ندوة بعنوان: الدعوات الكهنوتيّة والحياة المكرّسة

 في ضوء رسالة قداسة البابا بندكتس السادس عشر لليوم العالمي السابع والأربعين  الأربعين للصلاة من أجل الدعوات

 

 

جل الديب، الثلاثاء 04 مايو 2010 (Zenit.org) – عقدت ظهر اليوم ندوة صحفية في المركز الكاثوليكي للإعلام بدعوة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام بعنوان : " الدعوات الكهنوتيّة والحياة المكرّسة، في ضوء رسالة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لليوم العالمي السابع والأربعين للصلاة من أجل الدعوات"، برئاسة رئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، المطران بشارة الراعي، شارك فيها: رئيس الاكليريكية البطريركية – غزير، المونسنيور مارون عمّار، والمسؤول عن الاخوة الدارسين في الرهبانية الانطونية المارونية، الأب ميشال خوري، والمسؤولة عن التنشئة في جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات الأخت ماري انطوانيت سعاده، ومدير المركز الكاثوليكي للإعلام، الأب عبده أبو كسم، وحضرها أمين سرّ اللجنة، الأب يوسف مونس، والمسؤول عن الفرع السمعي البصري في المركز، الأب سامي بو شلهوب، ورئيس فضائية "نور سات" الأستاذ ريمون ناضر، والسفير السابق فؤاد عون، وعدد كبير من راهبات العائلة المقدسة المارونيات ومهتمون  وممثلو وسائل الإعلام .  قدّم الندوة وأدارها المحامي وليد غياض.

 

المحامي وليد غياض قال:

                            

        " أودّ أن احضّ جميع الذين دعاهم الرب للعمل في كرمه الى تجديد جوابهم الأمين، وخصوصاً في هذه السنة الكهنوتية… لأن شهادتهم تولّد في الآخرين الرغبة في الاجابة، بدورهم، بسخاء على نداء المسيح".

بكلمات قداسة البابا بندكتوس السادس عشر بمناسبة يوم الصلاة من أجل الدعوات لهذا العام، نفتتح هذه الندوة من المركز الكاثوليكي للاعلام، واحيي كل الحضور والاعلاميين والاعلاميات، ومشاهدينا عبر شاشتي تيليلوميار ونورسات الفضائية في برنامج "قضايا".

ولأن "الشهادة تولد الدعوات"، يذكّر قداسته بأن الدعوة الكهنوتية والحياة المكرّسة تقوم على عناصر ثلاثة: – الصداقة مع الرب – هبة الذات الكاملة لله –  وعيش الشراكة.

نعم، ان نفوس الكثير من الشباب تشتعل بالرغبة في اتّباع المسيح بشكل كامل وسخي حين يرون في الكهنة والرهبان والراهبات، يسوع، الامين، الطاهر، الفقير والمطيع، وخاصة اذا كانوا يعكسون وجهه البهي بفرح وخدمة وعطاء مجّاني. فمن اجلهم نصلي ونقول: اعطنا يا رب كهنة ورهبناً وراهبات، قديسون وقدّيسات.

يسعدنا ان نستمع في ندوتنا اليوم الى حضرة المونسنيور مارون عمّار، رئيس الاكليريكية البطريركية – غزير، والى حضرة الاب ميشال خوري المسؤول عن الاخوة الدارسين في الرهبانية الانطونية المارونية، والى حضرة الاخت ماري – انطوانيت سعادة المسؤولة عن التنشئة في جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات.

المطران بشارة الراعي رفع الصلاة من أجل الدعوات الكهنوتية وقال:

يسعدنا أن نحي معاً بهذه الندوة الصحفية اسبوع الصلاة من اجل الدعوات،  فرسالة البابا بنديكتس السادس عشر لهذه المناسبة  مركزة على الشهادة الشخصية التي يقدمها  الأساقفة والكهنة وسائر المكرّسين لإجتذاب الدعوات. نصلي من أجل الذين لبوا الدعوة في الحياة الكنوتيّة والرهبانيّة لكي يظلوا أمناء في إداء الشهادة الشخصية. كما نصلي من أجل الذين في الإكليريكيات ومراكز التنشئة في الأديار لكي يميزوا دعوتهم ويهيئوا  جوابهم الشخصي القائم على شهادة الحياة.

و نصلي أيضاً من أجل أن يختار الرب شباناً وشابات من عائلاتنا  ليكونوا في خدمة الكهنوت وفي اتباعه في الحياة المكرّسة.

 

ثم تحدث المونسنيور عمار عن: طالب الكهنوت وعلاقته بالرعية وبكاهنها فقال:

1 – من هو طالب الكهنوت؟

 هو رجل يعرف ميزاته ونقاط المقدرة والضعف في شخصيته ومن خلال هذه الشخصية المعروفة جيداً يريد أن يخدم الرّب من خلال سرّ الكهنوت.

– هو الذي يعمل بجدّ ونشاط لكي يعرف ما هي متطلبات الدعوة الكهنوتية ويحاول "بثقة كاملة بالكنيسة" أن يسمع لتوجيهاتها ويلائم بين قرراته ومتطلبات الدعوة.

– هو الذي يعمل جاهداً لكي يغني معرفته بالله عبر سماع الكلمة والصلاة لأن الله هو الراعي.

– هو الذي يحاول دائماً أن يلبي إرادة الكنيسة الرسولية في الخدمة للكلمة وللشعب المؤمن.

2 – ما هي الرعية وعلاقة طالب الكهنوت فيها؟

– الرعية مكان صلاة مع الآخرين بمختلف فئاتهم.

– الرعية مكان حبّ تنمو فيه محبّة الله.

– الرعية مكان رسالة وعمل نجسّد فيه محبتنا لله ومحبتنا لبعضنا البعض.

طالب الكهنوت هو ابن هذا المكان الرعية: فيه يزرع وفيه ينمو وفيه يعمل.

3 – العلاقة مع كاهن الرعية؟

– كاهن الرعية هو الشاهد أمام طالب الكهنوت عبر:

– علاقته مع الرّب: صداقة مميزة.

– هبة ذاته الكاملة للرّب: التكرّس للرّب.

– عيش شركة الحبّ مع الله والبشر.

طالب الكهنوت يتعظ من كاهن الرعية الشاهد في رعيته لهذه الحقائق الإيمانيّة والرسوليّة ويأخذه الأب الروحي المرافق على طريق الكهنوت. يستفيد من خبرته ويحترم وجوده ويتعظ من صعوبات رسالته ويبقى دائماً  رأس الرعية والطالب العفو المنسق معه بامتياز.

 ثم تحدثت الأخت ماري أنطوانيت سعاده عن: الراهبة التي تحتاج إليها الكنيسة اليوم فقالت:

إنّ راهبة اليوم هي إبنة هذا العالم، إبنة عصرها، آتية من محيطها الإجتماعي والثقافيّ المحلّي «المعولم» ، لأنّ العالم أصبح ، من جرّاء العولمة، قريةً دون حدود. وفي لبنان، للعولمة تأثيرُها الدّامغ، يطبع المجتمع في كلّ مكوّناته وموارده البشريّة والاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة…

هذا المجتمع الذي ابتلعته العولمة الفوضويّة، والذي يستهلك بشراهةٍ القيم الّلاإنجيليّة ويتاجر بها، (التسلّط والقنية والمتعة واللّذة…) نراه مع ذلك يتطلّب الكثير من الكنيسة، خاصّةً من المكرّسين والمكرّسات، بعكس ما يعيشُ ويفكّر به، ويحثّهم على أن يشهدوا للرجاء الذي فيهم (1بط 3: 15).

في هذا الإطار، لا تستطيع الرهبانيّات إلاّ أن تجهد لتحافظ بكلّ أمانة وتيقّظ على جوهر هويّتها وعلى الإلهام الأول لتأسيسها، وتتصرّف بحذاقة، لتكون في العالم وللعالم دون أن تكون منه، تجهد لتُحسن التمييز في استنباط الفرص الملائمة التي تقدّمها العولمة لتضعَها في خدمة الإنجيل دون أن تضّيع هويتها.  

 

راهبة اليوم، إبنة الكنيسة، في العالم وللعالم وليست من العالم

راهبة  اليوم هي إبنة الكنيسة. هي في هذا العالم وله وليست منه. هي مدعوّة لتبذل حياتها وقواها بدعوة من الكنيسة في سبيل رسالتها، «كي يؤمن العالم وتكون له الحياة » (يو 10: 10 و17: 10).

إنّ  الحياة المكرّسة هي حتمًا عملٌ إلهيّ وبشريّ معاً. عملٌ إلهيّ كونها عطيّة مجّانيّة من الآب لاتّباع المسيح عن كثب، بقوّة الروح القدس، وهي أيضاً عملٌ بشريّ بامتياز يتطلّب من الراهبة أن تجنّد كلّ طاقاتها لتضعها بحرّية وفرح في خدمة الجميع. إنّ الدعوة إلى الحياة الرهبانيّة تشمل الكيان البشريّ في جوهره وغايته.

إنّ النفس المكرّسة التي تعترف بها الكنيسة وتثبّتها، هي من جملة القوى الحيّة التي تعتمد عليها الكنيسة لإداء رسالتها. هي في قلب الكنيسة، تتبنّى مشاريعَها، تحمل همومَها وتشاركها في جهادها.

رسالتها هذه تتطلّب منها التدرّع بالاتّزان البشريّ والنفسيّ، بالحكم الصائب، بالإرادة الثابتة، بالمقدرة على التواصل والحوار والمشاركة، بالمقدرة على الالتزام وتحمّل المسؤوليّة. رسالتها هذه تتطلّب منها التحلّي بروح الصلاة والمحبّة المطلقة للمسيح ولإنجيله، إذ إنّ  للحياة المكرّسة اليوم  متطلّبات عدّة، على الصعيد الإنسانيّ، النفسيّ، العاطفيّ، العلاقاتيّ، والرّوحيّ لا سيّما توطيد الحياة الباطنيّة التي تبقى الضمان الأكيد لرسالتها الإنجيليّة في عالمٍ متطلّبٍ فكريًا وعلميًّا ومهنيًّا ورسوليًّا.

دعوة واحدة من أجل رسالةٍ واحدة

ما هي الرسالة التي تطلبها الكنيسة من راهبة اليوم ؟

طالما كانت دعوة الحياة الرهبانيّة في الكنيسة ولا تزال، مرتكزة على إتباع المسيح وخدمة العالم، فالراهبة مدعوّة كلّ يوم لاتّباع المسيح، المسيح إبن للآب وأخٍ للإنسان، فتعيش على مثاله هذه البنوّة وهذه الأخوّة التي تطبع هويّتها ودعوتها ورسالتها، يومًا بعد يوم، وطيلة حياتها.

وليس عبثًا أنْ تدعى الراهبة « أخت » ، وليس ذلك بمثابة لقب فقط، بل يعبّر عن جوهر هويّتها ودعوتها ورسالتها. هي « أخت » التي تحبّ (أو أقلّه عليها أن تحبّ)،  « أخت » التي تصلّي، التي تخدم، التي تسند وتسهر وتعزّي وترحم وتغفر، الأخت التي تغسل الأرجل،  التي تعتبر البشريّة كلّها عائلتَها، التي تناضل من أجل المساواة والكرامة وإنماء الإنسان. الراهبة هي السامريّة التي بعد أن اكتشفت نبع الماء الحيّ أسرعت لتخبر عنه، هي أخت للسامريّ الصالح فتتبنّى رحمته وتعمل ما صنع، هي معًا أخت لمرتا ولمريم، أخت لبطرس وليوحنّا. هي شاهدة لجمال البنوّة للآب والأخوّة للمسيح وللبشريّة. هكذا تساهم في بناء الملكوت على الأرض.

إذن، مهما كان دورُها وعملها ومكانتها والمؤسّسة التي تعمل فيها أو تنتمي إليها، مهما كان العصر الذي تعيش فيه، هي قبل كلّ شيء « أخت ». وإذا عدلت عن هذا الكيان، فقدت معنى دعوتها ومعنى رسالتها.

لذلك، فالراهبة مدعوّة لتجيب باستمرار على دعوة الله لها، بتجدّدها وتقويم مسار حياتها نحو هذه الحقيقة وهذا الواقع. كي تحقّق ذلك، عليها أن تتسجّل في مدرسة الإنجيل وتتتلمذ للمسيح، المعلّم الوحيد، بدوامٍ كامل وكلّ حياتها.

راهبة اليوم، في مدرسة الإنجيل

مدرسة الإنجيل التي معلّمها المسيح  تُنشّئ تلاميذَ ورسل. إنّ هدف تربويّة الإنجيل هو توطيد ملكوت الله على الأرض وفي القلوب. هو ملكوت الأخوّة، حيث يسود السلام والعدالة وفرح الروح، حيث « يسكن الذئب مع الحمل، و يَبيتُ النِّمرُ بجانبِ الجدْي. ويرعى العِجلُ والشِّبلُ معًا، وصبيٌّ صغير يسوقُهما. وتصاحبُ البقرة الدُّبَّ ويَبيتُ أولادُهما معًا. ويأكلُ الأسدُ التِّبنَ كالثّور. يلعب الرّضيعُ على وكر الأفعى، ويضعُ يدَه في مكمنِ الثُّعبان » (أشعيا 11: 6-10).

إنّها تعاليم الإنجيل حيث للفقير والصغير والغريب والجريح … وكلّ إنسان قيمته ومكانته، فلا يعود هناك جائع ولا بائس ولا ضحيّة أو جلاّد؛ إنّما يسود الإحترام والحقّ والعدل والرحمة؛ حيث « لا يُسيءُ أحدٌ ولا يُفسد أينما كان في الجبل المقدّس لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ كما تملأُ المياهُ البحر » (أشعيا 11/9)، فيصبح الله الملك الوحيد ، أبًا للجميع.

إنَّنا نرى في مَثل السامري الصالح الطريق المرسومة لكلٍّ منّا لنسير عليها ويحظى جميع الناس بكرامة أبناء الله.

في مدرسة الإنجيل تتعلّم الراهبة، كما يقول القديس غريغوريوس الكبير: « قلب الله  في كلمة الله ». في مدرسة الإنجيل حيث المعلّم هو المسيح، تتعلّم كلمة الحياة. هذه الكلمة تدعى « الإسم الذي يعلو كلّ اسم» (فل 2/9). هذه الكلمة تتشبّع منها فتمضغها وتتذوّق طعمها العسليّ اللّذيذ. هذه الكلمة تغذّي روحها وتقوّيها، تنير طريقها وتملأها فرحًا كالأيّل على مجاري المياه (مز 42).

في مدرسة الإنجيل تتعلّم الراهبة أن تتبع المسيح خطوة خطوة. تتعلّم التماهي معه، تتعلّم كيف تحبّه في نمط الحياة الذي عاشها ملتزمة وراءه بالعفّة والفقر والطاعة. تتعلّم أن تحبّه في تواضعه وفي وداعته، في كونه المعلّم والخادم معًا، في صمته كما في كلامه، في قوّته كما في ضعفه. تتعلّم منه في تأمّلها، رحمتَه تجاه الصغير والفقير والغريب والجريح. تتعلّم كيف تشكره في عطائه الكامل المقدَّم بحبٍّ مجّانيّ  وحرّ على مذبح البشريّة.

راهبة اليوم، في مدرسة الحياة الباطنيّة

إنّ مدرسة الحياة الباطنيّة هي مدرسة التجذّر العميق في الذات، في الله وفي الواقع، تدخلها الراهبة لتؤصّل جذورها فتنمو وتُزهر وتُثمر في وقتها. إنّه زمن العزلة والتعمّق وتوسيع المساحة الباطنيّة. إنّ اكتشاف كلمة الله، الشغف بها والإصغاء إليها، تأمّلَها وصلاتَها، من شأنها أن تقوّي عند الراهبة ما يسمّيه بولس « الإنسان الباطن » (أف 3: 16). هذه التربية تأخذ مسارها بالتمهّل والصمت والصبر والانتظار والتواضع والعودة إلى الذات وإلى إلهامات الروح.

في هذه المساحة الباطنيّة، تتمّ عمليّة التنشئة بالفهم والمضغ والاستيعاب. إنّها مدرسة الباطن حيث تكمن الرغبات التي تستيقظ عندئذٍ فتنكشف وتتطهّر في منشئها وغايتها، لأنّ « النفس – عكس الجسد – تتغذّى من جوعها» كما يقولْ Gustave Thibon:

L\’âme à l\’encontre du corps, se nourrit de sa faim »  «

كما ويقول  Lévinas : « الرغبة الحقيقيّة هي الرغبة التي لا تَروي ، بل التي تحفر في العمق ».

في العمق يسكن العليّ. فالله وضع في قلب الإنسان بذار الأبديّة، يقول سفر الجامعة. فما على الراهبة إلاّ أن تعمّق في الحفر وتُفرّغ بئرها لأنّ الله يضع خيراته في القلوب الفارغة، كما يقول يوحنا الصليبي.

تحفر لتبني على الصخر، على المسيح. عليه وحده تقوم الأساسات الثابتة، المتينة، التي لا تتزعزع، لأنّه وحده هو الدائم. وحده هو علّة وجود النفس المكرّسة. وحده هوالسراج الذي يقود خطاها والنور الذي يضيء حياتَها. وحده هو الطريق الذي اختارته والحقيقة التي تنشدها والحياة التي تسري في عروقها. هو وحده خبزُها المُقيت، وحده فرحُها وشمسُها وضياؤها. هو معها وهذا يكفيها كما تقول القديسة تريزيا الأفيليّة.

الراهبة التي تبني بناءها على الله يعني أنّ بناءها سيدوم،  لأنّه إنْ لم يبنِ الربّ البيت فعبثًا يتعب البنّاؤون (مز 127). إنَّ الراهبة تختبر كلّ يوم أنَّ حبّ الله وحده هو الدائم، الذي لا يخيّب. وإنْ تخلّى عنها الجميع، الأصدقاء، الصحّة، العالم، وحده الله يبقى لها وللأبد…

على هذه الأسس الصخريّة المتينة، تستطيع الراهبة أن ترى، يومًا بعد يوم، بناءها يعلو ليصبح هيكلاً لله، هيكلاً للروح القدس، هيكلاً تتصاعد منه التسابيح لمجد الآب والإبن يسوع والروح القدّوس ولخلاص إخوتها البشر.

 

تحدّي المؤسّسات الرهبانيّة اليوم

في مجتمعنا الشرق أوسطيّ وخاصةً في لبنان، على الرهبانيات اليوم التي تشهد تضاؤلاً في الدعوات، نظرًا لماضيها القريب، ألاّ تجزع، بل عليها أن تُحسن الاختيار والتأكّد « من سلامة النوايا » عند الراغبات في الرهبنة، كما تطلب الوثيقة الكنسيّة الأخيرة « إنطلاقة جديدة من المسيح ».  إنَّها مسؤوليّة ثقيلة تقع على عاتق الرهبنات.

ولأنّ « مستقبل الحياة المكرّسة متوقّف على القدرة الديناميكيّة التي على الجمعيّات الرّهبانيّة أن تصرفها في تنشئة أعضائها »[1]، فالسؤال الملحّ الذي يُطرح بكلّ جدّيّة هو التالي : كيف تُنشّئ الجمعيّات الرهبانيّة الدّعوات الجديدة التي ترغب في تكريس حياتها ليسوع المسيح الذي هو هو « أمس واليوم وإلى الأبد » (عب 13/8) ؟

على أيّ أُسُس متينة تربّيها كي تستطيع أن تركّز حياتها وتلتزم وتعيش بملء حرّيتها وبمحبّةٍ مجّانيّة  تطلّبات الإنجيل؟ كيف تسندها وتقوّيها كي تصمد في مواجهة تحدّيات العالم الذي يهاجمها باستمرار؟ كيف تقدّم لها الوسائل المنيرة التي تجنّبها الضياع وتساعدها على اختيار الطريق الصحيح الذي يوصلها إلى الهدف؟ كيف تدرّبها على تنمية قدراتها لتضعها في خدمة الملكوت؟ كيف تساعدها لتحافظ على الفرح في جهادها المستمرّ في خدمة المسيح؟

كلّ هذه الأسئلة الوجوديّة تطرحُها المؤسّسات الرهبانيّة على نفسها، إن من خلال التنشئة الأوّليّة أو التنشئة المستمرّة. هذا هو تحدّيها الكبير.

وخلاصة القول، إنّ الحياة الرهبانيّة في لبنان هي اليوم برأيي في حالة تفتيش لتستعيد نفثَها النبويّ الذي طالما أنعشها والذي هي بحاجة إليه لكي تلبّي نداء العالم الذي يحثّها على الشهادة للرجاء الذي تحملُه.

كما وأنّه يجب ألاّ ننسى كلام البابا بندكتوس السادس عشر : « إنّ الصلاة هي الشهادة الأولى بين الشهادات التي توقظ الدعوات ». لذلك، فالكنيسة أجمع مدعوّة  للصلاة إلى الله كي يُرسل دعوات جديدة، يكنّ أخوات حقيقيّات. إنّها مسؤوليّتنا جميعًا.

فلنصلّ إذن للربّ كي يُرسل فعلة إلى كرمه.

 

ثم كانت كلمة للأب ميشال خوري عن : الشهادة الرهبانية في عالم اليوم:

 

في عصرٍ اختلطت فيه التيارات الفكرية والثقافية، وسيطرت عليه التكنولوجيا والبراغماتية، وأصبح فيه العرض أهم من الجوهر، والاهتمام بالظاهر أهم من الداخل، والحاجات الماديّة تصدّرت لائحة الأولويات في الحياة اليوميّة والاجتماعية.

في عصرٍ انحسرت فيه آفاق المستقبل، ولفّها الضباب، وانطوت أجيال الماضي وطمرها التراب، وأصبح الحاضر فيه الآمر والناهي بمعاييره الآنية والظرفيّة.

في عصرٍ كثرت فيه الأجوبة على أسئلة و مسائل لم تُطرح، وكثرت فيه أسئلة بقيت خاوية خائبة من دون جواب.

في عصرٍ تقدّم فيه المخلوق على الخالق، والعلم على العالم، والاختراع على المخترع، والشواذ على القاعدة، والمؤقّت على الأزلي.

في عصر عُلّبت فيه حرية الإنسان، وإرادته، وقراراته، ووضعت في موادّ حافظة، موسومة بتاريخ انتهاء.

في عصر استُخدمت فيه الأديان وأبعادها الماورائيّة لمصلحة السياسات، والغايات الماديّة والسلطوية.

هذا الواقع الذي نعيش فيه اليوم، يبدو، ومن دون شكّ، قلقًا وحائرًا، يدور على ذاته. إنّه عصر ال (carpe diem) (عيش اللحظة)، والاستفادة مما قد تقدّمه. وبذلك تحوّلت الحياة اليوميّة، إلى مسرحٍ تُعرض فيه "اللحظات" ويتحول فيها الإنسان إلى صياد ماهر، يقتنص منها ما يتوافق مع نزواته ورغباته الآنيّة، ولو كان هذا على حساب مبادئ وقيم كان قد أكّد على التزامه بها.

إنّ كل ما ينتج عن هذه العوامل التي يتميّز بها عصرنا، من بعدٍ عن الله وكلمته، وإلحادٍ بأنواعه، وانغماسٍ في المادّة، كل هذا يشكّل ما تسميه الكنيسة: "تحديات العصر". وعليها أمام هذا الوضع السائد، المؤثر سلبًا على شهادة من كرّسوا أنفسهم للمسيح، أن تقاومه مبينّةً صفاته الإجابية والسلبية. محذّرة المؤمن والمكرّس من مغبّة الاتخاذ بمظاهره البرّاقة، والتي تتضمّن في داخلها "الذئب الخاطف".

إن الحياة الرهبانية، بكونها علامة في قلب العالم، عليها أن تحافظ على مكانتها من خلال الحفاظ على نمط عيشها اليومي، الذي يعكس نمط وعيش المسيح. من هذا المنطلق، يؤكّد الإرشاد الرسولي في الحياة المكرّسة (عد 85)، على أنّ "عالمنا اليوم، الذي أوشكت أن تندثر فيه معالم الله، يشعر بالحاجة إلى شهادة نبويّة قويّة يؤدّيها الأشخاص المكرسون. هذه الشهادة تتوخّى أولاً تأكيد أولويّة الله والخيرات الآتية، كما تتجلّى في اتباع المسيح".

إنطلاقًا من هذا كلّه، لا بدّ لنا من أن نطرح السؤال التالي: ما هو وضع الشهادة التي تؤدّيها الحياة الرهبانيّة اليوم؟ وكيف تلعب دورها النبوي في مجتمعنا المعاصر؟

إنّ الحياة الرهبانيّة موجودة بشكل كبير في مجتمعنا اللبناني، إن من خلال أديرتها، أو مؤسّساتها المنتشرة في كلّ أرجاء لبنان، وهي تلعب دورًا هامًّا على الصعيد الكنسي العام، والروحي، والاجتماعي. ولكن على الرغم من هذا الدور الهام الذي تؤدّيه فإنّها تتعرّض للكثير من التحديات الداخلية والخارجية، التي تهدّد بشكل مباشر وغير مباشر فعالية شهادتها للمسيح.

من أهم التحديات الداخلية تبقى عملية التجدد، فليس من الممكن أن توضع الخمرة الجديدة في أجرانٍ قديمة، أو يُرقّع ثوبٌ بالٍ برقعةٍ جديدة… لهذا فعلى الحياة الرهبانية أن تُجدِّد بطريقة مستمرة ومتواصلة أجرانها وأثوابها، لكي يصبح في إمكانها تلقي مواهب الروح الجديدة وعيشها ونقلها إلى الآخرين. هذه العملية دقيقة وحسّاسة، لأنّها في الوقت نفسه تتطلب من الحياة الرهبانية أن تتأقلم مع عصرها، من دون المساومة على مبادئها وأسسها الإنجيليّة والروحيّة.

هذا على صعيد العائلة الرهبانية بشكل عام، أمّا على الصعيد الشخصي، فإن رهبان اليوم هم أولاد هذا العصر، يأتون منه ويدخلون إلى الحياة الرهانية من خلال مبادرة مجّانية يقوم بها الله ويدعوهم لاتباعه. لذلك وقبل تحدّي العالم الخارجي والمجتمع، يجب تحدّي ذواتنا. إنّ إدخال نور كلمة المسيح إلى عالمنا الداخلي المظلم أحيانًا والمملوء من مفاهيمنا وقناعاتنا البشرية، والمحمي من أنظمة دفاع ليس بالسهل تفكيكها يبقى "التحدي الكبير".

فبقدر ما أتقبّل هذه الكلمة الإلهية وأتفاعل معها بقدر ما تتمّ الولادة الجديدة "الولادة من علو..". عنئذٍ يصبح المكرّس أكثر شفافيّة، يعكس من خلال حياته اليوميّة نور السيح ويكون "كالمصباح على المنارة" وتكون شهادته متينة وقوية، وإن عصفت بها الصعاب. ذلك لأنّها مبنية على قناعة وعلى مسيرة يختبر فيها يوماً بعد يوم عمل الرب في حياته. هذا النوع من الشهادة القائمة على الخبرة الروحية هو الذي يتمتّع بالجاذبيّة التي تولّد "الدعوات"، كما يؤكّد البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته بمناسبة اليوم العالمي السابع والأربعين للدعوات.

إنّ هذا التفاعلَ اليومي مع كلمة الله يحوّل الأديار إلى مختبراتٍ روحيّة ويجعل منها مكانًا يقصده كل من يريد التقرّب من الله وعيش الإنجيل، ويجعل من الرهبان آباءً روحيين، وهي الخدمة التي تميّزت بها الحياة الرهبانية منذ نشأتها.

أمّا التحدّي الخارجي هو عندما تقوم العائلات الرهبانية برسالتها من خلال مؤسساتها المتنوعة. فالشهادة عبر هذه المؤسسات لها دورها أيضًا ولكنها في كثير من الأوقات تتعرّض للتشويش والنقد؛ نظراً إلى أنّ كلّ مؤسسة تقوم على قوانين يجب الحفاظ عليها إن كان من الناحية التنظيميّة أو الاجتماعية. ومن هنا تجد المؤسسات الرهبانية نفسها امام تحدٍّ جديد يهدّد رسالتها وشهادتها. وعليها، في الوقت نفسه، الحفاظ على المؤسسة وقوانينها من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، على شهادتها التي تحسّس من خلالها الفقير والمعوز، أنّها إلى جانبه وأنّها ليست لفئة من الناس دون الأخرى.

وفي الختام لا يسعنا إلا أن نؤكّد ما أعلن عنه قداسة البابا في رسالته ليوم الدعوات "أنّ الذين يعيشون الأمانة لدعوتهم ينقلون فرح خدمة المسيح ويدعون كلّ المسيحيين إلى التجاوب مع الدعوة الشاملة للقداسة. لذا وليكي يتمّ تعزيز الدعوات الخاصة إلى الخدمة الكهنوتية، والحياة المكرسة، ولكي يضحي إعلان الدعوات أقوى وأكثر تأثيراً لا بد من تقديم مثال الذين قالوا "نعم" لله ولمشروع الحياة الذي يريده تعالى لكّل إنسان".

 

ثم كلمة الختام مع الخوري عبده أبو كسم فقال:

يبقى الحديث عن الدعوات الكهنوتية والرهبانية، حديثاً بعيداً عن ملامسة الواقع إلاّ لأصحاب هذه الدعوات فهم أنفسهم لا يعرفون كيف دعاهم الله، إنما يعرفون واحدة وهي أنهم مكرّسون لعمل الخدمة الرسولية بكل أبعادها الروحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة على مثال الرسل الأولين، الذين اجتذبهم المعلم لخدمة البشرية.  وعلى هدى نور الإنجيل يتابع اليوم الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات الرسالة التي أوكلت إليهم رغم الصعوبات والمشقات والمغريات العالمية والزمنية التي يتعرضون لها. وهذا هو التحدي الكبير، أن يكونوا من العالم، ويسيروا مع العالم وعكسه عندما تقتضي الرسالة ذلك.

وفي زمن العولمة حيث أصبح كل العالم قرية كونية صغيرة وكثرت المغريات والتحديات والغنى والمال والسلطة والجنس والحروب والعصابات والعنف وتجارة البشر، يبقى التحدي الكبير أن نعيش دعوتنا بصدق وإخلاص وأمانة للمعلم وأن نكون شهوداً بالمثل الصالح والتضحية والتجرّد أمام إخوتنا الذين نقوم بخدمتهم. ولنا في الخوري آرس ومار فرنسيس، ومار شربل ومار نعمة الله وأبونا يعقوب الكبوشي والكثير من القديسين خير مثال.

ولا يسعنا في هذه السنة الكهنوتية إلاّ أن نطلب من الله أن يضع نعمته في قلوب جميع المكرّسين لكي يعيشوا دعوتهم بأمانة ويكونوا شهوداً بالقول والفعل أمام الله وأمم الناس.