قراءة روحية لثمار العصر الحديث

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الاثنين 26 أبريل 2010 (Zenit.org).

 

لقد رأينا في مقالة سابقة بعنوان "الأسطورة المنطقية" وجوه ما نود أن نسميه الحداثة الأولى، وهي حداثة نظرية، مجردة تركز على عملية عقلنة النظرة إلى الإنسان، إلى الدين والله. أدت الحداثة الأولى إلى اعتبار الإيمان على ضوء لوغوس (فكر) محدود، ومنفصل عن الحياة  وهكذا دخلت العقلية كعنصر مؤسس للفكر اللاهوتي، أدى إلى تجميد الدورة الحيوية القائمة بين حياة الإيمان وفهم الإيمان، بين عيش الإيمان ومحتواه.

 ثم نظرنا، في مقالة أخرى إلى الحداثة الثانية المبنية على "أسطورة التقدم الأفقي"، التي فتحت السبيل واسعًا إلى مذهب أنسي ملحد. فباسم الإنسان تم إنكار صورة عن الله، هي بالأصل صورة مشوهة لا تتطابق مع الإله الحق والحي الذي يبشر به الإيمان المسيحي.

هاتين المرحلتين من الإصغاء لمعطيات وخصائص الحداثة، تفسح لنا المجال لكي نقوم بتفسير وتقييم أكثر موضوعية لهذه الحداثة. فكيف لنا أن نفهم الحداثة وأن نتحاور معها إذا لك نعي دينامياتها العميقة.

هذا وقد اخترنا التركيز على مفهوم الحداثة، لا لأننا نجهل أن الإطار الثقافي، الفلسفي والاجتماعي يتحدث الآن عن "ما بعد الحداثة"، بل لقناعتنا بأن هناك أبعاد عديدة من الحداثة ما زالت حاضرة وفاعلة في عمق ما بعد الحداثة. فهذه الأخيرة إنما تشكل في الوقت عينه ردة فعل، اكتمال، تجاوز وكشف عن الحداثة. هي ردة فعل على بعض أشكال الحداثة المتطرفة، وهي اكتمال-غير-مكتمل لبعد عواملها وتطلعاتها، وهي تجاوز لبعض مفاهيمها، وأخيرًا كشف واعتلان لبعض وقائعها الغامضة.

بكلمات أخرى، بالرغم من أننا نعيش في فترة تعود إلى تقدير ما يتخطى العقل، ونختبر ما يصفه بعض الباحثون بـ "عودة الآلهة" (R. Stark – M. Introvigne, Dio è tornato.  Indagine sulla rivincita delle religioni in Occidente, Casale Monferrato 2003)، وبالرغم من أننا نعي سقوط وفشل أساطير الحداثة الكبرى (كلية قدرة العقل، المجتمع الكامل، صلاح الإنسان الجوهري، الشيوعية، العرق الصافي والامتياز العرقي، وحتى الديمقراطية والرأسمالية)، إلا أن مواضيع الحداثة مثل الاستقلالية، محورية العقل، الإلحاد، التطور إنما هي حاضرة وفاعلة – بشكل سلبي أو إيجابي – ولذا يجب علينا أن نعيرها حيزها من الإصغاء والاهتمام.

سنسعى في هذه المقالة، بعد أن استعرضنا في المقالتين السابقتين وجهين نعتقد أنهما أساسيين في الحداثة، أن نعرض وجهة نظر مستوحاة من الإيمان المسيحي، نستمدها من التمييز الروحي الذي يقدمه يسوع: "من ثمارهم تعرفونهم".

 

كيفية تمييز معطيات العصر الحديث الثقافية

الإيمان هو واقع يُعاش في إطار ثقافة معينة، لأن الإنسان هو كائن تاريخي ويعيش طبيعته من خلال الانثقاف. حسه الإيماني يتجسد تحت تأثير الحس الثقافي السائد، وفي ظل المخيلة البشرية التي تقود خياراته وتؤثر فيها والتي هي بدورها خاضعة لتأثير الثقافة والحضارة السائدة. يفرض علينا فهمنا الديناميكي للثقافة – المغاير للفهم الكلاسيكي الذي كان يعتبرها كواقع جامد –أن نتعرف على الثقافة التي نتوجه إليها قبل أن نوجه إليها بشرى الإنجيل. يقدم اللاهوتي الكندي برنارد لونرغان (Bernard Lonergan) دور اللاهوت بهذا الشكل: "اللاهوت يقوم بفعل وساطة بين أرضية ثقافية وبين معنى ودور الدين في هذه الأرضية" (B. Lonergan, Method in theology, Toronto 2003, xi.). يُفهمنا اللاهوتي اليسوعي بأن المسيرة نحو عتبة الإيمان هي خاضعة لتأثير الحس الثقافي، وأنه يترتب على اللاهوت أن يعرف الثقافة إذا ما أراد أن يقوم بعمل انثقاف فعال لرسالة الإنجيل التي تدعو إلى الارتداد إلى الحب.

من وجهة النظر اللاهوتية، لا يكفي أن نستطلع المعطيات الملموسة والظواهرية، فهذه تشكل المرحلة الأولى من "الالتزام الثقافي نحو الحداثة" الذي يتحدث عنه بندكتس السادس عشر (Benedetto XVI, Discorso ai gesuiti nella basilica di s. Pietro, 22.04.06).

وينبه ماركو إيفان روبنيك، اليسوعي-الفنان المتخصص بدراسة الحداثة: "إذا لم نقم بقراءة روحية للمعطيات، نقع في خطر رد الفعل على التحديات التي تظهر على الصعيد الظواهري السطحي، والتي لا نعرف جليًا ما  إذا كانت تحديات روحية أم لا، ولذا نقع في خطر أن نقوم بعمل إيديولوجي بدل أن نقوم بعمل تبشير" (M.I. Rupnik, “La lettura spirituale della realtà”, in T. Špidlík – M.I. Rupnik, Teologia pastorale.  A partire dalla bellezza, Roma 2005, 25-26).

يجب على العكس أن تكون المقاربة اللاهوتية مقاربة تستعمل ما هو خاص باللاهوت، أي أن تقوم بقراءة وبتمييز روحي لمعطيات ونتائج الحداثة فتسهم بهذا الشكل بما يسمى بـ "خدمة المحبة" (diakonia della verità). يتوجب على القراءة الروحية أن تنظر إلى الواقع الروحي الكامن وراء المعطى الظواهري الذي يراه الجميع.

بكلمات بسيطة، يجب على اللاهوتي أن يضع أذنًا على الأرض ليسمع أنينها، وأن يبقى أذنًا أخرى مفتوحة نحو السماء، نحو كلمة الله الموحاة، ويجب أن يفتح عيون الإيمان وأن يقرأ بالعمق من خلال قلبه المؤمن الدوافع الكامنة ونتائج خيارات الحداثة على ضوء "لوغوس الحقيقة" (راجع 1 يو 1، 1).

يجب على اللاهوت أن يرى من خلال عيون الإيمان "كيف يأتي ذاك الذي هو دومًا حاضر"، بحسب تعبير القديس غريغوريوس النيصصي البديع. يجب عليه أن "يحرص كيف يصغي" (راجع لو 8، 18)؛ يجب أن يتفحص انفتاحنا المتسامي والاعتيادي على الارتداد نحو حب الله لنا، الذي هو بدء وغاية المسيرة الروحية.

إن خيارات الحداثة قد ولدت عوائد ثقافية هي حاضرة في إنتاجنا الفكري والثقافي، في حياتنا اليومية، وفي الأبعاد الغامضة والكامنة في وجودنا. كلمة scernere اللاتينية هو عبارة غنية بالمعاني فهي تعني الغربلة، التمييز، التقييم… هذا التقييم لا يعني التفريق أو التقسيم بل "رؤية المختلف في صلب المماثل، والمماثل في صلب المختلف". فإذا كان التفريق فعل يؤدي إلى الموت، التمييز هو فعل يحمل الحياة. لأن ما ليس مغايرًا أو متمايزًا هو مائت، غير موجود، بينما الوجود هو تناغم عدة عناصر متغايرة. يقول اليسوعي الإيطالي سيلفانو فاوستي: "التمييز هو فن قراءة يوضح لنا بأية اتجاه تحملنا رغبات قلبنا، دون أن نفسح المجال لتلك الرغبات التي تحملنا إلى حيث لا يجب أن نصل" (S. Fausti, Occasione e tentazione.  Scuola pratica per discernere e decidere, Milano 20055, 29).

على اللاهوت أن يطبق هذا الفن الجميل على قراءة التاريخ، وفي مقصدنا هذا، على قراءة الحداثة، لأنه "من دون التمييز، لا نتصرف بل نسمح للأحداث والأمور أن تتصرف بنا وللميول المتنازعة أن تخضنا وأن تحملنا إلى الانحلال التام" (المرجع نفسه).

كان آباء الصحراء ينصحون بطرح هذا السؤال على كل فكر: "من أين تأتي؟ هل أنت من خاصتنا أو من خاصة العدو؟". تبعًا لقاعدة الحكمة هذه، نتوقف على دراسة عناصر الحداثة التي نظرنا إليها في المقالتين السابقتين، لكي نسألها: من أين تأتين، أين تذهبين، وأين تحمليننا؟ ومن الثمار سنحكم على الأشجار (راجع مت 7، 16 . 20 ؛ لو 6، 43).

سنعتمد في تمييزنا مبدأ تمييز قدمه اللاهوتي الكبير رومانو غوارديني (Romano Guardini): "المقياس الوحيد الذي نستطيع من خلاله أن نحكم على حقبة تاريخية هو معرفة إلى أي مجال نمى فيها الوجود البشري نحو ملئه، متوصلاً، تبعًا لخصائصه وإمكانياته، إلى معناه الحق" (R. Guardini, La fine dell’epoca moderna, Brescia 19999, 29).

الهوية: بين نموذج البناء ونموذج الدعوة

السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه على الحداثة هو التالي: ما هي الصورة الأنثروبولوجية الأساسية التي ترتكز عليها كل ظاهرة الحداثة؟

الحداثة هي حقل صراع شهد أربع ثورات صاغت بدورها صورة الحداثة والإنسان الحديث: النهضة، الإصلاح البروتستانتي، الثورات السياسية، والمذهب الرومنطيقي. تلتقي هذه الثورات الأربعة على مفهوم يصرح بأن الهوية هي أمر يجب بناؤه. في المقابل، إن ركيزة الأنثروبولوجيا الكتابية هي الدعوة. فالله يدعو آدم من العدم إلى الوجود، ويدعو ابراهيم من حاران لكي يعيش بحسب وعد الله ولكي يصبح بحسب الوعد "شعبًا عظيمًا" (تك 12، 2)، ويدعو الله موسى لكي يحرر اسرائيل من عبودية مصر (راجع خر 3، 10؛ راجع أيضًا بندكتس السادس عشر، رسالة بمناسبة اليوم العالمي الرابع والأربعين للصلاة من أجل الدعوات بعنوان "دعوة خدمة كنيسة الشركة"، 10-2-2007). وكذلك الأمر في خبرات القضاة، الملوك، الأنبياء، وصولاً إلى يسوع الذي يصرح بأن طعامه هو أن يعمل بإرادة الآب (راجع يو 4، 34). والرسالة إلى العبرانيين تطبق على يسوع كلمات المزمور 39: "لم تشأ ذبيحة ولا قربانا ولكنك أعددت لي جسدا. لم ترتض المحرقات ولا الذبائح عن الخطايا.  فقلت حينئذ ‘وقد كان الكلام علي في طي الكتاب: هاءنذا آت، أللهم لأعمل بمشيئتك‘" (عبر 10، 5 –  7). وأخيرًا، تشكل الكنيسة الشعب الذي أحبه الله ودعاه أولاً (راجع 1 يو 4، 19)، الكنيسة هي الشعب المدعو "والمُجْتَمِع في وحدة الآب والابن والروح القدس"، بحسب وصف القديس قبريانوس أب الكنيسة (Cipriano, De oratione dominica, 23; PL 4, 553; Cf. LG 4). تعيش الكنيسة والمسيحيون الأفراد في اتكال حيوي على المسيح، مثلما تتكل الفروع على الكرمة وتستمد منها الحياة، فمن دون المسيح الذي يدعو الأشياء فتكون لا يستطيع المسيحيون شيئًا (راجع يو 15).

والسؤال الثاني الذي نطرحه هو: هل نحن موجودون في هذا العالم لكي نبني هوية مستقلة؟ هل إحقاق ذاتي بذاتي هو السبيل المناسب لتحقيق معنى وجودي؟

الحداثة تجيب إيجابًا. يلاحظ الفيلسوف أومبرتو غاليمبرتي (Umberto Galimberti) أنه مع عصر الحداثة ينتقل علم الله (scientia Dei) إلى الإنسان؛ ومن خلال العلوم تنتقل كلية قدرة الله إلى الإنسان الذي يبدأ بالنظر إلى ذاته ككلي القدرة وكضابط الكل، ويبدو له العالم كمشروع يقوم به من تلقاء نفسه فيبني ويخلق عالمًا جديدًا، كما لو كان إلهًا يستغني عن الله. بدل ملكوت الله، يبني الإنسان ما يسميه فرنسيس بايكون "ملكوت الإنسان"، حيث يبدأ المرء بتحقيق ما كان يكتفي بانتظاره من قِبَل الله (Cf. U. Galimberti, “Nessun Dio ci può salvare”, in Micro Mega 2 (2000), 196).

بالطبع، الإنسان، ككائن روحي، هو مدعو لكي يبني معنى وجوده، ويخبرنا سفر التكوين عن هذا الواجب الذي يوكله إلى الله من خلال التعبير الرمزي: "أخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها" (تك 2، 15)؛ ولكن "البناء" لا يشكل كل هوية الإنسان، وهو ليس الواقع المؤسِّس. البناء الذي يقوم به الإنسان هو واقع تجاوبي، أي أن الإنسان يفلح في البناء فقط من خلال جوابه على نداء وعلى دعوة من الله. إن البديل المسيحي لواقع البناء هو هذا: يحقق الإنسان ذاته، مصيره ومعنى وجوده عندما يضحي وجوده جوابًا على دعوة تستبق وجوده، تؤسسه وتحققه.

في نموذج البناء، يقيم الإنسان نفسه ركيزة وخالقًا لمصيره؛ في نموذج الدعوة يجيب الإنسان على دعوة الله الذي يجعله شريكًا في الخلق، ويدخل في مفاعيل نعمة التعاون (gratia collaborans).

البناء والتعاون ليسا واقعين متناقضين بالضرورة. ولكن إذا ما نسينا عنصر الدعوة ، لا نعود نفسح مجالاً لله، ويبقى الإيمان واقعًا هامشيًا، يرتبط في الحياة الخاصة دون تأثير ودور في الحياة العامة. وهذا هو بالضبط ما يحدث في الحداثة: الإنسان الحديث يفتقد لاستعدادية خبرة الإيمان. اكتفاؤه الذاتي يغلق الباب في وجه العلائقية الروحية والدينية.

أما نظرة المسيحية التي تنطلق من نموذج الدعوة فهي تستلهم مبدأ "الجهد المشترك" (sinergia) التي يمكننا أن نلخصها بالمبدأ المنسوب للقديس اغناطيوس دي لويولا (افعل كل شيء كما لو أن الكل يعتمد عليك، وترقب كل شيء من الله لأن كل شيء يعتمد عليه). في هذا النموذج توجه نعمة الله الدعوة، والإنسان يشترك بالنعمة في تحقيق ملء الخليقة. فالله الذي "أتم العمل الذي قام به" في الخلق (تك 2، 1)، والذي قال "قد تم" مشيرًا إلى عمل الفداء (يو 19،30) يقدم اكتمالاً، على صعيد الله. وهذا الاكتمال هو بدء على صعيد الإنسان. يضحي الله هكذا حليف الاكتمال البشري، لأن عمل الخلق والفداء لم ينتهيا بالكلية، بل، كما يقول يسوع: "الآب يعمل وأنا أعمل أيضًا" (يو 5، 17).

فما أتمه الله يضحي مهمة للإنسان يحققها على مدى التاريخ، في كل ذرة حرية بشرية في تاريخ البشرية. ففي حميمية الحرية يلتقي عمل الله مع عمل الإنسان، ويتحقق الخلق والفداء بشكل شخصي، حميمي وحر. إن آباء الكنيسة يبنون في هذا المجال لاهوتًا بديعًا انطلاقًا من آية سفر التكوين: "لنخلق الله على صورتنا فمثالنا" (تك 1، 26). يشرح الآباء أن الصورة هي المعطى الثابت الذي يعطيه الله منذ البدء للإنسان، أما "المثال" فهو المعطى الديناميكي الذي يجب على الإنسان أن يحققه من خلال العون الذي يقدمه له الله (V. Loosky, À l’image et la ressemblance de Dieu, Paris 1967).

قدمت الحداثة نظرة فضلت نموذج البناء على حساب نموذج الدعوة التي من خلالها يدعو الخالق الخليقة لكي تضحي شريكة في عمل الخلق الذي يستمر على مدى التاريخ.

 

مذهب العقلية والاستقلالية

يصف المفكر فرانس روسنتزفايغ تداعيات مذهب العقلية في العصر الحديث بالقول: "لقد انتصر العقل، النهاية عادت إلى البدء، موضوع الفكر الأسمى هو ذاته، فما من شيء يخرج عن دائرة العقل؛ اللاعقلية عينها ما هي إلا حد العقلانية، وليست واقعًا يخرج عنها. ولذا فالعقلية قد انتصرت على كل الجبهات. ولكن ما أغلى ثمن هذا النصر! فقد تم تدمير مبنى الواقع: وقد تبخر الله والإنسان وأضحيا مجرد أفهوم يتداوله الإنسان المفكر؛ وبات الإنسان والعالم مجرد وسيلة في يد هذا الإنسان؛ وبات العالم مجرد جسر بين هذين المفهومين" (F. Rosenzweig, La stella della redenzione, Genova 1985, 153ss).

العقلية هي الاعتراف بالقيمة السميا والمصيرية لدور العقل البشري في الحياة النظرية والعملية للأفراد والجماعات، في العلوم وفي الدين؛ تقوم نظرة مذهب العقلية على فهم محدد للوجود البشري كنموذج بناء ذاتي (راجع القسم الثالث من المقالة). كما رأينا في ما قبل، لقد ربط ديكارت الله بدور الضامن (deus ex machina)، الله موجود لأنه ضروري لأفكاري الواضحة والمتباينة، أقر بوجوده لأنه أطروحة نافعة لوجودي. العلاقة بالله في النموذج العقلي هي علاقة نفعية، وسائلية.

يتوصل إيمانويل كانط إلى نتائج مماثلة، بحيث يبني نظامًا أخلاقيًا عقليًا يرتكز على أدبيات مستقلة. يقول كانط في كتابه ميتافيزيقيا العوائد: "الشخص لا يخضع لأية سلطة أخرى إلا تلك التي يتبناها شخصيًا (بمفرده أو بالتعاون مع الآخرين)" (I. Kant, Metafisica dei costumi, Milano 2006, 47). وهذا التأسيس المبني على الإنسان يجد ركيزته في مبدأ حرية الإنسان.

المشكلة اللاهوتية التي يطرحها كانط تظهر على نفس المستوى الذي يطرحها فيه ديكارت. أعمالنا ليست مقياسية لأنها مبنية على شرع إلهي، بل، على العكس، نعتبرها نحن شرعًا إلهيًا لأننا نشعر بأننا مرتبطون بها باطنيًا. الدين، بحسب كانط، لا يقدم أي شرع لا يستطيع العقل المجرد أن يكتشفه. ولذا يتجاوز كانطُ ديكارت في نظرته ، لأنه لا يقلب فقط هيكلية الأدبيات، بل يغير أيضًا هيكلية المعنى الخلقي: هدف الأدبيات ليس الله بل الإنسان. الله ليس هدفًا بل وسيلة لطوباوية الإنسان، طوباويةً يجدها في تناغم النظام الأدبي والنظام الطبيعي. وكل ما يظن الإنسان أنه يستطيع أن يقوم به ليرضي الله ما هو إلا "وهم ديني" و "خدمة مزيفة" لله (Cf. W. Kasper, “Autonomia e Teonomia.  Sulla collocazione del cristianesimo nel mondo moderno”, in Teologia e Chiesa, Brescia 1989).

باسم مبدأ العقل، اكتشف العقليون استقلاليةً بشريةً متحررة من الركيزة الإلهية، بحيث أن "ضمان الذات ووعي الذات أضحيا المحور الأرخميدي لكل ضمانة، وبات العقل الوسيلة الوحيدة لإنتاج هذا المحور" (Cf. M. Seckler – M. Kessler, “La critica della rivelazione”, in W. Kern – H.J. Pottmeyer – M. Seckler (edd.), Corso di teologia fondamentale. Trattato sulla rivelazione, II, Brescia 1990, 33).

فكرة الله بحسب كانط هي مطبوعة في هيكلية العقل، وهي ليست واقعًا خياريًا، ومع ذلك فهي لا تملك أي رابط، لأن هدف الأدبيات كامن فيها. ولذا فإن فكرة الله نافعة كعون للوصول إلى السعادة، ولكنها ليست ركيزة هذه الأخيرة. يسهم كانط بجعل فكرة الله عاملاً أدبيًا، ويتم اختزال الدين بالأخلاق. في هذا الإطار يضحي العقل مناهضًا للدين الإيجابي ويتخذ خصائص الدين "الحق" لأن الركيزة التي تؤسس كل تقليد ديني وتاريخي هي قاعدة أخلاقية تسبق كل تقليد ديني.

بكلمات أخرى يضحي البعد الأخلاقي المعيار الحكم حتى في إطار الدين. ينقل كانط كنه الدين إلى مادية الأخلاق، ويتم الحكم سلبيًا على أي إيمان يرتكز على الطاعة وعلى البعد المعارفي للوحي كواقع غير عقلاني، لا بل غير أخلاقي (المرجع نفسه، 34).

لقد أساءت الحداثة فهم حركتها الإيجابية المتمثلة بقدرة تحرير مؤهلات الإنسان، وهذا لأنها تخلت عن جذورها العريقة التي هي دينية، وجذورها القريبة التي هي البعد العلماني للوجود، والذي ليس مرادفًا للعلمنة الجذرية. لقد كانت الحداثة "تعبيرًا عن أزمة إصلاحية، وعن انفصال لا سابق له وَسَّع فسحة الخبرة أكثر من أفق الانتظار" (C. Dotolo, “La relazione tra teologia e post-modernità: problemi e prospettive”, in Antonianum 76 (2001), 659).

لقد سمح إقرار الذات (Selbsehauptung) بابتكار لغة وجودية جديدة مبنية على جرأة المعرفة (sapere aude)، على التحرر، على الاستقلالية والثورة. ولكن من الناحية الروحية والأنثروبولوجية، أدى الانفصال عن التقليد إلى فقدان ميادين غنية بالمعنى مخلّفًا بالتالي فراغ معنى، ولذا توصلت الحداثة إلى أن تكون حداثة يتيمة في استقلاليتها، ومتضعضعة في وثبة تقدمها.

مذهب العقلية والفردانية

من خلال بحثه عن الحقيقة، كان الإنسان الحديث يتوق إلى تأسيس استقلاليته وحريته. ومن خلال انغلاقه في حدود عقليته انعزل عن الآخر الذي بات "جحيمًا"، وأضحت فرادته فردانيةً.

الفردانية هي انحطاط للفردية وانسلاب للشخص، لأن الشخص البشري يوجد فقط في إشعاع نظرة الآخر إليه. ما يميز الوجود الشخصاني من الوجود الوضعي هو الجدلية العلائقية التي يعيشها الشخص البشري: إن علاقة الإنسان بذاته تمر من خلال جدلية تسليم ذاته للآخرين، وقبول ذاته من جديد من يد الآخرين. هذا الأمر ليس واقعًا روحيًا وحسب، بل هو واقع إنساني أولي: فالطفل يقوم بأول فعل شخصي بامتياز عندما يبادل أمه أو أبيه لأول مرة نظرتهما وابتسامتهما بنظرة وابتسامة، بحسب ما يلاحظ اللاهوتي هانس أورس فون بالتازار. هذه الابتسامة الأولى تُعمّد في وجود المرء أول فعل إنساني بامتياز، بعد سلسلة من الأفعال هي في جوهرها غرائزية مثل الأكل، البكاء، النوم…

الفردانية تعزل الشخص وتطفئ الإرادة الشخصانية الحرة، إذ تُغلق الزخم الإرادي في حلقة عدمية المُريد. البحث عن الاستقلالية في الحداثة يلبس طابع الانفصال عن الله وعن الإنسان الآخر. وهذا الانفصال غالبًا ما يضحي إزالة ومحوًا للآخر، وتطبيقًا لنظرة حسابية على الوجود، العالم والعلاقات. من خلال الفردانية، يعتزل الإنسان أفق المعنى الذي يتجاوز الفرد ملخصًا دينامية الوجود برغبات الأنا، فتغيب الغايات المتسامية والشخصانية وتنطفئ نجوم القيم لتحل مكانها القيمة الاقتصادية التي تجتاح العلاقات البشرية والدينية (Cf. G. Mucci, “La diffusione dell’individualismo e lo sgretolamento della solidarietà sociale”, in La Civiltà Cattolica III (1997), 473).

الفردانية تتناسى البعض الاقنومي (persona-hypostasis) للشخص البشري المستمدة من اللاهوت الثالوث وتختزله في نظرة نرسيسية تضحي موضة ثقافية واجتماعية متفشية. بكلمات مبسطة يضحي الإنسان المنطوي على كمالاته السطحية النموذج الذي تُسوِّقه وسائل الإعلام كمرجعية مرجوة.

اختبار الفردانية يحمل في طياته نتيجتين يقدمهما رومانو غوارديني بهذا الشكل:

أولا، ظهور الفردانية كحرية حركة وتعبير عن الذات. بحيث يظهر الإنسان ربًا لنفسه، يفعل، يتجبّر ويخلق، يواكبه الحظ ويكلله المجد.

ثانيًا، فقدان الإنسان لمكانه الموضوعي الذي كان قد تسلمه من صورة العالم القدين، ويخبر نوعًا من الوحشة والشجن الذي يختلف كثيرًا عن شجن إنسان العصر الوسيط (R. Guardini, La fine dell’epoca moderna.  Il potere, Brescia 19999, 39).

بكلمات آخرى، من خلال فردانيته يجد الإنسان الحديث ذاته ولكنه يفقدها في اللحظة عينها التي يجدها فيها، لأنه يجد نفسه فورًا في عالم فقد نقاط ارتكازه الرمزية. فالعالم بالنسبة له لا يعود خليقة بل يضحي طبيعة، ويجد الإنسان نفسه كخالق مكبل الأيدي أمام عالم يفوق طاقته ويتجاوز قدرته على السيطرة والتدبير.

إن اكتشاف واقع الفرد يشكل إرثًا هامًا في الحداثة ولكن التطرف في الفردانية يقضي على الإنسان. كَوَرَثَة الحداثة يجب علينا أن نحفظ هذا الإرث الذي يجعل منا رواد وجودنا، ولكن لا يجب أن ننغلق على دور البطولة هذا، بل علينا بالحري أن ننفتح على بنية ونموذج الدعوة لنعيش بطولتنا كجواب على دعوة تسبقنا وتسندنا. يضحي الإنسان رائد وجوده عندما يخرج من ذاته. فاكتشاف واقع الفرد هو كنز عظيم، كما برهن عالم الاجتماع الكندي تشارلز تايلور (Cf. C. Taylor, Radici dell’io.  La costruzione dell’identità moderna, Milano 1993)، ولكن تحقيق الفرد لذاته يمر من خلال تجاوز الفردانية، كما حدس الفيلسوف الروسي نيكولاي بردييايف (Cf. N. Berdjaev, Nuovo Medioevo.  Riflessioni sul destino della Russia e dell’Europa, Roma 2000, 25).

فقط من خلال الوقوف بحرية وتجرد أمام فرديته، يستطيع المرء أن يحمل ثمار فرادته. فقط عندما يتخلى عن تأمل سرّة بطنه يستطيع أن ينفتح على آخرية الكون، الإنسان والله وأن يدخل في سر الحب. نستطيع بهذا الشكل أن نفهم كلمات يسوع بمعناها الوجودي العميق: "إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض إذا لم تمت تبقى وحيدة، أما إذا ماتت فإنها تعطي ثمرًا وفيرًا" (يو 12، 24)، وأيضًا: "من أراد أن يخلص حياتها خسرها، أما من خسر حياته فيخلصها" (لو 17، 33؛ راجع يو 12، 25). إذا لم ينفتح أنا الإنسان على الله، يبقى أفقه مغلقًا داكنًا، ويؤدي إدراكه الذاتي لفردانيته إلى الشجن الذي يرافق وعي الحداثة، فيرى الإنسان نفسه "محكومًا على بالحرية" (سارتر) ومحكومًا عليه بالعدم (نتيشه). وحده الانفتاح على الآخر يجعل الإنسان يتذوق لذة الحرية الحقة التي تذاق في وجود تسنده دينامية المحبة.

ما بعد الحداثة كحكم على ثمار مذهب العقلية

مذهب العقلية هو نزعة فكرية وفلسفية تجعل من العقل الصرف المرجعية الأساسية والوحيدة لفهم الإنسان، وتؤمن بأن العقل وحده يسمح للمرء أن يحوز على سيطرة كاملة لعالمه الفردي، الاجتماعي والديني. ليس هناك فسحة للثقة الوجودية نحو ما يسمو على الإنسان في هذه النظرة. من هنا ينطلق ديكارت من اعتبار الله كما لو كان "جنًا خادعًا" (genium maligium) ثم يتوصل إلى إعلان صلاح الله فقط بعد أن أسس ذلك عقليًا. والأسوأ من ذلك، ليس هناك ثقة وجودية نحو مَلَكَات الإنسان عينها، مثل العواطف، المشاعر، الأحاسيس، الغرائز، الحدس، الروح الخلاق… فبحسب هذه النظرة الفلسفية  وحده العقل المجرد يستحق الثقة.

يكشف لنا واقع ما بعد الحداثة عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش واثقًا فقط بعقليته المشكِّكة. فهذه الحقبة تكشف لنا بشكل نبوي عن استحالة العيش انطلاقًا من معطيات الحداثة وحدها. [ملاحظة: نعني بتعبير ما بعد الحداثة الحقبة الفكرية والاجتماعية التي تلي الحداثة، والتي بدأت، بحسب رأي الكثير من المفكرين، مع نهاية القرن التاسع عشر]. يلحظ الكثير من المحللين البعد الإيجابي لـ "ما بعد الحداثة" في دحضها وتبديدها لأوهام وأساطير الحداثة، ويعتبرونها "ما بعد حداثة البناء"، لأنها تُحالفُ الإيمان فتفتح قبور أفق بشرية كان عصر التنوير قد دفنها، وتعد بزمن إنساني خلاق.

لقد رافقت ثورةَ عهد التنوير ثورة أخرى هي النهضة الرومنطيقية، ولكن الكنيسة، انشغلت في مواجهة هجمات فلاسفة التنوير وغضت الطرف عن الإسهام الذي كان باستطاعة فلاسفة النهضة الرومنطيقية أن يقدموها. وها إن واقع ما بعد الحداثة يأتي ليسلط الضوء على ما كان قد بقي طي التهميش.

يتبدد في ما بعد الحداثة الوهم بأن الإنسان يستطيع أن يضبط ويستوعب كل الوجود في قدرة عقله وأناه. نجدنا في ما بعد الحداثة أمام معرفة يمكننا وصفها بـ "ما وراء الميتافيزيقيا" أو "ما وراء الماورائيات"؛ إنها معرفة تشك بقدرة العقل البشري في إدراك الحقيقة في جوهرها الحميم، ولذا تسعى بالحري للوصول إلى معنى وجودي يخرج عن إطار العقل (para-razionale). تعتنق بعض تيارات ما بعد الحداثة إرث فلسفات الشك – مثل فلسفة جاك دريدا وجاني فاتينمو – وتجد نفسها في ميدان حرب ضارية لإيجاد نقاط ثابتة في معرض فكر تفكيكي. تسعى هذه الفلسفات إلى إيجاد "مراسي معنى" في "السقوط الأبدي" الذي يجد فيه الإنسان المعاصر نفسه بعد أن كُبتت التساؤلات الجوهرية.

ولذا، فلسفيًا، يشكل عصر ما بعد الحداثة فترة ضعف مزاعم العقل، الذي لا يقبل كمعطى غير نقدي معنى العالم، ويشكك بأي نظام يقدم معنى متكامل، وينتقد نتائج كل الأنظمة التوتاليتارية (المثالية، التجريبية، والسياسية…) التي ولدها العصر الحديث. ما بعد الحداثة هي حقبة فكرية تنتقد العقل الوسائلي الحديث الذي لم يعترف بطابع الإنسان وبوجه التاريخ الغامضين. هذه العقلية، بحسب مؤسس الظواهرتية، إدموند هوسرل، تسببت بـ "تناسي الحضور" وبفقدان أهمية معرفة عالم الحياة، مشاكل الفرد والوجود البشري، وأدت إلى انسلاخ هذه الوقائع عن إطار العقل وإلى وقوعها في خانة اللاعقلانية (Cf. E. Husserl, La crisi delle scienze europee e la fenomenologia trascendentale, Milano 1999).

في وجه حداثة آمنت بالعقل أكثر من الضروري، حمل نوّاسُ (pendulum) التاريخ حقبةَ ما بعد الحداثة إلى الإيمان بالعقل أقل من الضروري. تظهر قلة الإيمان بالعقل في تيارات ما بعد الحداثة الفلسفية مثل التاريخانية، البرغماتية، الانتقائية (eclecticism)، ولكن بشكل خاص العدمية (راجع يوحنا بولس الثاني، رسالة عامة "الإيمان والعقل"، 86 – 90). ولكن عدم الثقة بالعقل ليست وجه ما بعد الحداثة الوحيد. هناك وجه آخر، هو ما بعد الحداثة الخلاقة والنبوية، التي يمكن أن تكون حليفة للإيمان، لأنها، بكل بساطة أقرب إلى الإنسان بكليته.

إن ما بعد الحداثة هذه هي، بحسب ما يلاحظ دايفد ترايسي، أكثر انفتاحًا لما هو نبوي، كوني، وشراكي في الخبرة الدينية. إن ثورتها على عقلية الحداثة المتطرفة هي ردع فعل على مذهب العقلية الذي كان يبشر بعقل منفصل، عدائي، ديكتاتوري، معادٍ للحياة والحيوية. العقل المنفصل الحديث لم يفسح مجالاً لتفسير الإنسان بل خلق وثنًا لا فسحة فيه للزخم الحيوي (élan vital) وللطابع الأيقوني للكائن البشري الذي يحمل صورة الخالق، والذي لا نصل إليه بواسطة العقل المنفصل بل فقط إذا ما فتحنا العقل على كل أبعاد الشخص البشري، وإذا ما فتحنا الشخص البشري على سعة الحب. لقد اكتشفت حقبة ما بعد الحداثة الخلاقة والنبوية هذه الأبعاد، وأتت لتقول ما قد سكتت عنه الحداثة. ما بعد الحداثة هذه هي أكثر انفتاحًا على الحقيقة الدينية التي يتحدث عنه الكتاب المقدس وبشكل خاص الإنجيلي يوحنا (راجع مفهوم الحقيقة –  Aletheia في فكر الإنجيلي يوحنا).

 

تهافت أوهام التطور البشري البحت

 

خلال عصر النهضة والحداثة، تحررت طاقات الإنسان. وإذ شاء الإنسان أن يكون مستقلاً وخالقًا لمصيره، انفصل عن المحور الديني الذي كان يشكل نواة الحياة في العصر الوسيط. أراد الإنسان أن يسير في درب حر ومستقل جاعلاً من مقرراته الشخصية معيار وجوده. واعتقد الإنسان الأوروبي أنه يكتشف للمرة الأولى الإنسانَ وعالمه. ولذا تفاخرت الحداثة، من ناحية، بالادعاء بأنها عصر اكتشاف الإنسان، وكأن الإنسان كان مسلوبًا ومنفيًا حتى ذلك الحين، ومن ناحية أخرى فرضت قراءة إيديولوجية للعصر الوسيط، فجاء "عصر التنوير" كرد على العصر الوسيط الذي اعتُبر كعصر الظلمات (Cf. W. Kasper, Introduzione alla fede, Brescia 200311, 17-20).

رأت الحداثة أن أسطورة التقدم ممكنة فقط إذا ما تحرر الإنسان من كل الهيكليات الدينية الخارجية التي لم تكن تسمح له أن يجرؤ على المعرفة والتفكير والخلق، أن يجرؤ بكلمة على أن يكون إله وجوده وكونه.

إن المنطق الكامن الذي يعبّر عنه بأشكال مختلفة ومتراكزة كل مِن فويرباخ، ماركس، نيتشه وسارتر هو التالي: إذا كان هناك إله، لا يمكن للإنسان أن يكون. بالنسبة لهم، الدين يحتكر ما هو في الأصل حق الإنسان، ولذا إذا ما أراد الإنسان أن يكون من جديد، لا بد أن يزول الله من الوجود.

ولكن، على عتبة القرن العشرين، انتقد الكثير من الكتاب الحداثة وثمارها. ولم يكن الفلاسفة أول النقاد بل رجالات الأدب والشعر والفن التشكيلي. كفى بنا أن نفكر بقصيدة تي أس أليوت (T.S. Eliot) "الأرض البور" (The waste Land) وملحمة "أوليسس" (Ulysses) للشاعر جايمس جويس (J. Joyce)، و "اعتبارات رجل غير سياسي" للأديب توماس مان (Thomas Mann)، حيث يقوم مان بانتقاد انحطاط وفراغ العالم الديموقراطي الليبرالي. ويكفي أن ننظر إلى لوحات إدفارد مونخ (E. Munch)، وبشكل خاص "الصرخة" و "البلوغ"، لنرى في ألوانه وفي تعابير الوجوه والعيون كرب الحداثة وقلق الإنسان الحديث، ويكفي أن نتتبع رسومات بيكاسو لنرى تعبيره العبقري عن انحلال الشخص البشري وانفطاره.

في الإطار الفلسفي واللاهوتي، تنبأ رومانو غوارديني عن نهاية العصر الحديث (Neuzeit)، وقبله في عام 1923، تنبأ برديايف بأن التاريخ الحديث "شارف على نهايته، وها إننا نبدأ حقبة مجهولة، يجب أن نعطيها اسمًا" (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 3). يعتبر برديايف أننا حدسنا نهاية العصر الحديث وتفاؤله العقلي والتقدمي عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى. فمنذ ذلك الحين بات وقع التاريخ "مأساويًا". يقول هذا الفيلسوف الروسي المرتد إلى المسيحية الأرثوذكسية بعد أن كان من المقتنعين بالشيوعية البولشيفية: "منذ زمن، حدس الأشخاص النيّرو العقل أننا على أبواب فواجع رهيبة. فقد كانوا يدركون العوارض الروحية تحت مظاهر حياة هادئة ومنظمة. بالواقع، إن الأحداث تجري في إطار الروح قبل أن تظهر في واقع التاريخ الخارجي" (المرجع نفسه).

لقد قال برديايف هذه الكلمات النبوية قبل عقدين تقريبًا من اندلاع الحرب العالمية الثانية، قبل معسكرات الاعتقال النازية، وقبل الحدث الذي وصفه البعض بـ "التأكيد الرهيب على أننا دخلنا في تعقيد ما بعد الحداثة"، أي الحادي عشر من سبتمبر 2001 (M.P. Gallagher, Clashing symbols, 2).

يتابع برديايف، الذي هو منظّر "العصر الوسيط الجديد" (nuovo medioevo) مصرحًا بأننا ندخل في عالم المجهول وفي غابة داكنة عذراء، ودخولنا لا يرافقه "لا الفرح ولا الرجاء المتألق". فنحن نعرف أنه لا يمكننا أن نؤمن بعد الآن بنظريات التقدم التي أغوت القرون الثلاثة التي سبقتنا. نحن الآن شهود لـ "انحسار النهضة" ولاضمحلالها. نهاية النهضة هي بالتحديد "نهاية وفشل الأنسية التي كانت ركيزتها الروحية" (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 5). لقد نظرت الأنسية وجهًا إلى وجه إلى تناقضاتها المتفجرة، وفقدت كل غضاضتها.

دخل الإنسان الحداثة حالمًا بالاستقلالية، فوجد نفسه في وحشة. دخل حالمًا بالاتصال، ولكنه لم يفلح بالتواصل، بل وجد نفسه منفردًا في حشد مستوحش (lonely crowd). أراد أن ينفي الله ولكن جل ما فعله هو أنه نفى الإنسان وأنشأ ما يمكننا أن نصفه بأنسية دون الإنسان وأن نسميه بـ "الأنسية المعادية للإنسان".

الأنسية اللاإنسانية أو نفي الإنسان باسم الإنسان

إن كل مسعى مذهب العقلية وعصر التنوير والإلحاد الأنسي إنما يتلخص بِنِيّة إعادة الإنسان إلى ذاته عبر انتزاعه من أيدي الألوهة ومن قيود الطاعة لتسليمه لحريته، استقلاليته وعقله.

كانت هذه مقدمات نظريات التقدم الأفقي. ولكن تطور الأمور في إطار التاريخ لم يقد إلى الأهداف المرجوة، بل كذبت النتائجُ الوعودَ وألقت وصمة عار على مُنتَج الحداثة.

بحسب تحليل نيكولاي برديايف، كان للحداثة بدء إيجابي عندما لم تكن بعد وثنية أو معادية للمسيحية. فبدء الحداثة، أو عصر النهضة كان مليئًا بالزخم الروحي الذي خزّنه خلال العصر الوسيط. (cf. N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 13). يلاحظ الفيلسوف الاجتماعي الروسي أن "عصر النهضة كان موجودًا في أعماق العصر الوسيط، وأن زخمه الأولي كان مسيحيًا بالكامل. فنفس العصر الوسيط، النفس المسيحية قد استيقظت على إرادة الخلق" (N. Berdjaev,Nuovo Medioevo, 11). بحسب برديايف، يستطيع الإنسان أن يكون خلاقًا فقط عندما يكون عنده الزخم الروحي للإبداع. فإبداع عصر النهضة هو من مخزون العصر الوسيط المسيحي. نفد هذا المخزون مع مرور الزمن وأدى إلى انحباس قدرة التطور الحقيقي. كما رأينا سابقًا، إن الكثير من رجالات وعباقرة العصر الحديث كانوا مسيحيين، ولو على طريقتهم (ديكارت، كانط، هيغيل…). ولكن عندما استنفدت الحداثة طاقتها الروحية، أي عندما تحول الطابع العالمي (secolarizzazione) إلى علمانية متطرفة (secolarismo radicale) هي عدوة لدودة للدين، خسرت الحداثة ركائزها ووصلت إلى تدمير الذات الماسوشي. ففردانيتها التي أرادت أن تعلن فرادة الإنسان إنما أبرزت وحشته وعزلته ودمرت أسس شخصانيته.

يحلل برديايف شخصيتين أساسيتين أثرتا بشكل جذري في العصر الحديث: فريدريخ نيتشه وكارل ماركس، المفكران الذين مثّلا بعبقرية كثيفة إنكار الذات وتدمير الذات اللذين عاشتهما أنسية العصر الحديث.

يقول برديايف: "مع نيتشه، تتخلى الأنسية عن ذاتها وتدمر ذاتها في إطارها الفرداني؛ مع ماركس تدمر ذاتها في إطارها الجماعي والشمولي. إن الفردانية المجردة، مثل الشمولية المجردة هما ثمرة عامل واحد، وهو انفصال الإنسان عن الركيزة الإلهية للوجود، وابتعاده عن الواقع الملموس" (N. Berdjaev,Nuovo Medioevo, 28).

نيتشه هو ابن الأنسية وضحيتها في آن. في مصير نيتشه تتحول الأنسية إلى عكسها. "يحدس نيتشه أن الإنسان هو ‘عار وذل‘. يتحرق من رغبة أن يراه يتجاوز نفسه؛ فإرادته تتوق إلى الإنسان المتفوق. أدبيات نيتشه لا تقرّ بقيمة الشخص البشري؛ يقاطع نيتشه ما هو بشري، يبشر بالقساوة تجاه الإنسان، باسم غاياته الفائقة الإنسانية، باسم ما هو مستقبلي وبعيد، باسم ما هو سامٍ. يحل الإنسان المتفوق لدى نيتشه مكان الإله المفقود… ولكن مع الفردانية الصوفية الفائقة يضيع نيتشه الإنسان" (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 29).

بالطريقة عينها، يضيع الإنسان في الشمولية الفائقة الإنسانية التي يبشر بها ماركس. روحيًا، يتحدر ماركس من دين فويرباخ الأنسي. ولكن، بطريقة قريبة من نيتشه، رغم التمايز البسيط، تتحول أنسية ماركس إلى عكسها، فتضحي لا إنسانية. إن مفهوم ماركس الفلسفي والاجتماعي لا يقرّ بالفردية البشرية، تلك التي كان يتغنى بها معلمه فويرباخ، الذي كان يعتبر الإنسان جوهر وكنه كل ما هو إلهي أو بالحري كل ما هو مؤلَّه (L. Feuerbach, L’essenza della religione, Roma 1994, 45). يشعر ماركس أن الفرد البشري هو إرث العالم البورجوازي القديم، ولذا يجب تجاوزها عبر الشمولية. أدبيات ماركس لا تقبل بقيمة الشخص البشري الفرد. ولذا فماركس أيضًا يطلّق البشري ويبشر بالقساوة تجاه الإنسان باسم المجموعة، باسم الأمة المستقبلية، باسم الدولة الشيوعية الاشتراكية. تحل الشمولية عند ماركس مكان الإله المفقود.

يصرح إيمانويل مونيه بتبصّر ثاقب بأن "الماركسية هي تفاؤل للجماهير مبني على تشاؤم بشأن الأفراد". إن شمولية ماركس لا تقبل الفردية البشرية مع ما تحمله من حياة باطنية لا متناهية، مع أن هذه الأخيرة كانت محط انتباه كبار الأنسية الألمانية مثل هردر وغوتيه. الشيوعية الماركسية تنطلق من ركيزة أنسية، ولكنها تنتهي بإنكار لهذه الركيزة. يضحي الفرد وسيلة في يد المجموعة الاجتماعية وانزيمة لتقدمها. "لا يتم اعتبار الشخص كفرد، بل كجزء من المجموعة. الفرد هو انعكاس للبنية الاجتماعية التي ينتمي إليها. وبقدر ما يعكس هذه البنية بصفاء بقدر ذلك يكون كاملاً. يجب أن يتمحور جهده على أن يتوصل ليكون عضوًا مندمجًا بالكلية في دينامية المجتمع" (I. Fuček, “Marxismo”, in R. Latourelle – R. Fisichella (edd.), Dizionario di teologia fondamentale, Assisi 1990, 684). إن وعي الطبقة العاملة هو بالعمق وعي لم يعد يملك شيئًا من الأنسي، لا بل أضحى لاإنسانيًا. فالطبقة تحل مكان الإنسان. تمامًا كما يحل الإنسان المتفوق الوهمي بدل الإنسان الملموس في نظرة نيتشه.

خلاصة القول، إن هاتين القمتين الشامختين في تاريخ الحداثة الداخلة في فسيح ما بعد الحداثة تتلاقيان في دراما تحول أحلام الأنسية إلى نفي للإنسان. في نفيهما لله وخلقهما للإنسان الإله وللمجموعة الإله، بددت الفلسفتان النيتشية والماركسية هدف التأليه: الإنسان، وخلّتا وعي إنسان ما بعد الحداثة وعيًا ثاقبًا يحمل بين يديه جثة أحلامه.

المعنى الروحي لِلَاإنسانية الأنسية الملحدة

لقد دمر التاريخ الحديث أوهام الطوباويات الحديثة مبينًا أن الإنسان لا يستطيع أن يصبح الإنسان المتفوق الذي يحلم أن يكون، وأن الشمولية يمكنها أن تضحي فقط حشدًا يستغل المجموعة لصالح حفنة من الأفراد الذين يشتتون الشعب بأفيون الشيوعية لكي يعيشوا على ظهره. في هذه الصورتين النموذجيتين يلفظ حلم التقدم البشري البحت أنفاسه الأخيرة، ولو بأشكال مختلفة. "فنيتشه يلتفت إلى النهضة، ويريد أن يعيش زخم النهضة الخلاق، ولكنه يجد نفسه على صعيد آخر، حيث يستحيل الوصول إلى ينابيع النهضة التاريخية. بينما يبتعد ماركس عن النهضة معتبرًا إياها مجرد عالم برجوازي باهت، ويتوق إلى ملكوت جديد، حيث لا يمكن أن يحلم الإنسان بملء الروح الخلاق" (N. Berdjaev, Nuovo Medioevo, 30).

يتساءل اللاهوتي اليسوعي الكبير هنري دو لوباك الذي كرس دارسة خاصة ثمينة جدًا لموضوع أنسية العصر الحديث: "ماذا بقي من إنسان الأنسية الملحدة؟"، ويجيب باعتدال وتشخيص ثاقب: "بقي كائن لا يمكننا أن نسميه كائنًا" بقي شيء لا يملك حياة باطنية، خلية غارقة برمتها في كتلة التطور. ‘إنسان اجتماعي وتاريخي‘، لم يبق منه إلا التجريد الصافي بمعزل عن العلاقات الاجتماعية […]. لقد خسر كل ثباته وعمقه". ولذا ما من شيء يمنع الآن من "استخدام" إنسان من هذا النوع "كمواد أولية، أو كوسيلة لإعداد مجتمع المستقبل، ولضمان سيطرة مجموعة مفضلة" (H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, 62-3).

في إطار آخر، يتحدث دو لوباك عن التصوف المسيحي، فيصرح: "لعل الاهتمام بالإنسان وحده، والرفض الجدي للمسألة التي يطرحها الإنسان على ذاته هي أسوأ خيانة للإنسان" (H. De Lubac, Mistica e mistero cristiano, Milano 1979, 7).

إن الأنسية التي لا تأخذ بعين الاعتبار دعوة الإنسان الإلهية، إنها هي أنسية لا إنسانية.ولذا فالمعنى الروحي لفشل الأنسية الملحدة هو التالي: "لم يعد هناك الإنسان، لأنه لم يعد هناك ما يتخطى الإنسان" (H. De Lubac, Le drame de l’humanisme athée, op.cit, 63). إن رفض ما هو إلهي، بدل أن يؤدي إلى السمو بالإنسان، إنما يجعله يغرق في سطحية الوجود. سطحية لا يصعب لمسها في حياتنا المعاصرة. وفي غمر تناقض محيطات العدمية التي لا تسبر وآفاقها المحدودة، يكتشف الإنسان بمرارة كيف أنه لا يملك قوة أن يكون "محبًا للبشر" (philanthropos). أراد الإنسان أن يدفن الله لكي يعيش كيتيم فرح، ولكن هذا التناقض في الكلمات هو تناقض أصعب في الواقع. لقد فشلت الأنسية الملحدة والتاريخ والإحصاءات دليل على ذلك: فإن على صعيد الحياة الفردية، الأخلاقية والإنسانية، إذ نلاحظ أن الغرب الملحد إجمالاً يسجل أعلى نسبة كآبة وانتحار في الكوكب، وإن على صعيد جماعي، كفى بنا أن نرى تهافت الشيوعية في روسيا والتاريخ الأسود الذي يرافق الحكم الشيوعي الملحد.

الأنسية من دون الله كشفت عن أنها أنسية من دون الإنسان وضد الإنسان، لأن التطور الإنساني الأصيل لا يمكن أن يكون هدفه الإنسان المجرد، بل بحسب ما يقول باسكال: الإنسان يتجاوز الإنسان (l’homme passe l’homme). الإنسان الذي يبغي التقدم منغلقًا على كينونته يطفئ في ذاته نسمة الحياة السامية، الإنسان يتقدم فقط عندما يتجاوز نفسه (Cf. B. Lonergan, Method in theology, op. cit., 104: “Man achieves authenticity in self-transcendence”).

يقدم الفيلسوف الفرنسي العظيم موريس بلوندل تشبيهًا صائبًا يبين طبيعة النفس البشرية إذ يقارنها بالبانتيون (Panteon) في روما، إن قبة هذا المبنى لا تثبت بفضل ثقل كبيرة يضغط على مختلف أجزائها، فبدل الثقل هناك فتحة على السماء تحفظ القبة وتملأ داخل المعبد بالشعاع، وكذلك النفس البشرية لا تقوم تحت ثقل قبة انغلاق، بل على انفتاح نحو المطلق، نحو الله ينير كل الكيان. إن هذا الانفتاح هو الذي يحفظ إنسانية الإنسانية كفرد وكجماعة. أما الإلحاد الأنسي فقد فشل تاريخيًا لأنه رفض ثورة المطلق الذي هو الله وحده.

إن بعض أفكار نيتشة وماركس هي عميقة وهامة. فكلاهما، على طريقتهما يؤمنان بالتسامي، ولكن خطأهما هو أنهما حذفا من هذا التسامي الكائن المتسامي نفسه واستبدلاه بأوثان دنيوية توهموا بأنهما إلهية: الطبقة العاملة والإنسان المتفوق. نيتشه هو نبوي أمام مسيحية فقدت الزخم النبوي والغرائز السليمة (القديس توما الأكويني يتحدث عن غريزة الروح القدس!) وحب الحياة التي جاء يسوع إلى العالم ليعطيها وليعطيها بوفرة (راجع يو 10، 10).

وماركس أيضًا، نوعًا ما، يردد صدى لاهوت تحرير أرضي أيضًا، لاهوت رحمة نحو الفقراء، نحو اليتيم والأرملة الذين كانوا محط اهتمام الأنبياء ومحور محبة يهوه. فهو يردد ما كان يقوله آباء الكنيسة: إن لم تساعد الفقير تكون قد قتلته (راجع باسيليوس الكبير، ويوحنا فم الذهب بشكل خاص). يلخص الفيلسوف اللبناني الأب رينيه حبشي ما يمكننا كمسيحيين أن نقبله من نظرية ماركس: "إن ما سيجذبنا دومًا في الماركسية، هو أنها تعترف للإنسان بدعوته كمفعّل للتاريخ. ولكن ما سيجعلنا نحجم عنها هو أنها ترفض التسامي وتقطع جذور دعوة الإنسان بالذات" (R. Habachi, Il momento dell’uomo, Milano 1985, 151-152).

نيتشه وماركس يحبان البشرية، ولكن البشرية التي يحبانها ليست الإنسان الواقعي، إنها بشرية مجردة غير موجودة. اهتما بالبشرية على حسب الأشخاص البشريين الملموسين، فلم ينفعا بهذا الشكل ولا حتى بشريتهما المحبوبة لأننا كما يقول بشكل صائب هنري دو لوباك: "لا نتوصل بالحقيقة إلى البشرية ما لم نطال أولاً الإنسان" (H. De Lubac, Paradoxes, Paris 1999, 22). إن محبة البشر لا تستطيع أن تقول في قلب الإنسان لوحدها، دون حب أكبر يسبق ويسند الحب المنزه ويجعله ممكنًا. لقد بين الأديب فيدور دوستويفسكي هذا الحب للبشرية المجردة بشكل جذاب وفذ:

[…] كنت أقول لنفسي: "أنا أحب البشرية، ولكني أتعجب من ذاتي: فكلما يزداد حبي للبشرية، ينقص حبي للبشر بشكل خاص أي كأفراد. وغالبًا في أحلامي، توصلت إلى ابتكار برامج خلاقة حول إمكانية خدمة البشرية، ولعلي قبلت أن أموت صلبًا من أجل البشر، إذا ما بدا الأمر ضروريًا، ولكن مع ذلك، لا أستطيع أن أتعايش لمدة يومين إثنين في غرفة واحدة مع أحد، وهذا أمر أعرفه عن طريق الخبرة. يكفي أن يقوم أحد بقربي فأشعر أنه يخنق بشخصيته حبي لذاتي ويعيق حريتي. تكفيني 24 ساعة لكي أتوصل إلى كره حتى أفضل البشر: ذاك لأنه يطيل الجلوس على المائدة لدى تناوله وجبته، وذاك لأنه مصاب الرشح ولا ينفك يتمخط". وكنت أضيف: "أنا أضحي عدو الناس حالما يقتربون مني. بالمقابل كان يحدث لي أنه بقدر ما كنت أكره البشر بشكل خاص، كان يتقد قلبي حبًا للبشرية بشكل عام". (F. Dostoevskij, I fratelli Karamazov I, Milano 1994, 80-81).

إن ما يصفه دوستويفسكي هو دينامية هامة جدًا، وهي تشبه "الحب التيليسكوبي" الذي يتحدث عنه تشارلز ديكنز، أي موقف من يحب بغرام بطولي الفقراء في البلدان البعيدة ولكنه يغلق قلبه على قريبه وجاره. فهي تعبّر عن توقنا إلى الحب من ناحية، وعن عدم قدرتنا على الحب من ناحية أخرى.

بكلمات أخرى نجدنا بصدد نوّاس يتأرجح بين توقنا إلى بناء ما هو إنساني وتوقنا إلى الخروج من الذات وعيش الحب المنزه، وبين أنانيتنا وعدم قدرتنا على عيشه بقوانا الشخصية. فقط عندما يتخطى الإنسان عقدة النقص تجاه واقع أنه ليس هو منبع الحب، يستطيع أن يصغي إلى نداء الحب الذي يدعوه إلى الشرب والارتواء، فيتخطى الخطيئة "الأصلية"، أي تلك الخطيئة التي من خلالها يريد الإنسان أن يجعل من ذاتها الأصل بدل أن يكون الفرع الذي يثبت وينمي من الغذاء اللمفي الذي يستمده من الأصل. وفقط عندها يستطيع أن يبني التقدم الأصيل المبني على حب أبدي، حب الله، لا على حبنا الأرضي المحدود والممزوج بالأنانية.

خلاصة

إن تحليلنا في معرض هذه المقالة هو مليء بالإشارات إلى الإلحاد المعاصر، وهذا موضوع سنتطرق إليه في مقالة مقبلة تستعرض لا وجه الإلحاد الداكن وحسب، بل أيضًا وجهه التطهيري الذي يتحدى الإيمان ويساعده على أن ينقي ذاته، وجهًا يقترب من لاهوت النفي الذي ميّز روحانية وفكر آباء الكنيسة الشرقيين. أما الآن فنختم هذه المقالة ملخصين ما قد استعرضناه في سطور:

ركزنا في مطلع المقالة على أهمية القيام بتمييز معنى الحداثة، وأوضحنا، انطلاقًا من أقوال يسوع المسيح كيف أن التمييز يقوم على النظر في ثمار الحداثة: هل حملت الإنسان إلى الملء الذي وعدته به؟

ثم قدمنا ملخصًا عن نظرتين لتحقيق الوجود البشري، نموذج الدعوة، التي تشكل نواة النظرة المسيحية: الإنسان يكون ويتقدم ويحقق ذاته بدعوة من الله. ومن ناحية أخرى، نموذج البناء، وهي نظرة الحداثة التي تعتبر أن الإنسان مشروع لا يحققه إلا الإنسان المتحرر والمستقل.

من ثم انتقلنا إلى استعراض بعض مبادئ نموذج البناء في الحداثة بشكل أكثر تفصيلاً فنظرنا إلى مفهوم الحداثة كمفهوم استقلالية ومفهوم فردانية.

في مرحلة لاحقة نظرنا ببساطة إلى ثمار هذه الحداثة، فرأينا كيف أن ما بعد الحداثة تشكل حكمًا سلبيًا على الحداثة، وتبين فشلها، لا انطلاقًا من قراءة إيديولوجية بل انطلاقًا من التمحيص الموضوعي للثمار التاريخية الملموسة. فما بعد الحداثة هي شاهد لتهافت أوهام الحداثة، التي بمحاولتها أن تنفي الله لتعظم الإنسان، ما قامت بالحقيقة إلا بنفي الإنسان. وهذا النفي تم بشكلين مختلفين ومتكاملين. نفي الإنسان باسم الفرد المتفوق الخيالي (نيتشه)، ونفي الفرد باسم الجماعة الوهمية والإيديولوجية (ماركس). وبالتالي ظهر وجه الحداثة المتناقض كأنسية لا إنسانية.

وأخيرًا قدمنا قراءة مسيحية لهذا التحليل فرأينا كيف أن الإنسان يسكنه التوق إلى الحب ولكن في الوقت عينه، لا يملك القدرات الكافية ليعيش على قدر توقه، ولذا فهو بحاجة لا خيارية بل ضرورية إلى "نبع المحبة" لكي يحقق دعوته إلى الحب والتقدم.

بكلمة، الإنسان ليس معطى وضعي بل مشروع قيد الصيرورة والتحقيق، والصيرورة الإنسانية هي مشروع إلهي وحده الله يستطيع أن يجسده.