مكانة المرأة في الفكر المسيحي

 

الأب رفعت بدر

الرأي الأردنية – الجمعة، الصفحة الدينية – 19\\2\\2005

 

المرأة في الكتاب المقدس

 

يقول سفر التكوين: "خلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم" (التكوين: 27:1). وتتضمن هذه الفقرة المقتضبة الحقائق الاساسية لعلم اصول الجنس البشري. فالانسان هو في قمة نظام الخلق كله، في العالم المنظور. والجنس البشري الذي يبدأ في اللحظة التي دعي فيها الرجل والمرأة الى الوجود ، يتوج عمل الخلق كله. فكلاهما كائنان بشريان، رجل وامرأة متساويان، وكلاهما مخلوق عل صورة الله تعالى ومثاله. وهذه الصورة، أي الشبه بالله، هي أساسية في تكوين الكائن البشري، تنتقل بواسطة الرجل والمرأة ، كزوجين وأبوين الى ذريتهما: "أنموا واكثروا وأملأوا الارض وأخضعوها" (تكوين 1:28). ولقد وكل الخالق أمر التسلط على الارض الى الجنس البشري، أي الى الاشخاص جميعا، الى جميع الرجال والنساء، الذين يستمدون كرامتهم ودعوتهم من أصلهم المشترك.

 

يقول القديس أغسطينوس، الجزائري الولادة والمنشأ، ان الله تعالى لم يخلق حواء من رأس آدم لكيلا تتسلط عليه، ولم يخلقها من قدميه، فيستلط عليها، وانما استلها من ضلع آدم، لتكون شريكة ومساوية له. ولهذا فالنص الكتابي يقدم الاسس الكافية للتعرف على المساواة الاساسية بين الرجل والمرأة. وعندما لم يحسن بالرجل أن يكون لوحده، خلق له الرب حواء، لتسير معه وتتشارك معه في الحياة "كلحم من لحمه وعظم من عظامه" (تكوين 2:23).

 

مريم العذراء، مثال المرأة المؤمنة والنشطة

 

ويمكن تلخيص المبادئ التي تيضمنها سفر التكوين، وهو الكتاب الذي يتحدث عن الخلق وبداية الحياة البشرية، بالقول ان المرأة كائن بذاته لا يتغير، وانها مساوية للرجل في الطبيعة، وهي مدعوة الى أن تبذل ذاتها من غير مقابل. والمرأة مدعوة الى أن تكون زوجة لرجل واحد ما دام حيا وأن تكون له زوجة أمينة "لذلك  يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته ويصير الاثنان جسدا واحدا". وهي مدعوة الى أن تكون أما، وهي مسؤولة ليس فقط عن انحرافها بل عن انحراف الرجل أيضا، لذلك قال آدم بعدما دخلت الخطيئة الى قلبه: "المرأة التي جعلتها يا الله معي هي التي أغوتني فأكلت من الشجرة التي حرمتها أنت".

 

أما في العهد الجديد، فيظهر مثال المرأة الصالحة أولا في شخص مريم العذراء. فأول بشارة بالخلاص بعد الخطيئة تمت الى امرأة هي مريم العذراء. فبشرها الملاك انها ستكون اما للسيد المسيح، ولذلك مثلما دخلت الخطيئة الى العالم عن يد امرأة (حواء) دخلت النعمة الى البشرية عن يد مريم العذراء التي يدعوها اللاهوت بحواء الجديدة. فهي أم وعذراء ومثال المرأة الصالحة، وتوحي للكنيسة والبشرية بالكثير من كرامة المرأة ودعوتها السامية.

 

وقد تعامل السيد المسيح مع المرأة بمنتهى الاحترام لكرامتها والتقدير لحقوقها. وهنالك العديد من النساء اللواتي تبعنه في دعوة الانجيل وخدمن تلاميذه لتسهيل مهمة التبشير لديهم. ولذلك وصف السيد المسيح المرأة ،  ولا سيما في أمثاله ، بالحيوية والنشاط  كما في مثل المرأة والخميرة والمرأة والدرهم الضائع، وفلس الارملة والعشر عذارى الحكيمات اللواتي يبقين على مصابيحهن موقدة، علامة علىالايمان والضمير الصاحيين.  ورافقت يسوع بعض النسوة حتى أقدام الصليب، وكن أول من عرفن بقيامته المجيدة. وقد علم السيد المسيح أن الزواج سر رفيع، يتم بين الرجل والمراة باتحاد مقدس، يترك فيه الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصير الاثنان جسدا واحدا. وللمسيح تعود الاية الكريمة أن "ما جمعه الله لا يفرقه الانسان"، ملغيا بذلك الدعوة الى الطلاق في الكنيسة.

 

وأتوقف عند حادثة خاصة لما لها من دلالات، حيث أوتي الى المسيح بامرأة قد أخذت في زنى، فسأله اليهود بالتحدي: ان موسى قد أوصانا في الشريعة برجم أمثالها، فأنت ماذا تقول: "فقال لهم: من كان منكم بلا خطيئة، فليتقدم وليرمها بأول حجر. فانصرفوا واحدا بعد الآخر، فقال السيد المسيح للمرأة: أين هم؟ ألم يحكم عليك أحد؟ فأجابت لا يا سيدي. فقال لها: وأنا لا أحكم عليك، اذهبي، ولكن لا ترجعي الى الخطيئة مرة أخرى (انجيل يوحنا 8: 3-11). ففي الوقت الذي يشجب فيه المعلم الخطيئة ويدينها كفعل مشين، لكنه لا يحكم على الخاطئ، بل يرحمه ويصفح عنه. فالشخص كرامته مقدسة حتى وهو غارق في الخطيئة.

 

أما القديس بولس، فبعدما دعا المرأة الى أن تحب زوجها حبا متبادلا ومضحيا، فانه يشدد على أهمية الاحتشام بقوله: "أريد أن يكون على النساء لباس فيه حشمة وزينة فيها حياء، ورزانة لا بشعر مجدول ولآلئ وثياب فاخرة، بل بأعمال صالحة تليق بنساء تعاهدن تقوى الله". (1 طيموتاوس 2: 9-10).

 

في تعليم الكنيسة الاجتماعي: في العصر الحديث، طور قداسة البابا يوحنا بولس الثاني التعليم الرسمي حول دور المرأة في الكنيسة والمجتمع، فكتب رسالة راعوية عام 1988 بعنوان "كرامة المرأة" وقد وضع فيها المبادئ الرئيسة للتعليم الكنسي فيما يختص بكرامة المرأة ودعوتها في خدمة بيتها ومجتمعها وكنيستها وأن تكون المسهمة والفاعلة في بناء شريعة المحبة الحقيقية التي يعطش اليها العالم.

 

وأظهرت الرسالة بشكل جلي ما للمرأة من كرامة وما لدعوتها من أثر في تاريخ البشرية الخلاصي، وقد انطلق قداسة البابا في تأمله العميق حول معنى الانسانية من الكتاب المقدس، ليفسر حكمة الله في خلقه الانسان ذكرا وأنثى. "فالفارق الجنسي" لم يكن صدفة، انما هو من تصميم الله، لأنه تعالى أراد لكل منهما دعوة مميزة، وقد خصّ المرأة بدور أساسي لا يستغنى عنه.

 

وقد شدّد البابا على ضرورة احترام كرامة المرأة التي كثيرا ما لحقها ضيم اجتماعي. وبين عظمة دعوتها ببعديها: الامومة والبتولية. فالتطور التكنولوجي الذي تشهده الانسانية الآن يحاول انتزاع قيمة "الامومة" من المرأة. فوسائل الانجاب الاصطناعي أو طرق الامومة المستعارة جعلت من الامومة وكأنّها وظيفة ميكانيكية أو مستعارة. وليس صفة مغروسة في العمق في كيان المرأة، وهذا ما يقلل من "سر الامومة" ويجعلها تافهة. كما ان الابتذال في مجال السلوك الجنسي، يحاول أن ينتزع منها قيمة العذريّة؛ فتفشي الحرية الجنسية بدون رادع داخلي، أو بدون رسم حدود أو أطر للسلوك، جعلت من العذرية خرافة أو وهما وغير ذات قيمة.

 

ورأت الرسالة أن للمرأة دورا مميزا تجاه البشرية وفي مناحي الحياة كافة، وتجاه الرجل بشكل خاص؛ فهي وحدها القادرة، بشكل لا مثيل له، أن تدخل الى كنه الانسان، وتفيض المحبة في القلوب، وهي أفضل من يشعر مع الانسانية، فلا أحد أقرب منها الى الانسان: لقد كان جزءا منها، نما في أحشائها، أحست به من الداخل، وأرضعته وهو على صدرها وفي قلبها، وهي أفضل من يعلن أن الله هو المحبة.

 

هذا في الوقت الذي تشدد الكنيسة على ما للجنس من أبعاد روحية وانسانية تفوق المتعة الآنية. ولذلك فالتعليم يصل الى وسائل الاعلام والاتصال الحديثة التي لا تتوانى عن استخدام الجسد، وبخاصة جسد المرأة، كسلعة تباع وتشرى. فالاباحية الجنسية تقتل كرامة الزواج والحياة العائلية وتضعف الوتر الاخلاقي الرفيع في المجتمع. وتجعل المرأة أمة وجارية لا حرة ولا صاحبة كرامة مقدسة تستمد قيمتها من كرامة الخالق.