خطيئة الانسان وغفران المسيح ج1- الإبن الشاطر

 

الإبن الشاطر

(لو 15/11-25)

الأب انطونيوس مقار إبراهيم

راعي الأقباط الكاثوليك في لبنان

 

يسميه الكثير من مفسري الكتاب المقدس وخدام الكلمة مثل الابن الشاطر أو الضال كما أنهم يطلقون عليه اسم مثل الاب الرحيم المحب.

يكشف هذا المثل عن حالة الجفاف والشقاء التي عاشها الابن الضال بهروبه من بيت ابيه من جهة ومن جهة اخرى عن حب الأب واشتياقه ورحمته وقبوله لعودة ابنه فنراه يركض نحوه لا ليعاتبه أو يعاقبه بل ليضمه اليه ويقبله. ومن ثمّ يوجه الاب حديثه الى الخدم ليظهر اعمال الرحمة تجاه ابنه التائب الراجع اليه: فرح كبير وعرس لا ينتهي بالرغم من تذمر الابن الاكبر الذي يمثل الانسان المنهمك في الارض والمرتبط بها لدرجة نسيانه حب ابيه وبنوته له فأصيب هذا الابن بنوع من  الغيرة والحسد والشعور بالوحدة ووقف عند عتبة الباب ولم يشأ أن يدخل فصار بهذا عبداً. هذه  قصة من عمق الانجيل تضعنا اليوم على المحك في مسيرتنا نحو حضن الآب حضن المحبة والرحمة والحرية، قصة التغيير الذهني الحقيقي حول مفهومنا عن الله أو تصورنا له، فنحن غالباًً ما نتصوره في اذهاننا أنه رقيب  يحمل قضيب من حديد لمعاقبة من يخالف له امرًا وقد ولّد هذا التصور فينا الشعور بأننا دائماً تحت نير العبودية المكبل تماماً لحريتنا التي في أوقاتٍ كثيرة نفهمها على طريقتنا ونسعى للحصول عليها حتى بالطرق الاجرامية أوالانتقامية أو الانقسامية وتدفع بنا هذه الطرق الى ترك المنزل الابوي والوقوع في الخطيئة ولا سيما خطيئة رفض الابوّة.

قرر الابن الأصغر في ذاته رفض العيشة العائلية وتطلع الى الاموال وكأنها هي وحدها مصدر سعادتة ودفئه وقال مع نفسه لأبيه "أعطني حصتي من الميراث" واعتقد ان المال سييسر له العيش بشكلٍ أفضل مع أصدقاءٍ جمعتهم صفة واحدة هي تبديد الاخلاق وهتك الحرية كما عبر الرسول بولس بالقول " المعاشرات الرديئة تفسد الاخلاق الجيدة".

حمل الابن نصيبه وغادر منزل ابيه الى بلدٍ بعيد مبدِّدًا ما قد حصل عليه في حياة الخلاعة والسهر واللهو لدرجة الطيش الذي أدى به في نهاية الأمر الى فقدان ما يملكه كلّه وتحوله السريع الى حياة الفقر المدقع وشهوة العمل الدنيْء لا بل إلى اشتهاء الأكل من خرنوب الخنزير. إذًا عانى هذا الشاب بعد إنفاقه كل شيء من حالة الجوع الشديد الذي حلّ بالبلد وشكا من العوز وصار في فراغ وقلق وفي خيبة الأمل. كم عدد المرات التي نتذمر نحن فيها على الله ونعاتبه ونتهمه بأنه تركنا ولم يعد يهتم بنا والواقع أن الله لم يتركنا بل أنّنا كثيراً ما نسرع وراء ملذاتنا وشهواتنا وغرورنا وأنانيتنا الى كورةٍ بعيدة شبيهة تماماً بكورة هذا الشاب فيها نفقد عزتنا وكرامتنا وإنسانيتنا الى أقصى درجات الانحطاط الاخلاقي والانساني.

 

ماذا تقول لنا هذه القصة اليوم:

العيش الدائمً في  حياة الفرح بالمسيح  الذي هو الزاد والقوت اليومي في مسيرتنا نحو الآب . يولّد فينا هذا الفرح دموع الفرح لبدء مرحلة جديدة في الحياة تصل بنا الى الأحضان والقبلات وذبح العجل المسمن، وإعطاء الحلة الجديدة فيجب علينا إذّا أن نفرح " فرح الملائكة" "وفرح الجيران""وفرح الآب نفسه" وفرح الابن  فرح الروح القدس العامل في الكنيسة.

 

الوعي التامًّ أن الله اعطانا جسداً له وليس لحياة الخلاعة. "أما الجسد فليس للزنى بل للرب والرب للجسد"على ما يؤكده الرسول بولس في شأن قدسية الجسد الذي منه ننطلق الى تمجيد الله"ألستم تعلمون أن أجسادكم هي هيكل الروح القدس؟" فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله".

 
     
 أخذ القرار الحاسم بالعودة والمصالحة "أقوم وأمضي إلى أبي فأقول له: يا أبت إني خطئت إلى السماء واليك، ولست أهلا بعد ذلك لان ادعى لك ابناً، فاجعلني كأحد أجرائك". المصالحة هي حياة السير في نور المسيح حيث منه أشرق نورٌ عظيمٌ على السالكين في الظلمة وظلال الموت. أيّ أن فعل التوبة هو فعل الانتقال من الظلمة الى النور ومن الموت الى الحياة "لأن ابني هذا كان ميتا ً فعاش وكان ضالاً (في الظلام) فوجد (في النور)" الشعور المستمر بأن فعل الخطيئة هو بمثابة سيف موجه إلى قلب الآب المحب.

 

الثقة الثابتة في حُب الآب من جهة والتأكيد على أننا مولودون لحياة النعمة بالروح القدس الساكن فينا من جهة أخرى.

 

القناعة بأن الحرية لا تكمن في قرار الابتعاد عن حضن الآب انما في معرفة هذا الآب والعودة اليه حيث يفتح المسيح ذراعيه ليستقبلنا "وتعرفون الحق والحق يحرركم".

 

الامتلاء من حبّ الله كي تستطيع أن ترى بعينٍ نقية الخطيئة الكامنة في داخلك وعندها تصير في الواقع كارهاً لها وعائشاً في صداقة حميمة مع الرب.

الطلب من الله نوال كل نعمة وبنوة تمكنانك من العيش بفكر متجدد يعيدك إلى ذاتك الإنسانيّة الحقّة.

 

السعي إلى تنمية القدرة في داخلك على تذوق حلاوة الله ومرارة الخطيئةما من شأنه أن يحثّك على العيش في جوّ الله: "ذوقواوانظروا ما أطيب الربّ".

 

اكتشاف أبعاد حب الله واتساع قلبه وكثرة الخيرات في بيته بالتوبة الحقيقية الصادقة. ردّ له ما له  فقد اعطاك الكثير من المواهب والخيرات والعلم والصحة والجمال والذكاء والمال ايضاً. تعالى اليه وأسرع نحوه فهو حاضر ليضمك الى صدره ويقيم لك وليمة العرس الالهي (جسده ودمه الدائم على المذبح).

 

خلاصة القول أنّ الرجوع الى الآب يعني العودة الى الحب الى الدفء العائلي " عائلة الثالوث" الى معشر الملائكة والقديسين الرسل والشهداء والابرار والصديقين  في فرح السماء المستمر على الدوام هكذا يكون فرحٌ في السماء.

 

اعتراف الابن الاصغر:

انا شاب في مقتبل العمر نشأت في عائلة رابطها الوحيد هو الحب. أبي رجل غني جداً له الكثير من الخدم والحشم لي اخ اكبر مني يعمل دائماً في الحقل وانا الابن المدلل أردت أن اغير في نمط حياتي فقررت أن أقوم بعمل لا تقره شريعة وهو طلب ميراثي بالكامل وما زال والديّ على قيد الحياة. استجاب لي وأعطاني حصّتي بدافعٍ من محبّته واحترامه لحريّتي. حملتها وذهبت بعيداً وغريباً في كورة لا أعرف فيها احدًا اجتمع حولي عدد من الاصدقاء فرحت بهم ورأوا هم في المنقذ لهم من الجوع والفقر فتحايلوا علىّ للذهاب الى اماكن لم اعتد عليها من قبل وهناك خدعت وظننت أنني وجدت السعادة المفقودة والحرية في السهر واللهو والفساد والشهوة وتذوق الحياة بطعم جديد لا رقيب عليه ولا من موجه له أو مرشد  اتصرف بما أملكه بملء ارادتي مكتفياً بهؤلاء الاصدقاء الذين كانوا يرافقونني يومياً في التنقل بين أماكن الخلاعة والدعارة والملاهي منفقاً المال متلذذاً بالخطيئة. لم يجحبّني اصدقائي لذاتي بل احبوا اموالي وقد تحالف معهم الشيطان على استنزاف كل شيء بكلماتهم المعسولة واغانيهم الصاخبة وضحكاتهم الشريرة وسهراتهم الحمراء. فكم قضيت اياماً مستلقياً في حضن اشخاص لم اعرفهم ولم تربطني بهم أي قرابة أو صلة سوى الشعور بالشهوة واللذة وكأنه عهد ابرمه الشيطان.

لم ينجح خط سيري نحو الحرية التي طلبتها على قياسي وحسب هواى فسرعان ما سقطت في براثن العبودية لشهواتي ونزواتي  ورغباتي. لقد كنت فريسة سهلة لأصدقاء السوء وألعوبة في يد الشيطان وبعد أن أفلست تماماً تركوني جميعهم وحيداً فقيراً جائعاً. دب في داخلي الشعور بالخوف والرعب على فقدان حياتي وشعرت بأنني تحولت من ابنٍ لرجل غني إلى عبدٍ حقير ذليلٍ.

تخليت عن المحبة الابوية وخلعت ثوب الجلال وفقدت الرجاء والأمل أقمت في الخطيئة ولم اتمكن من إدراك معناها الكامن في فقدان المبادىء الانسانية والاخلاقية. أسأت فهم الحرية والاستقلالية وقتلت أبي وهو بعد على قيد الحياة بطلبي الميراث وسرعان ما انحدرت الى أدنى مستوى من البؤس والشقاء والتعاسة. مع ذلك بقي لي باب واحد رجوت أن اجد فيه خلاصي وهو الرجوع الى النفس والاعتراف بالخطأ بالتوبة والمصالحة وعدم التأجيل فقلت في نفسي " كم من أجير عند ابي يفضل عنه الخبز وانا هنا اموت جوعاً" لذا جاء قراري حاسما ونهائيا اقوم الآن واعود الى ابي معترفاً بجرمي الشنيع الذي شطر البيت الى نصفين واطلب من ابي أن يجعلني كأحد اجرائه. الخروج من حضن العائلة الى اللهو كان سهلاً فهل يا ترى تكون العودة سهلة هي أيضًا؟ ها أنا أبتعد من منفاي وأقترب  من المنزل الوالدي. لقد تحرّق قلبي بالحنين فنظرت إلى الأمام وفوجئت بما فاق توقّعي فوجئت بتلهّف أبي واشتياقه إلى عودتي. لقد رأيته مسرعًا نحوي وكأنّه كان ينتظرني على الدوام فقلبه كان مليء بالحب والرجاء والأمل والقوة على الخلاص.تحنن علىّ وحدث الفرح العظيم فرح البنوة له.



تعال يا بني فمنذ أن تركت البيت وانا ساهر اترقب عودتك لأعطيك الحلة الجديدة التي لا يمكن أن تتلوث مرة اخرى بالخطيئة فعودتك وتوبتك هما بالنسبة إلي فرحًٌ عظيمً جداً تعال وارتدِ ثوب المغفرة واغتسل من الاوحال والاوهام التى سلكت فيها بعيداً عني. أرد لك السعادة المفقودة التي ظننتَ انّك تجدها بعيدًا عن الحضن الأبويّ. لقد اغرتْك مناصب شهوانيّة وهميّة ملؤها الكذب والشرّ ونهايتها الندم والألم المتفجر في بركان ثورة الهلاك الملتهب سعيرها في عالم الخطيئة والعبودية.

ابني الحبيب أعلن اليوم بملء الحرية والتضحية أمام الجميع أن ميراثك الحقيقي وشبعك وسعادتك هي جميعها بالقرب مني في مجمع الابرار والصديقين تعال الى بيت المحبة بيت المجد والكرامة. خذ مكانك حلتك الأولى  خاتم المُلك وضعه في يدك وحذاءاً في رجليك لتكون حراً طليقاً في ملكوتي الأبوي.

 

أخي الحبيب :

إعتبرْ من هذه القصة واجعلها قصتك وحكايتك مع الرب كم هي المرات التي اردت فيها أن تسعى وتبحث عن السعادة بالكذب والنفاق والنظرات الشريرة والسرقات في عيش حياةٍ بعيدة عن الله ؟ كم من مرة ذهبت بعيداً الى حياة اللذة والخطيئة وصرت عبداً تعيساً لا تجد الشبع؟ هل ما زلت تذكر ان الله الاب السماوي يحبك وبذل ابنه الوحيد من اجلك؟ هل تثق أنه في انتظارك يفتح ذراعيه ليضمك اليه؟هل تستطيع ان تقر وتقول الله يحبني ويعلن فرحه وابتهاجه بعودتي؟ هل ادركت أن الهروب من الله هو وصول الى الهلاك؟

تعال اليوم اليه وارتمي عنده وقل له مع هذا الابن " قد اخطأت اليك والى السماء" وردد مع داوود النبي اليك وحدك خطئت والشر قدام عينيك صنعت". فحررني من أنانيتي ومن الامورالكاذبة كافة ومن الحكمة الارضية وقدني اليك وانقذني من حالة الجوع والضياع فأنا جائع الى حبك الى مجدك الى غناك كم انا في اشتياق الى أن آتي اليك وأروي عطشي من نبع الفضيلة ونعمة الروح القدس التي تملأ حياتي بالفرح والسلام وتمكّني من التطلع بأمل ورجاء تجاه مستقبلي الابدي.  فأنا انسانُ خاطىء وأنت ربٌ غافر أرجع وأعترف إليك يا رب ومخلصي. لقد ظننت أن الفرح والسعادة هما في التخلي عنك  والدخول الى العالم ولكن الواقع المر أنّني لم أجد إلا التعاسة والشقاء والضياع والحزن والوجع والالم أرجع إليك يا الهي وخلاصي فتفرح نفسي الحزينة التي ماتت في بحر الشهوات وتألمت في أوجاع العالم وظلمته القاسية أرجع اليك يا صاحب الحنان وقلبي يملاؤه الرجاء والامل في ان تقلبني لأعاين وجهك   وأعيش في نورك يا مجد القديسين وسعادة الابرار.