دور المسيح الأساسي في حياة بونافنتورا وتعليمه. يمكننا القول بأن فكره كان متمحوراً بعمق حول المسيح.

في تلك السنوات، اندلع في باريس، المدينة التي اختارها بونافنتورا، جدل عنيف ضد الإخوة الأصاغر التابعين للقديس فرنسيس الأسيزي، والإخوة الواعظين التابعين للقديس دومينيك غوثمان. فقد كان حقهم في التعليم في الجامعة موضع الجدل، وكانت هناك شكوك في صحة حياتهم المكرسة. بالطبع أن التغييرات التي أحدثتها الرهبنات المتسولة في طريقة فهم الحياة الرهبانية – التي تحدثت عنها في تعاليم سابقة – كانت مبتكرة جداً بحيث أن البعض لم يفهمها. تضاف إلى ذلك كله دوافع الضعف البشري كالحسد والغيرة، التي تبرز أحياناً بين أشخاص أتقياء. وعلى الرغم من معارضة الأساتذة الجامعيين الآخرين، كان بونافنتورا قد بدأ بالتعليم في كرسي اللاهوت الفرنسيسكاني، ورداً على ناقدي الرهبنات المتسولة، كتب مؤلفاً بعنوان "الكمال الإنجيلي" أظهر فيه عمل الرهبنات المتسولة منها بخاصة رهبنة الإخوة الأصاغر التي تمارس نذور الفقر والعفة والطاعة، على اتباع مشورات الإنجيل. بعيداً عن هذه الظروف التاريخية، يبقى التعليم الذي يقدمه بونافنتورا في هذا العمل وفي حياته آنياً على الدوام: فالكنيسة تصبح منيرة ورائعة من خلال الأمانة لدعوة أبنائها وبناتها الذين لا يطبقون هذه المبادئ الإنجيلية فحسب، وإنما يُدعون أيضاً بنعمة الله إلى مراعاة المشورات والشهادة بأن الإنجيل مصدر فرح وكمال من خلال أسلوب حياتهم المفعم بالفقر والعفة والطاعة.

انخفضت حدة الصراع، لفترة معينة على الأقل، ومن خلال تدخل شخصي من البابا ألكسندر الرابع، تم الاعتراف رسمياً ببونافنتورا كعلامة وأستاذ في الجامعة الباريسية سنة 1257. على الرغم من ذلك كله، اضطر إلى الاستقالة من هذا المنصب الرفيع المستوى لأن المؤتمر العام للرهبنة عيّنه في تلك السنة رئيساً عاماً. أنجز هذه المهمة بحكمة وتفانٍ على مدى 17 عاماً، بزيارة الأقاليم والكتابة للإخوة والتدخل أحياناً بقسوة للقضاء على الانتهاكات. وعندما باشر بونافنتورا بهذه الخدمة، كانت رهبنة الإخوة الأصاغر قد نمت بطريقة مذهلة: كانت تضم أكثر من 30000 أخ في شتى أنحاء الغرب، إضافة إلى حضور تبشيري في شمال إفريقيا والشرق الأوسط وبكين. لذا كان من الضروري تعزيز هذا الانتشار، ومنحه وحدة عمل وروح بالأمانة التامة لموهبة فرنسيس. ففي صفوف أتباع القديس فرنسيس الأسيزي، وجدت أشكال مختلفة لتفسير رسالته مما شكل خطر حدوث انقسام داخلي. في سبيل تلافي هذا الخطر، صادق المؤتمر العام للرهبنة في ناربون سنة 1260 على نص اقترحه بونافنتورا، نص يوحد القوانين التي كانت تنظم حياة الإخوة الأصاغر اليومية. لكن بونافنتورا كان يرى أن الأحكام القانونية لا تكفي لضمان شركة الأرواح والقلوب على الرغم من كونها مستلهمة بالحكمة والاعتدال. كان من الضروري مشاطرة المثل والدوافع عينها. لذلك، رغب بونافنتورا في تقديم موهبة فرنسيس الحقيقية، وحياته وتعليمه. باندفاع كبير، جمع وثائق متعلقة بالفقير الصغير وأصغى بانتباه إلى ذكريات الأشخاص الذين جمعتهم معرفة مباشرة بفرنسيس. من هنا، نشأت سيرة حياة قديس أسيزي الدقيقة تاريخياً والمعنونة Legenda Maior التي كتبت أيضاً بشكل مختصر وسميت لهذا السبب تحديداً بـ Legenda Minor. خلافاً للكلمة الإيطالية، لا تشير الكلمة اللاتينية Legenda إلى نتاج خيال بل تعني نصاً موثوقاً "يقرأ" رسمياً. وفي الواقع أن المؤتمر العام للإخوة الأصاغر الذي انعقد في بيزا سنة 1263، رأى في السيرة التي كتبها القديس بونافنتورا أصدق صورة للمؤسس، فأصبحت سيرة حياة القديس الرسمية.

ما هي صورة القديس فرنسيس النابعة من قلب وقلم ابنه وخلفه المتفاني القديس بونافنتورا؟ النقطة الرئيسية هي أن فرنسيس هو مسيح آخر، رجل بحث عن الله بشغف. وفي المحبة التي تؤدي إلى الاقتداء، تشبّه به بالكامل. كان بونافنتورا يلفت أنظار كل تلاميذ فرنسيس إلى هذا المثال الحي. وهذا المثال الصالح لكل مسيحي في الماضي والحاضر وإلى الأبد، أشار إليه أيضاً سلفي الحبيب يوحنا بولس الثاني كبرنامج لكنيسة الألفية الثالثة. وقد كتب في رسالته "في مطلع الألفية الثالثة" أن هذا البرنامج متمحور حول "المسيح نفسه الذي يجب التعرف إليه ومحبته والاقتداء به لنعيش به الحياة الثالوثية، ونحول معه التاريخ حتى اكتماله في أورشليم السماوية" (رقم 29).

سنة 1273، شهدت حياة القديس بونافنتورا تغيراً آخراً. رغب البابا غريغوريوس العاشر في سيامته أسقفاً وتعيينه كاردينالاً. وطلب منه إعداد حدث كنسي مهم هو المجمع المسكوني الثاني في ليون، الذي كان يهدف إلى إعادة توطيد الشركة بين الكنائس اللاتينية واليونانية. فكرس نفسه لهذه المهمة لكنه لم يتمكن من رؤية ختام هذه القمة المسكونية لأنه توفي خلال انعقادها. وكتب موثق حبري مجهول الهوية مديحاً لبونافنتورا يقدم لنا صورة حاسمة عن هذا القديس العظيم واللاهوتي المتميز: "إنه رجل صالح ودمث الأخلاق وتقي ورحيم ومفعم بالفضائل، ومحبوب من الله والبشر… لقد وهبه الله نعمة كبيرة بحيث أن كل الأشخاص الذين رأوه شعروا بمحبة لا يستطيع القلب إخفاءها" (راجع J.G. Bourgerol، بونافنتورا، في A. Vauchez، قصة القديس والقداسة المسيحية، المجلد السادس. عصر التجدد الإنجيلي، ميلانو، 1991، ص. 91).

فلنتأمل في إرث هذا القديس، العلامة في الكنيسة، الذي يذكرنا بمعنى حياتنا بهذه الكلمات: "على الأرض… نستطيع التأمل بالعظمة الإلهية من خلال التفكير والتأمل؛ أما في السماء، من خلال الرؤية، عندما نصبح مشابهين لله، ومن خلال الذهول… ندخل في فرح الله" (معرفة المسيح، 6، خاتمة، في أعمال القديس بونافنتورا. Opuscoli Teologici/1، روما، 1993، ص. 187).

ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010