من تل أبيب إلى الفاتيكان .. أين العرب؟

 

 

ألقت احتفالات أعياد الفصح التي شهدتها مدينة القدس الفلسطينية الكثير من الضوء على العلاقة بين دولة الفاتيكان وإسرائيل، وهي علاقة بلاشك تهم العالمين العربي والإسلامي مدا وجزرا، ذلك أن إسرائيل تبقى دوما وأبدا دولة الاحتلال الجاثمة على صدر المقدسات الإسلامية والمسيحية، وبخاصة في المدينة المقدسة القدس. ومن جهة ثانية تبقى حاضرة الفاتيكان قوة دعم روحي لأتباعها من الكاثوليك حول العام والذين يتجاوز عددهم المليار والمئة وخمسين مليونا وربما أكثر حول العالم.

هذه العلاقة ولاشك، قد تعرضت لصنوف من التبديل والتعديل عبر عصور طوال، إلى أن وصلت إلى حالتها الراهنة في الأزمنة الأخيرة. وحسناً يفعل العالم العربي إذا توقف أمام مشاهد لأهم المواقع والمواضع التي تشابكت فيها الخيوط وتداخلت الخطوط بين حاضرة الفاتيكان ودولة إسرائيل لاستخلاص العبر ولمعرفة كيفية الاستفادة من الحضور الكاثوليكي حول العالم، بما يدعم عدالة القضايا العربية والإسلامية بعامة والقضية الفلسطينية بخاصة، وهو الأمر الذي سبب لإسرائيل في السنوات الأخيرة إزعاجا بالغا.

كان واضحا ومنذ اللحظة الأولى لطرح فكرة قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين رفض الفاتيكان لهذه الدولة، فنجد البابا بيوس العاشر يوجه رسالة العام 1904 إلى تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، ردا على رسالة سبق أن بعث بها إليه، طالبا دعم الفاتيكان في تهجير اليهود إلى فلسطين يخبره فيه بأننا «لا نستطيع أبدا أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية، وأننا إن كنا لا نقدر على منع اليهود من التوجه إلى القدس، إلا أننا لا يمكن أن نقره أبدا».. ويكمل «إنني بصفتي قيما على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك في شكل آخر».

في ذلك الوقت، أي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت القطيعة غالبة على التفكير تجاه اليهود من قبل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وهو ما يتجلى فيما أشار إليه البابا من أن «اليهود لم يعترفوا بالسيد المسيح، لذلك لا اعتراف بالشعب اليهودي».. وقد كان ذلك شكل المشهد الفاتيكاني اليهودي في بدايات القرن المنصرم، وهو يغاير تماما صورة العلاقة الرسمية القائمة اليوم.

لم تنس إسرائيل، ولن تنسى أن الفاتيكان وفي عهد البابا بندكتوس الخامس عشر العام 1917، رفض وعد بلفور، ورفع شعارا تاريخيا «لا لسيادة اليهود على الأراضي المقدسة»، وأنه كان وراء تشكيل لجنة التضامن الإسلامي – المسيحي العام 1920 التي كانت مهمتها مطالبة السلطات البريطانية بإعادة النظر في وعد بلفور، فهل الأمر عند صناع القرار في دولة إسرائيل هو التخوف من البابا بندكتوس.. أيّ بابا بندكتوس؟

على أنه من أهم الأسئلة التي تطرح اليوم من خلال المراقبين للشأن الفاتيكاني: ماذا عن كاثوليك أميركا الخاضعين روحيا لسلطان بابا الفاتيكان الروحي؟ ومنطلق السؤال هو أن هولاء قوة مؤثرة، ولا شك في صناعة القرار الأميركي المؤثر في الشرق الأوسط، وأميركا هي روما العصر مالئة الدنيا وشاغلة الناس.

المقطوع به أنه قد عرف عن الاتجاهات الكاثوليكية الأميركية من أنها داخل الولايات المتحدة بلورت منذ زمن بعيد رؤيتها في اتجاهين: الأول وضع رجال الإكليروس فيه عقائد الدين المنزل التي سلموا بها من دون جدال في جانب، ووضعوا في القسم الثاني الحقائق السياسية التي اعتقدوا أن الألوهية قد تركتها مفتوحة للمساءلة الحرة في جانب آخر. وبهذا أضحى الكاثوليك في أميركا أكثر المؤمنين طاعة، وأكثر المواطنين استقلالا، وتعلم الكاثوليك كيف يفصلون بشكل كامل بين المجالين الديني والعلماني.

ومما لاشك فيه أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عملت جاهدة على ألا تأخذ الكاثوليكية الأميركية صف القضايا العربية أو الإسلامية، وجلي للعيان المواقف التي دعمت فيها الكاثوليكية الأميركية القضايا العربية بشكل مشرف فاق بعض المؤسسات الإسلامية العربية، وليس أدل على ذلك من رفضها للحرب الأميركية على العراق، وكان إعلان أساقفة أميركا الكاثوليك لهذا الرفض واضحا عشية لقاء الكاردينال روجيه اتشيجاراي مبعوث سعيد الذكر البابا يوحنا بولس في واشنطن للرئيس بوش في محاولة لثنيه عن قرار الحرب الذي كان اتخذه.

هذا في الوقت الذي كان فيه أنصار إسرائيل في وزارتي الخارجية والدفاع والبيت الأبيض من أمثال ديك تشيني وبول وولفويتز وريتشارد بيرل يدفعون عجلة الحرب دفعا تجاه أسوا حرب خاضتها أميركا لحساب إسرائيل في التاريخ المعاصر، وكلهم قد خرجوا من عباءة اليمين الديني البروتستانتي المتطرف في أميركا والمناهض، بل والكاره للكاثوليكية، والتي يعتبرها الكثير منهم معقلا للشيطان.

أما عن القضية الفلسطينية تحديدا فيكفي الإشارة إلى نتائج استطلاع رأي أجراه معهد جالوب مؤخرا فيما يختص بتأييد قيام الدولة الفلسطينية، وكانت النتيجة أن 87 % من كاثوليك أميركا يؤيدون قيام تلك الدولة، فيما 42 % من البروتستانت يدعمون الفكرة وأقل من 20 % من اليهود الأميركيين يؤازرونها.

هل حان الوقت لندرك عربيا وإسلاميا أهمية دور الفاتيكان في عالم الدبلوماسية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين؟

في سياق البحث عن جواب يمكننا النظر بكثير من التقدير والاحترام للدبلوماسية الكويتية على نحو خاص، والتي احتفظت منذ أربعين عاما بعلاقات متميزة مع حاضرة الفاتيكان وقد جاءت زيارة سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد الأخيرة على رأس وفد رسمي رفيع المستوى إلى الفاتيكان، لتؤكد عمق العلاقات بين البلدين، وتشير إلى وجود ذهنيات عربية ممتلئة تسامحا، بما يشهد للإسلام والمسلمين شهادة حقيقية غير مجروحة، وذلك بالحفاظ على الوجود العربي المسيحي في دولة الكويت عبر عقود طويلة، الأمر الذي دعا رئيس الكوريا الرومانية (حكومة الفاتيكان) برئاسة الكاردينال «ترشيزيو بيرتوني» لأن يعلق معتبرا «دولة الكويت مثالاً يحتذى في المنطقة والعالم بأسره، لما تحظى فيها الأديان كافة من احترام وتسامح وحرية العقيدة، وممارسة اتباع جميع الديانات شعائرهم في حرية تامة ودون أي تدخل».

يبقى التساؤل الحقيقي بالتوقف أمامه، كيف نعظم أرباح تلك الزيارة، وألا نترك دائرة الفاتيكان حكرا مستباحا لإسرائيل وللسياسات اليهودية والإسرائيلية ولتقديم ذواتهم على أنهم الصديق الأوثق والحليف الأقرب للمسيحيين في العالم، وأن المسلمين هم الأعداء الحقيقيون لليهود والمسيحيين.

كاتب من مصر