عشر سنوات على زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى الأرض المقدسة

 

الأب رفعـت بدر – عن ابونا

(1)

 

عقد من الزمان انقضى، ومرت الأيام سريعة، منذ زيارة البابا (المكرّم اليوم) يوحنا بولس الثاني، وما زلنا نذكر بالفخر والسرور، تقبيله لتراب الأرض المقدّسة، حالما حطت طائرته في مطار عمّان، ليزور في يومين بعضا من مواقعنا المقدّسة: جبل نيبو وموقع المعمودية – المغطس، وليحتفل في وسط العاصمة الحبيبة، عمان، بقداس سنبقى نذكره ما حيينا، منطلقا بعدها إلى أرض الفداء، أرض المصلوب والقائم، التي ما زالت تتوق إلى من ينزلها عن الصليب، ليقرّبها من لحظات قيامتها وحريتها.

 

واليوم، نذكره ولم ننسه، يوما، وصارت الذكرى 3 ذكريات: بولس السادس، وهو، وبندكتس السادس عشر، 3 أحبار رومانيون زاروا أرضنا، تبركوا بها، وباركونا فيها، وكل منهم بذر بذارا صالحة، بالكلمة التي لن تغيب، ليس لأنها محفوظة في مكتباتنا وعلى أجهزة الحاسوب، بل لأنها مثلت صوتا لا يضعف أمام مغريات العصر، تدعو إلى احترام كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، وبخاصة الحرية الدينية التي هي "أم" الحريات جميعها.

 

ونتذكر في هذه الأيام، بشكل خاص، زيارة البابا "فويتيلا"، وقد أتانا في سنة اليوبيل السعيد، حبرا جليلا، و"جدّا" لطيفا، كما وصفه أحد الأطفال على بوابة المطرانية في عمان، إذ كان محمولا على كتف والدته، يريد أن يرى "جدّو".

 

كبر ذلك الطفل اليوم، ورحل "جدّو" ، فأصبح عام 2010 ذكرى عشر سنوات على زيارته لأرض المسيح، وفي ذات الوقت 5 سنوات على رحيله "إلى منزل الآب" كما نطق في آخر لحظات حياته الأرضية، في بداية نيسان 2005.

 

وبتنا في الذكريين، نرقب قرار "الفاتيكان" وخليفته، ورفيق عمره وعمله، البابا راتسنجر، ليعلن للعالم موعدا لتطويب سلفه سعيد الذكر، وما الإعلان هو المهم، وانّما دلالة الانتظار، من شعب رأى فيه قديسا، إذ كان حيا، ورأى فيه قديسا على الفور Santo Subito، لحظة رآه مسجى، جمع كل أقطار الأرض  في جنازة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، نظرا للحضور الكثيف، رسميا وشعبيا، ومن مختلف الملل والنحل والطوائف والديانات. واليوم يرقب رؤيته قديسا، ليجد فيه شفيعا للعائلة والكاهن والشباب الذين أحبهم وأحبوه، رغم فارق السن، وما كان الفارق في القلب الذي شاب الرأس فوقه، وانحنى الظهر، لكنه ما شاب. وكان يقتبس من أمثال بلده بولونيا، فيقول: "عش بين الشباب، تبقى شاباً". وهذا العام، 10 سنوات على زيارة البابا، و25 سنة على اللقاءات العالمية للشباب التي حققت، بدون شك، ارتدادات عديدة، وخبرات فريدة يفتخر بها "مستقبل الكنيسة"، أي الشباب.

 

(2)

 

ماذا تبقى من زيارة الأرض المقدسة؟ وبعدما ظننا أنها جاءت ستخلق أرضا جديدة وسماء جديدة، ماذا تبقى لنا منها؟

 

الحياة سلسلة خيارات، قد تكون صغيرة، وقد تكون جذرية وحاسمة. والإنسان يجني ثمار خياراته، صائبة كانت أم مخطئة. وهكذا الأرض المقدسة، اختارت عقب الزيارة أن تشعل الأرض من جديد، في الانتفاضة الشعبية الثانية، التي لم تحقق مع الأسف سلاما ما زال إلى اليوم، منشودا، وبقي العدل غائبا، والحرية غير متحققة. وكم من أشخاص رحلوا اليوم، وكانوا في مراكز السلطة آنذاك، ومن بينهم الرئيس الفلسطيني عرفات الذي استقبل البابا في بيت لحم، وشاركه في زيارته التاريخية الى المخيم الذي ما زال شاهدا لمعاناة "شعب يستحق أن ينال وطنا ذا سيادة"، كما قال البابا كارول في الدهيشة.

 

رحيل تلو رحيل، وما زال الاحتلال عصيا على الرحيل. وما زال السلام هو الغائب الأكبر. سيّما بعدما اختار الإرهاب توجيه أقوى ضربة للعالم، بعد الزيارة بسنة ونيف، وكان يوحنا بولس الثاني ما زال على الأرض يعلم، فصرخ من وسط الركام: "لا سلام بدون عدالة ولا عدالة بدون مسامحة". كلمات نبوية ما زال بعض من أصحاب النوايا الحسنة يحنّون إلى تطبيقها. وأمام بناء جدار الفصل الجديد، صرخ: "يا ناس، يا عالم: ابنوا جسورا لا جدران". وأمام خيارات العالم المتحضر، في شنّ حروب جديدة، أهمّها في أفغانستان والعراق، رفع صوتا منفردا، في العالم، شاركته به شعوب مسالمة، "ليس في الحرب رابح وخاسر، بل الكل خاسرون". وها العالم يجني، بأطراف النزاعات المسلحة كافة، مرارة الخسارة، بينما تحاول قوى الإرهاب أن تتسلم زمام أمور العالم. ولو كان أبناء هذه الدنيا ولاعبو السياسة قد سمعوا نداء "بابا السلام"، لوفروا على الدنيا ضحايا عنف وإجرام كبيرة.

 

خيارات العالم … جعلت من الصعب أنْ نجني ثمارا صالحة لبذار السلام التي بذرها البابا.

 

(3)

 

 

ولنترك السياسة لذويها ومحترفيها، ولنقف قليلا عند الأوضاع الكنسية اليوم، وبخاصة كنيسة الأرض المقدسة، وقد احتفلت قبل الزيارة بشهر واحد، بانعقاد الجمعية العمومية للسينودس الأبرشي في فندق غير بعيد عن كنيسة المهد، كنيسة التجسد، لتسلم البابا الضيف في تلك السنة، وثيقة "المخطط الرعوي العام"، وبداية العمل الرعوي بتنظيم الهيئة الرعوية الكاثوليكية. وأصبحت ذكرى الزيارة، كنسيا، هي أيضا ذكرى المخطط الرعوي العام، الذي أودعنا هو أيضا، شأنه شأن البابا الكبير، دعواته وتوصياته وآماله وطموحاته. وبعد عشر سنوات، يحق لنا التساؤل: هل كنا بمستوى طموحات البابا فينا؟ وهل أصبنا من النضوج لنرتفع إلى قامة "المخطط الرعوي الشامل" الذي ما زال إلى اليوم يزيّن رفوف مكتباتنا؟

 

 

وهنا، كلمة حق يجب أن تقال، في المجموعات التي تشكلت، اثر التئام الجمعية العمومية، أي أعضاء الهيئة الرعوية الكاثوليكية، فقد بقوا يتأملون خيرا، يقودهم الأب رفيق خوري، الأمين العام طوال عقد من الزمان، وبقوا يحلمون معه، كهنة ورهبانا وعلمانيين، بأن تعصف رياح التغيير الايجابي في كنائسنا وفي رعايانا وفي مؤسساتنا، وراهنوا على إدخال رياح التغيير تلك إلى كل بيت والى كل ضمير. وكم أجروا من اجتماعات، وكم وقعوا على توصيات وقرارات، وكم عقدوا من جلسات تفكير لم تخل من لحظات صلاة، في مناطق التمثيل الثلاث: فلسطين والأردن والجليل. وكان التحدي كبيرا في خلق حالة من "اليقظة" في الكنيسة، إيمانا وشركة وشهادة.

 

وأجد نفسي مضطرا للقول، بنبرة لا تخلو من الحزن، بأننا لم نحقق كثيرا ممّا تأملناه، لا عقب الجمعية ولا عقب الزيارة، ولا حاجة للدخول في التفاصيل والأسباب، الا أنّني أرجو أن تكون الذكرى العاشرة للحدثين، مناسبة لإعادة الحسابات الكنسية، وكلنا معنيون بها، رعاة ومؤمنين، في إعادة قراءة كل من المخطط الرعوي والكلمات النبوية التي نطق بها الراحل الكبير في حجه إلى الأراضي المقدّسة، وبشكل خاص الكلام الذي حثنا به على إتاحة الفرصة للعلمانيين بأن يأخذوا مكانهم ومكانتهم، وما هما منّة أو عطية من أحد، بل هو حق لهم، وعلينا أن نحترم مطالبتهم به، إلى أن يتحقق التوزيع العادل، بين الرعاة والمؤمنين، فيعرف كل "مشارك" في عمل الكنيسة، ما هي حقوقه وما هي واجباته. قال البابا في ستاد عمّان: "إلى العلمانيين أقول: لا تخافوا في أن تأخذوا في الكنيسة مكانكم ومسؤوليتكم! كونوا شهودا بواسل للإنجيل الطاهر في عائلاتكم وفي المجتمع"!.

 

إليكم يا أخوتي العلمانيين أقول: لا تخافوا … فمستقبل الكنيسة لن يتحقق بدونكم.

 

(4)

 

 

وبعد، نظرة الى المستقبل، وقد أتجرأ وأجعلها تفاؤلية. وفيما تستعد كنائس الشرق لانعقاد سينودس جديد، أوسع من الأول، وتجري له الاجتماعات وتعبئة استبانة الخطوط العريضة، نجد أنفسنا من جديد، محكومين بالأمل، في قادم الأيام، بالرغم من الضباب السياسي في الشرق، ومن أوضاع اقتصادية غير عادلة، زاد فيها الأغنياء غنى ماديا والفقراء فقرا … وصارت الفجوات المالية، فجوات معرفية … وفضاءات من الفوارق الاجتماعية، وبالرغم كذلك من أوضاع الحريّات الدينية التي تبدو بأسوأ حالاتها … الا "أن أبناء النور والملكوت" وان بدوا أكثر "غباء" من أبناء العالم، ما زالوا يصلون، الى الرب الكبير، لكي يعيد بحكمته، لحمة البشر ومساواتهم، دون تمييز، بين واحد وآخر، فالكل محبوبون والكل مخلوقون على صورته تعالى ومثاله، هذا ما أفنى الراحل الكبير أربعة وثمانين ربيعا ينادي من أجله.

 

 

وهذا الربيع ، وفيما نتذكر عشر سنوات على تلك الزيارة العزيزة، نشكر الرب عليها من جديد، ونشكره تعالى على خليفة يوحنا بولس الثاني، الذي جاء هو بدوره قبل عام الا نيف  وسار على ذات الدرب تقريبا ، يذكر بيوحنا بولس، وبجذور الإنجيل الضاربة في التراب المقدس، تدعو الناس إلى مزيد من السماحة والمسامحة.

 

ويطل علينا "سينودس الشرق" لكي يجدّد مسيرة "السير معا"، ويجعلنا نقرأ الأحداث ونتطلع إلى علامات الأزمنة، التي لا يخلو زمن منها، بعيني الإنجيل، لا بأعين الحساسيات الطائفية البغيضة والخانقة لروح الإنجيل الخلاقة. فهل نحن مستعدون لمغامرات جديدة من التوصيات؟

 

(5)

 

 

أتراني شطحت كثيرا بينما كنت آمل أن أتحدّث عن عشر سنوات مضت على زيارة الحج؟ فلتكن شطحة سريعة، ليس فقط في لحظات الاحتفال باستقبال حبر أعظم هو الآن في مقرّ السعادة، وانّما عبر عشر سنوات من حياة العالم والكنيسة المحلية. عشر سنوات لا تخلو من المرارة، لكنّها تبقى دعوة مفتوحة، وسط مشاغل الوقت الراهن، لمزيد من التفكير، والصلاة طبعا، لكي لا يفقد العالم مزيدا من توازنه، ولا الكنيسة -وأعني الكنيسة المحلية: أي كنيسة يسوع ومريم والرسل والشهداء، والقبر الفارغ- مزيدا من نشاطها. وللعالم كما للكنيسة اليوم شفيع لن ينساهما، بل سيصلي من أجلهما لكي يخدما الإنسان بدون غرق بلغات المصالح الضيقة والتنافسات البغيضة.

 

 

ولعل الخطوط العريضة للسينودس الحالي والتي تركز في فصولها كافة على فضيلة الرجاء، تكون خير معين في المستقبل على مزيد من حياة "الإيمان والشركة والشهادة"، ثلاث كلمات حفل بها سينودس أبرشي بالأمس، ويتبناها سينودس إقليمي اليوم، وستؤتي ثمارها اليانعة، غدا، بإذن الله.

 

شكرا يوحنا بولس الثاني،

لأنك ما زلت، من عليائك، تذكرنا بهذه الثلاثية … الخلاصيّة