تـأمل بندكتس السادس عشر أمام كفن تورينو

تورينو، الاثنين 3 مايو 2010 (Zenit.org).

ننشر في تأمل قداسة البابا بندكتس السادس عشر في ساحة سان كارلو في تورينو لدى تكريمه الكفن، في معرض زيارته الرسولية إلى تورينو في 2 مايو 2010.

* * *

أيها الأصدقاء الأعزاء،

هذه هي اللحظة التي انتظرتها بشوق. في مناسبات عديدة وجدتُني أمام الكفن المقدس، ولكن هذه المرة أعيش هذا الحج وهذه الوقفة بعمق فريد: ربما لأن مرور السنين يُرهف شعوري أكثر نحو هذه الأيقونة المميزة؛ وربما، وأقول بشكل خاص، لأني هنا كخليفة بطرس، وأحمل في قلبي كل الكنيسة، لا بل البشرية بأسرها. أشكر الله لعطية هذا الحج، وأيضًا لأجل إمكانية أن أشارككم بهذا التأمل القصير، الذي أوحاه لي عنوان هذا العرض للتكريم: "سر السبت العظيم".

يمكننا أن نقول أن الكفن هو أيقونة هذا السر، أيقونة السبت العظيم. بالواقع، الكفن هو نسيج قماشي للدفن غطى جسد رجلٍ صُلب بشكل يطابق بالكلية ما تقوله الأناجيل بشأن يسوع، الذي صُلب نحو ساعة الظهر، ولفظ أنفاسه الأخيرة نحو الثالثة من بعد الظهر. وعند المساء، لأن ذلك اليوم كان يوم الباراشيف، أي عشية سبت الفصح الاحتفالي، طلب يوسف الرامي – وهو رجل غني ومقتدر في مجمع اليهود – طلب بشجاعة إلى بيلاطس البنطي أن يسمح له بأن يدفن يسوع في قبره الجديد، الذي كان قد حفره في الصخر بالقرب من الجلجلة. وبعد أن نال الإذن، اشترى كفنًا، وبعد أن أُنزل جسد يسوع عن الصليب، غطاه بالكفن ووضعه في ذلك القبر (راجع مر 15، 42 – 46). هذا ما ينقله إنجيل القديس مرقس، ويوافقه الإنجيليون الآخرون. منذ ذلك الحين، بقي يسوع في القبر حتى فجر اليوم الذي يلي السبت، وكفن تورينو يقدم لنا صورة عما كان عليه جسده المتمدد في القبر خلال ذلك الزمن، الذي كان قصيرًا زمنيًا (نحو يوم ونصف)، ولكنه كان حدثًا ضخمًا، لامتناهيًا في قيمته ومعناه.

السبت المقدس هو يوم تَسَتُّر الله، كما نقرأ في عظة قديمة: "ماذا حدث؟ هناك صمت كبير في الأرض اليوم، صمت عظيم ووحشة. صمت كبير لأن الملك نائم… الله مات في الجسد ونزل لكي يهز ملكوت الجحيم" (عظة في السبت المقدس، الآباء اليونان 43، 439).

في قانون الإيمان، نعترف بأن يسوع المسيح "صلب في عهد بيلاطس البنطي، مات ودفن، ونزل إلى الجحيم، وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات".

أيها الإخوة والأخوات، في زمننا الحاضر، خصوصًا بعد أن عبرنا القرن الماضي، أضحت البشرية حساسة بشكل خاص لسر السبت العظيم. فتستر الله يشكل جزءًا من روحانية الإنسان المعاصر، وبشكل وجودي، لاواعٍ تقريبًا، بات مثل فراغ في القلب يتسع رويدًا رويدًا.

في نهاية القرن التاسع عشر، كتب نيتشه: "لقد مات الله! لقد قتلناه نحن!". هذا التعبير الشهير، إذا ما نظرنا إليه بإمعان، هو مأخوذ حرفيًا من التقليد المسيحي، ونحن نردده غالبًا في درب الصليب، ربما دون أن ندرك بالكامل معنى ما نقوله: بعد الحربين العالميتين، بعد السجون النازية والشيوعية، بعد هيروشيما وناكازاكي، باتت حقبتنا أكثر فأكثر سبتًا عظيمًا: ظلام هذا اليوم يحث جميع الذين يتساءلون حول الحياة، وبشكل خاص يحثنا نحن المؤمنين. فنحن أيضًا نتعامل مع هذا الظلام.

ومع ذلك، فموت ابن الله، موت يسوع الناصري له بُعد معاكس، إيجابي بالكلية، منهل تعزية ورجاء. وهذا الأمر يجعلني أفكّر بأن الكفن المقدس هو مثل وثيقة "مصورة"، لها وجهها "الإيجابي" و "السلبي". والواقع هو أن سر الإيمان الخفي هو في الوقت نفسه العلامة الأكثر إشراقًا لرجاء بلا حدود. السبت المقدس هو "أرض محايدة" بين الموت والقيامة، ولكن في هذه "الأرض المحايدة" دخل واحدٌ، الوحيد، عبرها بعلامات آلامه لأجل الإنسان: "آلام المسيح. آلام الإنسان" (Passio Christi. Passio hominis). والكفن يخاطبنا في تلك اللحظة بالذات، ويشهد بالتحديد لهذا الأمر الفاصل الفريد والذي لا يتكرر في تاريخ البشرية والكون، الذي فيه اشترك الله في يسوع المسيح، ليس فقط بموتنا، بل أيضًا ببقائنا في أحضان الموت. هذا هو التعاضد الأكثر جذرية.

في ذلك "الزمان ما بعد الزمان" نزل يسوع المسيح إلى الجحيم. ما معنى هذا التعبير؟  يعني أن الله، الصائر بشرًا، وصل إلى نقطة الدخول في وحشة الإنسان القصوى والمطلقة، حيث لا يصل أي إشعاع حب، وحيث يسود التخلي التام دون أية كلمة تعزية: الجحيم.

في بقائه في حضن الموت، تخطى يسوع المسيح باب هذه الوحشة الأخيرة لكي يقودنا نحن أيضًا لتخطيها معه. كل منا شعر مرة على الأقل بإحساس التخلي المخيف، وإن أكثر ما يخيفنا في الموت هو هذا، تمامًا كما نخاف كأطفال أن نبقى لوحدنا في أماكن مظلمة، حيث يكفي حضور شخص يحبنا لكي نطمئن. وهذا ما حدث في السبت العظيم: لقد تردد صوت الله في أرجاء مملكة الموت. وتم ما لا يمكن لفكر أن يحويه: أي أن الحب قد ولج إلى الجحيم: حتى في ظلام العزلة البشرية المطلقة نستطيع أن نسمع صوتًا يدعونا لكي نجد يدًا تحملنا وتنقذنا. يعيش الإنسان لأنه محبوب ويستطيع أن يحب؛ وإذا ما دخل الحب في تعرجات الموت، فهناك أيضًا تتغلغل الحياة. في ساعة الوحشة الأخيرة لن نكون وحدنا: "آلام المسيح. آلام الإنسان" (Passio Christi. Passio hominis).

هذا هو سر السبت العظيم! ومن هناك بالضبط، من ظلام موت ابن الله، انبثق نور رجاء جديد: نور القيامة. وعليه، إذ ننظر إلى هذا الكفن المقدس بعيون الإيمان نحدس شيئًا من هذا النور. بالواقع، لقد أٌغرِق الكفن في تلك الظلمة الدامسة، وفي الوقت عينه إنه نيّر؛ وأعتقد أنه إذا ما أتى آلاف وآلاف الأشخاص لتكريمه – دون أن نحصي من يتأمل به من خلال الصور – فما ذلك إلا لأنهم لا يرون فيه الظلمة فقط، بل النور أيضًا؛ لا فشل الحياة والحب، بل الانتصار، انتصار الحياة على الموت، والحب على البغض؛ يرون موت يسوع، ولكنهم يستشفّون أيضًا قيامته؛ في حضن الموت تنبض الحياة لأنه يضحي موطنًا للحب. هذا هو سلطان الكفن: من وجه "رجل الأوجاع" هذا، الذي يحمل على عاتقه آلام الإنسان في كل زمان ومكان، وآلامنا، مصاعبنا، وآثامنا – "آلام المسيح. آلام الإنسان" (Passio Christi. Passio hominis) – من ذلك الوجه يشع وقار مهيب، وسلطان حافل بالمفارقة. هذا الوجه، هاتين اليدين وهاتين الرجلين، هذا الجنب، وكل هذا الجسد إنما يتكلم جهارًا، هو بالذات كلمة يمكننا أن نصغي إليها في الصمت.

كيف يتكلم الكفن؟ يتكلم من خلال الدم، والدم هو حياة! الكفن هو أيقونة مكتوبة بالدم؛ دم إنسان جُلد، كلل بالشوك، صلب وجُرح جنبه الأيمن. الصورة المطبوعة على الكفن هي صورة ميت، ولكن الدم يتحدث عن حياته. كل وصمة من دمة تتحدث عن الحب والحياة. وخصوصًا تلك الوصمة الغضة بالقرب من الجنب، التي طبعها الدم والماء الذين تدفقا بغزارة بسبب الجرح الذي تسببت به طعنة الحربة الرومانية. الدم والماء يتحدثان عن الحياة. هي مثل ينبوع يهدر في الصمت، ونحن نستطيع أن نسمعه، يمكننا أن نصغي إليه، في صمت السبت العظيم.

أيها الأصدقاء الأعزاء، فلنحمد الرب دومًا لأجل حبه الأمين والرحيم. إذ نغادر هذا المكان المقدس، نحمل في عيوننا صورة الكفن، نحمل في قلبنا كلمة الحب هذه، ونسبح الله بحياة ملؤها الإيمان والرجاء والمحبة. شكرًا.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2010.