رسالة بندكتس السادس عشر إلى كاثوليك إيرلندا

"كفروا عن ذنوب الاعتداء التي سببت الكثير من الأذى"

حاضرة الفاتيكان، الاثنين 22 مارس 2010 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي القسم الأول من الرسالة الرعوية التي وجهها بندكتس السادس عشر لكاثوليك إيرلندا، ونشرها الكرسي الرسولي نهار السبت الفائت.

***

1.أيها الإخوة والأخوات الأعزاء في كنيسة إيرلندا، أكتب إليكم بقلق شديد كراعي الكنيسة جمعاء. لقد شعرت مثلكم بانزعاج كبير جراء الأنباء التي كشفت عن اعتداءات ارتكبها أعضاء في الكنيسة في إيرلندا، ومنهم بخاصة كهنة ورهبان، بحق أطفال وشباب ضعفاء. لا يسعني إلا أن أشاطر شعور الاستياء والخيانة الذي أحس به العديد منكم عند العلم بهذه الأعمال الإجرامية الأثيمة، وبالطريقة التي عالجتها بها السلطات الكنسية في إيرلندا.
أنتم تعلمون أنني دعوت مؤخراً أساقفة إيرلندا إلى اجتماع هنا في روما ليقدموا المعلومات حول الطريقة التي عالجوا بها هذه المسائل في الماضي، ويشددوا على الخطوات التي اتخذوها للاستجابة لهذه الأزمة الخطيرة. إلى جانب مسؤولين كبار في الكوريا الرومانية، أصغيت لما أرادوا قوله فردياً وجماعياً، إذ قدموا تحليلاً للأخطاء التي ارتكبت والعبر التي أخذت، ووصفاً للبرامج والبروتوكولات المعمول بها حالياً. كانت مناقشاتنا صريحة وبناءة. ونتيجة لذلك، إنني واثق بأن الأساقفة سيكونون في وضع أقوى لاستكمال عمل التعويض عن أعمال الظلم الماضية ومواجهة القضايا الأوسع نطاقاً المرتبطة بالاعتداءات على القاصرين بطريقة منسجمة مع متطلبات العدالة وتعاليم الإنجيل.

2. من جهتي، ونظراً إلى خطورة هذه الاعتداءات، والاستجابة غير الملائمة لها من جهة السلطات الكنسية في بلادكم، قررت أن أكتب إليكم هذه الرسالة الرعوية لأعبر لكم عن قربي منكم وأقترح عليكم درب شفاء وتجدد وتكفير.

صحيح أن مشكلة الاعتداء الجنسي على الأطفال ليست خاصة لا بإيرلندا ولا بالكنيسة، كما أشار كثيرون في بلادكم، إلا أن مهمتكم تقضي الآن بمعالجة مسألة  الاعتداء الجنسي التي حصلت ضمن الجماعة الكاثوليكية الإيرلندية، وبالقيام بذلك بشجاعة وثبات. لا أحد يظن أن هذا الوضع الأليم سيحل سريعاً. وعلى الرغم من إحراز تقدم فعلي، إلا أن أعمالاً كثيرة ما تزال ضرورية. وهنا تبرز الحاجة إلى المثابرة والصلاة، والثقة الكبيرة بقدرة النعمة الإلهية الشافية.

في الوقت عينه، أرغب في التعبير عن قناعتي بأنه ينبغي على الكنيسة في إيرلندا أن تقوم أولاً بالاعتراف أمام الرب وأمام الآخرين بالذنوب المميتة التي ارتكبت بحق أطفال ضعفاء، وذلك في سبيل الشفاء من هذا الجرح المؤلم. إن اعترافاً مماثلاً مصحوباً بأسى صادق على الإساءة المسببة لهؤلاء الضحايا وعائلاتهم من شأنه أن يؤدي إلى جهود منسقة لضمان الحماية للأطفال من جرائم مماثلة في المستقبل.

فيما تواجهون تحديات هذه الفترة، أطلب منكم أن تتذكروا "الصخر الذي نُحِتّم منه" (أش 51، 1). تأملوا في الإسهامات السخية وأحياناً البطولية التي قدمتها أجيال الرجال والنساء الإيرلنديين السابقة للكنيسة وللبشرية جمعاء، وليعطِ ذلك دفعاً لفحص ذاتي صادق وبرنامج ملتزم من التجدد الكنسي والفردي. أصلي من أجل أن تتمكن الكنيسة في إيرلندا من تخطي الأزمة الراهنة والتحول مجدداً إلى شهادة أكثر إقناعاً لحقيقة وصلاح الله الكلي القدرة الذي تجلى في ابنه يسوع المسيح، وذلك بشفاعة قديسيها وبالتطهر من خلال التكفير.

3. تاريخياً، أثبت الكاثوليك الإيرلنديون قوة هائلة للخير في ديارهم وفي الخارج. فقد نشر الرهبان السلتيون كالقديس كولومبانوس الإنجيل في أوروبا الغربية، وأرسوا أسس الثقافة الرهبانية القروسطية. وتجسدت مثُل القداسة والمحبة والحكمة الفائقة المنبثقة عن الإيمان المسيحي في بناء كنائس وأديار، وإنشاء المدارس والمكتبات والمستشفيات التي ساعدت كلها على ترسيخ هوية أوروبا الروحية. واستمد هؤلاء المرسلون الإيرلنديون قوتهم وتأثيرهم من الإيمان الراسخ الذي كانت تظهره الكنيسة في موطنهم، ومن قيادتها القوية وأخلاقياتها المستقيمة.

ابتداءً من القرن السادس عشر، عانى الكاثوليك في إيرلندا من حقبة طويلة من الاضطهاد كافحوا خلالها لإبقاء شعلة الإيمان حية في الظروف الخطيرة والصعبة. والقديس أوليفر بلانكيت، رئيس أساقفة أرماغ الشهيد، هو المثل الأكثر شهرة في جموع أبناء وبنات إيرلندا الشجعان الذين كانوا مستعدين للتضحية بأرواحهم بسبب أمانتهم للإنجيل. بعد التحرر الكاثوليكي، استعادت الكنيسة حريتها للنمو مجدداً. فالعائلات التي حافظت على إيمانها في المحن شأنها شأن كثيرين تحولت معهم إلى قوة دفع للنهضة العظيمة للكثلكة الإيرلندية في القرن التاسع عشر. وأمنت الكنيسة التربية بخاصة للفقراء، مما قدم إسهاماً كبيراً للمجتمع الإيرلندي. ومن بين ثمار المدارس الكاثوليكية الجديدة، سجل ارتفاع في عدد الدعوات. فقد غادرت أجيال من الكهنة المرسلين والإخوة والأخوات بلادها لتخدم في كل القارات وبخاصة في العالم الناطق بالانكليزية. وكانت استثنائية ليس فقط من ناحية أعدادها الهائلة، لا بل أيضاً من ناحية قوة إيمانها وثبات التزامها الرعوي. فإن عدة أبرشيات منها بخاصة تلك الموجودة في إفريقيا وأميركا وأستراليا استفادت من وجود الكهنة والرهبان الإيرلنديين الذي كرزوا بالإنجيل وأنشأوا الرعايا والمدارس والجامعات والمستوصفات والمستشفيات التي خدمت الكاثوليك والمجتمع عامة، مع إيلاء اهتمام خاص باحتياجات الفقراء.

في كل العائلات الإيرلندية تقريباً، يوجد شخص – ابن أو ابنة، عم أو عمة – بذل حياته للكنيسة. لذا تُجلّ العائلات الإيرلندية بحق أحباءها الذين كرسوا حياتهم للمسيح، من خلال مشاركة هبة الإيمان مع الآخرين، وترجمتها إلى أفعال في خدمة الله والقريب بمحبة.

4. لكن الكنيسة في بلادكم اضطرت في العقود الأخيرة إلى التصدي لتحديات جديدة وخطيرة مفروضة على الإيمان وناتجة عن تغير المجتمع الإيرلندي السريع وعن علمنته. فقد حصل تغيير اجتماعي سريع بطريقة معاكسة أثرت في الالتزام الشعبي التقليدي بالتعاليم والقيم الكاثوليكية. وهكذا أهملت الممارسات الأسرارية والتعبدية التي تدعم الإيمان وتنميه منها الاعتراف الدائم والصلاة اليومية والرياضات الروحية السنوية. كما كان من الملحوظ خلال هذه الفترة الميل – ميل الكهنة والرهبان أيضاً – إلى اعتماد سبل للتفكير في وقائع علمانية وتقييمها من دون الاستناد الكافي إلى الإنجيل. وأحياناً، كان يساء فهم برنامج التجديد الذي اقترحه المجمع الفاتيكاني الثاني، وكان يصعب إدراك كيفية تنفيذه على ضوء المتغيرات الاجتماعية الجذرية الحاصلة. وكانت هناك بخاصة نزعة حسنة النوايا وإنما غير ملائمة لتلافي الإيضاح الجزائي للأوضاع المخالفة قانوناً. في هذا السياق العام، يجب أن نسعى إلى فهم المشكلة المقلقة المتمثلة في الاعتداءات الجنسية على الأطفال التي ساهمت بشكل كبير في إضعاف الإيمان وفي عدم احترام الكنيسة وتعاليمها.

فقط من خلال إمعان النظر في العناصر العديدة التي أدت إلى الأزمة الراهنة، يمكن إجراء تشخيص واضح للأسباب وإيجاد الحلول الفعالة. بالطبع أن العوامل المساهمة تشمل الإجراءات غير الملائمة لتحديد جدارة المرشحين للكهنوت والحياة الرهبانية؛ والتنشئة البشرية والأخلاقية والفكرية والروحية غير الكافية في الإكليريكيات ودور الابتداء؛ والنزعة في المجتمع إلى تأييد رجال الدين وشخصيات دينية أخرى؛ والقلق الخاطئ حيال سمعة الكنيسة وتلافي الفضيحة، مما أدى إلى الفشل في تطبيق العقوبات الكنسية والحفاظ على كرامة كل إنسان. لذا، من الضروري التحرك فوراً لمعالجة هذه العوامل التي خلفت تبعات مأساوية في حياة الضحايا وعائلاتهم، وحجبت نور الإنجيل لدرجة لم تتوصل إليها قرون من الاضطهاد.

5. منذ انتخابي لرئاسة السدة البطرسية، التقيت في مناسبات عديدة بضحايا الاعتداء الجنسي، كما أنني مستعد للقيام بذلك في المستقبل. لقد جلست معهم وأصغيت إلى قصصهم واعترفت بآلامهم وصليت معهم ومن أجلهم. في وقت مبكر من حبريتي، وبداعي الاهتمام بمعالجة هذه المسألة، طلبت من أساقفة إيرلندا أن " تثبتوا حقيقة ما جرى في الماضي، وتتخذوا الخطوات اللازمة لعدم حصولها مجدداً، وتضمنوا احترام مبادئ العدالة، وتحملوا الشفاء للضحايا ولجميع المتضررين من هذه الجرائم الفظيعة" (الرسالة إلى أساقفة إيرلندا، 28 أكتوبر 2006).

بهذه الرسالة، أريد أن أحضكم جميعاً، كشعب الله في إيرلندا، على التأمل في الجراح التي ألحقت بجسد المسيح، وفي العلاج المؤلم أحياناً وإنما الضروري لتضميدها، وفي الحاجة إلى الوحدة، والمحبة والدعم المتبادل في عملية الشفاء والتجديد الكنسي الطويلة. والآن أتوجه إليكم بكلمات نابعة من القلب، وأود التحدث إليكم فردياً وجماعياً كإخوة وأخوات في الرب.

6. إلى ضحايا الاعتداءات وعائلاتهم

لقد تألمتم بشدة وأنا حزين جداً لأجلكم. إنني أعلم أن لا شيء يمحو الأذى الذي احتملتموه إذ تعرضت ثقتكم للخيانة، وانتهكت كرامتكم. كثيرون منكم اكتشفوا أنهم لم يجدوا آذاناً صاغية لهم عندما كانوا يتحلون بالشجاعة الكافية للتحدث عما حصل معهم. لربما شعرتم أنتم ضحايا الاعتداءات في المؤسسات الداخلية بأنه لا مفر من معاناتكم. من الطبيعي أن تجدوا صعوبة في المسامحة أو المصالحة مع الكنيسة. وإنني أعبر باسمها عن الخزي والندم اللذين نشعر بهما جميعاً. في الوقت عينه، أسألكم ألا تفقدوا الرجاء. فبالاتحاد مع الكنيسة، نلتقي بشخص يسوع المسيح الذي وقع بنفسه ضحية الظلم والإثم. هو ما يزال يحمل جراح معاناته المجحفة مثلكم تماماً. ويتفهم ألمكم العميق وتأثيره الدائم على حياتكم وعلاقاتكم، وحتى على علاقتكم مع الكنيسة. أدرك أن البعض منكم يجد صعوبة في الدخول إلى الكنيسة بعد حصول كل ذلك. لكن جراح المسيح التي تحولت بآلامه المخلصة هي الوسائل التي تهزم بها قوة الشر والتي نحيا بها من جديد في الحياة والرجاء. إنني أؤمن بشدة بالقدرة الشافية الكامنة في محبته المتمثلة ببذل نفسه – حتى في أحلك الأوضاع –، القدرة التي تحرر وتعد ببداية جديدة.

بالتحدث إليكم كراع مهتم بمصلحة جميع أبناء الله، أطلب منكم بتواضع أن تفكروا في ما قلته. أصلي لكيما تعيدوا اكتشاف محبة المسيح اللامتناهية لكل واحد منكم من خلال التقرب منه والمشاركة في حياة كنيسته – كنيسة مطهرة بالتكفير ومتجددة بالمحبة الرعوية. وأنا واثق بأنكم ستتمكنون بهذه الطريقة من إيجاد المصالحة والشفاء الداخلي والسلام.

 

 

7. إلى الكهنة والرهبان الذين اعتدوا على أطفال

أنتم خنتم الثقة التي وضعها فيكم شباب أبرياء وأهاليهم، ويجب أن تتحملوا مسؤولية ذلك أمام الله الكلي القدرة وأمام محاكم شكلت حسب الأصول. لقد خسرتم تقدير الشعب الإيرلندي وألحقتم الخزي والعار بإخوتكم. إن الكهنة بينكم انتهكوا قداسة سر الكهنوت الذي يصبح المسيح من خلاله حاضراً فينا وفي أعمالنا. وإلى جانب الأذى الكبير الذي ألحق بالضحايا، ألحق ضرر كبير بالكنيسة وبالفكرة العامة عن الكهنوت والحياة الرهبانية.

أحثكم على فحص ضمائركم، وتحمل مسؤولية الآثام التي ارتكبتموها، والتعبير عن أسفكم بتواضع. فالتوبة الصادقة تفتح المجال أمام مغفرة الله ونعمة التحسين الفعلي. من خلال تقديم الصلوات والقيام بالأعمال التكفيرية من أجل الخاطئين، يجب أن تسعوا إلى التكفير عن أعمالكم. إن تضحية المسيح المخلصة قادرة على مغفرة أعظم الذنوب، وغرف الخير من أفظع الشرور. في الوقت عينه، تدعونا العدالة الإلهية إلى الكشف عن أفعالنا وعدم إخفاء شيء. اعترفوا بذنبكم، واخضعوا لمطالب العدالة، ولا تقنطوا من الرحمة الإلهية.

8. إلى الأهل

أصبتم بصدمة كبيرة عند علمكم بالأحداث الرهيبة التي حصلت في المكان الذي كان ينبغي أن يكون أكثر البيئات أماناً. وفي العالم المعاصر، ليس سهلاً بناء بيت وتربية الأطفال. هم يستحقون أن يكبروا في أجواء آمنة وينعموا بالحب والعناية بإدراك هويتهم وأهميتهم. يحق لهم أن ينشأوا على القيم الأخلاقية الأصيلة المتجذرة في كرامة الإنسان، وأن يستلهموا من حقيقة إيماننا المسيحي ويتعلموا أساليب التصرف التي تؤدي إلى تقدير ذاتي سليم وفرح دائم. هذه المهمة النبيلة وإنما المتطلبة توكل إليكم أولاً أنتم الأهل. أحثكم على تأدية دوركم في ضمان أفضل عناية للأطفال، في البيت وفي المجتمع، فيما تستمر الكنيسة من جهتها بتنفيذ التدابير المتخذة خلال السنوات الأخيرة لحماية الشباب في البيئات الرعوية والمدرسية. وفيما تتحملون مسؤولياتكم الأساسية، كونوا واثقين بأنني أبقى قريباً منكم وأقدم لكم الدعم بصلواتي.

9. إلى أطفال إيرلندا وشبابها

أود أن أوجه لكم كلمة تشجيعية خاصة. إن تجربتكم في الكنيسة مختلفة عن تجربة أهلكم وأجدادكم. فقد شهد العالم تغييراً كبيراً منذ أن كانوا بعمركم. لكن كل الناس مدعوون في كل جيل إلى انتهاج درب الحياة عينها، أياً كانت ظروفهم. نحن جميعاً جُرحنا بفعل ذنوب وزلات بعض الأعضاء في الكنيسة، منهم بخاصة أولئك الذين اختيروا تحديداً لإرشاد الشباب وخدمتهم. لكنكم في الكنيسة تجدون يسوع المسيح الذي "هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد" (عب 13، 8). وهو يحبكم وقد بذل نفسه على الصليب من أجلكم. اسعوا إلى بناء علاقة معه ضمن شركة كنيسته لأنه لن يخون أبداً ثقتكم! وحده هو القادر على تحقيق رغباتكم العميقة، وإعطاء معنى كاملاً لحياتكم من خلال إرشادها نحو خدمة الآخرين. أبقوا أعينكم شاخصة إلى يسوع وصلاحه، واحموا شعلة الإيمان في قلوبكم. مع إخوتكم الكاثوليك في إيرلندا، أتوجه إليكم لتكونوا تلاميذ أمناء لربنا، ولتسهموا بحماستكم ومثاليتكم في إعادة بناء كنيستنا الحبيبة وتجديدها.

10. إلى كهنة إيرلندا ورهبانها

كلنا نتألم نتيجة لذنوب إخوتنا الذين خالفوا تعليمات مقدسة أو فشلوا في مواجهة الاتهامات بطريقة صحيحة ومسؤولة. أمام الإهانة والسخط اللذين سببهما هذا الأمر، ليس فقط بين المؤمنين العلمانيين وإنما أيضاً بينكم وفي جماعاتكم الدينية، كثيرون منكم يشعرون بأنهم يائسون ومتروكون. كما أنني أدرك أن البعض ينظر إليكم كمذنبين وكمسؤولين نوعاً ما عن آثام الآخرين. في هذا الوقت الأليم، أود الاعتراف بتفاني حياتكم الكهنوتية والرهبانية ورسالتكم، وأدعوكم إلى إعادة التأكيد على إيمانكم بالمسيح، ومحبتكم لكنيسته، وثقتكم بوعد الفداء والمغفرة والتجدد الروحي المذكور في الإنجيل. هكذا، ستظهرون للجميع أنه "حيث كثرت الخطيئة، تتوافر النعمة أكثر" (رو 5، 20).

أعلم أن كثيرين بينكم خائبون وحائرون وغاضبون من الطريقة التي اعتمدها بعض رؤسائكم لمعالجة هذه القضايا. مع ذلك، من الضروري أن تتعاونوا مع أصحاب السلطة وتساعدوا في أن تكون التدابير المتخذة للاستجابة للأزمة إنجيلية وصحيحة وفعالة. وأحثكم بخاصة على التحول بصورة أوضح إلى رجال ونساء صلاة من خلال اتباع درب الاهتداء والتطهر والمصالحة. هكذا تستقي الكنيسة في إيرلندا حياة وحيوية جديدتين من شهادتكم لقدرة الرب المخلصة الظاهرة في حياتكم.

11. إلى إخوتي الأساقفة

لا يمكننا أن ننكر أن بعضاً منكم ومن أسلافكم فشل – فشلاً ذريعاً أحياناً – في تطبيق معايير القانون الكنسي التي وضعت قبل وقت طويل حول جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال. لقد ارتكبت أخطاء جسيمة في الاستجابة للاتهامات. أعلم أنه كان من الصعب استيعاب حجم المشكلة وتعقيداتها، والحصول على معلومات موثوقة واتخاذ القرارات المناسبة على ضوء نصائح الخبراء المتناقضة. مع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن أخطاء جسيمة حصلت في الحكم إضافة إلى الفشل في القيادة. هذا كله قوض مصداقيتكم وفعاليتكم. إنني أقدر كافة الجهود التي قمتم بها لتصحيح الأخطاء الماضية ولضمان عدم حصولها مجدداً. وإضافة إلى تطبيق القانون الكنسي في القضايا المتعلقة بالاعتداء الجنسي على الأطفال، استمروا في التعاون مع السلطات المدنية في مجال اختصاصها. وينبغي على الرؤساء الدينيين أن يتصرفوا أيضاً بالطريقة عينها. لقد شاركوا هم أيضاً في المناقشات الأخيرة هنا في روما بهدف تحديد مقاربة واضحة ومتماسكة لهذه المسائل. لا بد من مراجعة المعايير الخاصة بالكنيسة في إيرلندا والمتعلقة بأمن الأطفال بصورة دائمة، ولا بد من عصرنتها لكي تطبق بالكامل وبتجرد طبقاً للقانون الكنسي.

وحده التحرك الحاسم الجاري بصدق وشفافية هو الذي سيعيد احترام الشعب الإيرلندي ونيته الحسنة تجاه الكنيسة التي كرسنا حياتنا من أجلها. هذا يبدأ أولاً بفحص ضمائركم، والتطهر الداخلي والتجدد الروحي. إن الشعب الإيرلندي يتوقع منكم أن تكونوا رجال الله، أن تكونوا مقدسين، وتعيشوا ببساطة وتتابعوا الاهتداء الشخصي يومياً. بالنسبة له، أنتم أساقفة بحسب كلمات القديس أغسطينوس؛ إلا أنكم مدعوون معهم لتكونوا أتباعاً للمسيح (عظة 340، 1). لذلك أحثكم على تجديد حس مسؤوليتكم أمام الله، والنمو بالتضامن مع شعبكم، وتعميق اهتمامكم الرعوي بكافة أفراد رعيتكم. أسألكم بخاصة أن تنتبهوا إلى الحياة الروحية والأخلاقية الخاصة بكل واحد من كهنتكم. كونوا لهم قدوة بحياتكم، وتقربوا منهم، وأصغوا إلى مخاوفهم، وشجعوهم في هذه الأوقات العصيبة وغذوا شعلة محبتهم للمسيح والتزامهم بخدمة إخوتهم وأخواتهم.

كذلك، لا بد من تشجيع المؤمنين العلمانيين على تأدية دورهم في حياة الكنيسة. لذا، احرصوا على تنشئتهم ليتمكنوا من تقديم شهادة إنجيلية واضحة ومقنعة في المجتمع المعاصر (1 بط 3، 15)، ومن التعاون بشكل أكبر في حياة الكنيسة ورسالتها. هذا ما سيساعدكم مجدداً على أن تكونوا مرشدين وشهوداً موثوقين لحقيقة المسيح المخلصة.

12. إلى جميع المؤمينن في إيرلندا

إن تجربة الشباب في الكنيسة يجب أن تثمر دوماً في لقاء شخصي ومتفانٍ مع يسوع المسيح ضمن جماعة محبة وداعمة. في هذه البيئة، يجب أن يقدَّم التشجيع للشباب لينموا حتى بلوغ مكانتهم البشرية والروحية التامة، وليتطلعوا إلى مثل القداسة والمحبة والحقيقة، ويستقوا الإلهام من ثروات تقليد ديني وثقافي عظيم. في مجتمعنا الذي تتزايد فيه العلمنة والذي كثيراً ما نجد فيه نحن المسيحيون أنه من الصعب التحدث عن البعد السامي لوجودنا، نحتاج إلى إيجاد سبل جديدة لنقل جمال وثروة الصداقة مع يسوع المسيح في شركة كنيسته. في سبيل حل الأزمة الراهنة، تبرز ضرورة التدابير اللازمة للتصدي للجرائم الفردية بشكل صحيح، لكنها ليست كافية وحدها: فلا بد من رؤية جديدة لإلهام الأجيال الحاضرة والمستقبلية لتثمين هبة إيماننا المشترك. من خلال اتباع الدرب المشار إليها في الإنجيل، ومن خلال مراعاة الوصايا ومطابقة حياتكم أكثر فأكثر مع شخص يسوع المسيح، ستختبرون التجدد العميق الضروري في هذا الزمن. هنا أدعوكم جميعاً إلى المثابرة على هذه الدرب.

 

13. أيها الإخوة والأخوات الأحباء في المسيح، بسبب قلقي عليكم جميعاً في هذه الأوقات الأليمة التي ظهر فيها ضعف الحالة البشرية بشكل فاضح، رغبت في تقديم كلمات التشجيع والدعم لكم. أرجو أن تتلقوها كدليل على قربي الروحي منكم وعلى ثقتي بقدرتكم على مواجهة هذه التحديات الراهنة من خلال استقاء الإلهام والقوة المتجددين من التقاليد الإيرلندية النبيلة المتجسدة بالأمانة للإنجيل، والمثابرة في الإيمان، والثبات في السعي من أجل القداسة. بالتضامن معكم جميعاً، أصلي بصدق لكيما، بنعمة الله، تشفى الجراح التي أصابت الأفراد والعائلات، وتشهد الكنيسة في إيرلندا زمن ولادة جديدة وتجدد روحي.

14. أرغب الآن في اقتراح بعض المبادرات لمعالجة هذا الوضع

في ختام لقائي مع أساقفة إيرلندا، طلبت منهم أن يكون الصوم الكبير في هذه السنة فترة صلاة من أجل أن يحل فيض الرحمة الإلهية ومواهب القداسة والقوة المنبثقة من الروح القدس على الكنيسة في بلادكم. أدعوكم الآن إلى تكريس أعمالكم التكفيرية أيام الجمعة على هذه النية، وذلك لمدة سنة كاملة ابتداءً من الآن وحتى فصح 2011. كما أطلب منكم أن تقدموا صومكم وصلاتكم وقراءاتكم الإنجيلية وأعمالكم الرحيمة من أجل نيل نعمة الشفاء والتجدد للكنيسة في إيرلندا. كذلك، أشجعكم على إعادة اكتشاف سر المصالحة، والاستفادة من قدرة نعمته المبدِّلة.

لا بد من إيلاء اهتمام خاص بالسجود القرباني، ولا بد من تكريس كنائس أو كابيلات لهذه الغاية في كل أبرشية. أطلب من الرعايا والإكليريكيات والأديار تنظيم فترات للسجود القرباني لكيما يتمكن الجميع من المشاركة فيها. من خلال الصلاة الحارة أمام وجود الرب الفعلي، تستطيعون التكفير عن ذنوب الاعتداء التي سببت الكثير من الأذى، وطلب نعمة القوة المتجددة وحس أعمق بالرسالة من قبل جميع الأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيين.

أنا واثق بأن هذا البرنامج سيؤدي إلى نهضة الكنيسة في إيرلندا في كمال حقيقة الله، لأنها الحقيقة التي تحررنا (يو 8، 32).

إضافة إلى ذلك، بعد مراجعة هذه المسألة والصلاة من أجلها، أنوي القيام بزيارة رسولية إلى بعض الأبرشيات في إيرلندا، وإلى بعض الإكليريكيات والرهبنات. وستجري الترتيبات لهذه الزيارة التي من شأنها مساعدة الكنيسة المحلية على درب تجددها، بالتعاون مع المديريات المختصة في الكوريا الرومانية ومجلس أساقفة إيرلندا. وستعلن التفاصيل في الوقت المناسب.

كما أقترح أن تعقد ندوة وطنية لجميع الأساقفة والكهنة والرهبان. وبفضل معرفة الواعظين الخبراء ومنظمي الرياضات الروحية القادمين من إيرلندا ومن أماكن أخرى، ومن خلال مراجعة الوثائق المجمعية، وطقوس السيامة والمجاهرة الليتورجية، والتعاليم الحبرية الأخيرة، أرجو أن تتوصلوا إلى تقدير دعواتكم بشكل أكبر، وإلى إعادة اكتشاف جذور إيمانكم بيسوع المسيح، والارتواء من ينابيع الماء الحي التي يقدمها لكم من خلال كنيسته.

في سنة الكهنة هذه، أقترح عليكم بخاصة مثال القديس جان ماري فياني الذي فهم سر الكهنوت بطريقة غنية جداً. فكتب: "الكاهن يحمل مفتاح كنوز السماوات: هو الذي يفتح الباب؛ وهو وكيل الرب الصالح؛ ومدير خيراته". لقد فهم خوري آرس عظمة البركة الممنوحة لجماعة ما عندما تحظى بخدمة كاهن صالح وتقي: "إن الراعي الصالح، الراعي المطابق لقلب الله، هو أعظم كنز يعطيه الرب الصالح لرعية ما، وإحدى أثمن مواهب الرحمة الإلهية". بشفاعة القديس جان ماري فياني، أرجو أن ينتعش الكهنوت في إيرلندا، وتنمو الكنيسة جمعاء في إيرلندا في تقديرها لهبة الخدمة الكهنوتية العظيمة.

أغتنم هذه الفرصة لتقديم الشكر سلفاً لجميع الذين سيشاركون في عمل تنظيم الزيارة الرسولية والندوة، وللنساء والرجال الذين بدأوا العمل في إيرلندا من أجل سلامة الأطفال في البيئات الكنسية. منذ أن برزت خطورة مسألة الاعتداء الجنسي على الأطفال في المؤسسات الكاثوليكية، بذلت الكنيسة جهوداً كبيرة في أنحاء كثيرة من العالم لمعالجة هذه المشكلة. وفي حين أنه يجب عدم توفير أي جهد لتحسين الإجراءات الحالية وعصرنتها، إلا أنني أستمد الشجاعة من كون ممارسات الحماية الحالية المتخذة من قبل الكنائس المحلية تعتبر مثالاً يحتذى به للمؤسسات الأخرى، في بعض أنحاء العالم.

أود اختتام هذه الرسالة بصلاة خاصة من أجل الكنيسة في إيرلندا، صلاة أرسلها إليكم بعناية أب بأبنائه وبمحبة أخ مسيحي آلمته الأحداث التي جرت في كنيستنا الحبيبة. فيما تتلون هذه الصلاة في عائلاتكم ورعاياكم وجماعاتكم، أرجو أن تحميكم مريم العذراء المباركة وترشدكم نحو وحدة وثيقة مع ابنها المصلوب والقائم من بين الأموات. بمحبة كبيرة وثقة ثابتة بالوعود الإلهية، أمنحكم جميعاً بركتي الرسولية كعربون قوة وسلام في الرب.

من الفاتيكان، 19 مارس 2010، في عيد القديس يوسف

الأب الأقدس بندكتس السادس عشر

صلاة إلى الكنيسة في إيرلندا

يا إله آبائنا،

جددنا في الإيمان الذي يشكل حياتنا وخلاصنا

في الرجاء الذي يَعد بالمغفرة والتجدد الداخلي،

في المحبة التي تطهر قلوبنا وتفتحها

لنحبك ونحب من خلالك كل إخوتنا وأخواتنا.

أيها الرب يسوع يسوع،

فلتجدد الكنيسة في إيرلندا التزامها الألفي

بتنشئة شبابنا على درب الحق والصلاح والقداسة والخدمة السخية للمجتمع.

أيها الروح القدس المعزي، المحامي والمرشد،

أنفخ فصلاً جديداً من القداسة والاندفاع الرسولي

في الكنيسة في إيرلندا.

ولتحمل أحزاننا ودموعنا

وجهودنا الصادقة للتكفير عن ذنوب الماضي

ونيتنا الثابتة للتوبة،

ثماراً جمة من النعمة

لترسيخ الإيمان

في عائلاتنا ورعايانا ومدارسنا وجماعاتنا

للتنمية الروحية في المجتمع الإيرلندي

ونمو المحبة والعدالة والفرح والسلام

ضمن الأسرة البشرية جمعاء.

إليك، أيها الثالوث الأقدس،

نوكل ذواتنا وأبناءنا

واحتياجات الكنيسة في إيرلندا

واثقين بحماية مريم المفعمة بالمحبة،

سلطانة إيرلندا، وأمنا،

والقديس باتريك والقديسة بريجيت وجميع القديسين.

آمين.

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010