الخطيئة ضد الروح

عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير

بكركي، الاثنين 24 مايو 2010 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير التي تلاها نهار الأحد 23 مايو، متحدثًا عن الخطيئة ضد الروح انطلاقًا من مؤلف فرنسوا مورياك.

* * *

رتابة هذه الشكوى، وهي موجة تجديف صغيرة دائمة لا يقوى عليها (وهذا سرّ!)، ولو كان الها، وهو لا يكتسب شيئا بالنسبة اليها.ومع ذلك، فانها مسألة أشهر، وأسابيع، وأيام، وتكون القضية قد انتهت.ويكون من راهن قد ربح أو خسر. لا، لا يمكن أن تخسر؛ وهي لا يمكن أن تكون خاسرة، ولكن ستكون خاسرة بقدر ما تكون الخليقة الحرّة قد تغلّبت على المحبة اللامتناهية. هل سيعرف هذا الفشل؟ أجل، انه يعرف انه ذاهب اليه توّا، بسبب هؤلاء الكهنة العنيدين، والكتبة العديمي الفهم، الذين يغطّون أعينهم، ويتزيّنون بالأنظمة الحرفية، وكل جلاجل حرفية الشريعة! ويخلطون حمل الله وكل مبادرات الحرف والشريعة! وهم يخلطون بين الحمل ببعلزبوب هذا الذي يعني اسمه اله الذباب، أو اله الزبل!

          وبذل ابن الانسان جهده ليكون رابط الجأش، ولكنه أصيب بسرّ كيانه. يجيب، دون عنف أولا: "كيف يطرد الشيطان الشيطان ؟ وكل مملكة تنقسم على نفسها تهلك".

          وعلى الرغم منه، فان صوته يرتجف، وفمه يهتزّ. اين اذن سلام بيت عنيا، ورائحة الطعام، وفي المساء، مرتا ومريم المنهمكتان في المطبخ ؟ أين عينا مريم المرتفعة، ويداها المضمومتان؟ وانفجر فجأة غضبها وألمها: والذين خلطوا بينها وبين بعلزبوب اقترفوا جريمة الجرائم.

          الحق أقول لكم، كل الخطايا ستغفر لأبناء الناس، حتى التجديف الذي يكونون قد تفوهوا به، غير أن من يجدّف على الروح القدس فلن يغفر له؛ فهو يقترف خطيئة أبدية.

          فليس هناك من سرّ في "الخطيئة ضد الروح". ان نصّ مرقس صاف: "تحدّث يسوع هكذا لأنهم كانوا يقولون عنه: انه يسكنه روح نجس". ان قلب الضمير، والتأكيد أن الشر هو الخير، هذه هي الجريمة التي لا تغتفر عندما يرتكبها رجل مستنير بأنوار الأيمان، وهو يعرف أن الشرّ هو أحد الناس، وأن الخير هو أيضا أحد الناس، يسّر بانتهاك القدسيات انتهاكا مبهما كتجربة، وبدلا من ذلك انه يعبد النجس، ويفتح له عن معرفة قلبه، ويرضى بأن يغمره هذا بالطيّبات.

          هناك اذن خطيئة أبدية. في ذاك الوقت، اتجه فكر يسوع، الى ذاك الذي شبّهوه به. هذا الأله الغضوب يبدو أكثر اخافة ربما عندما يبقى باردا: اليهود التعساء، على ما كان يفكّر، يتكلّمون بخفة عن بعلزبوب الذي كانوا ينعتوته بالأرامية باله السماد"… ولكنهم لو كانوا يعرفونه، لما كانوا يبتسمون. وفجأة، خرجت منه كلمات علّق عليها معلّقون حذرون، وهي كلمات ترعد خوفا أصدقاءه الخلّص. – وخاصة:" عندما يخرج الروح النجس من انسان، يذهب الى أماكن جافة، يطلب الراحة. ولما كان لا يجد ما يطلب، فيقول " اني اعود الى بيتي الذي خرجت منه. وعندما يصل اليه، يجده مكنوسا نظيفا ومزيّنا. اذذاك يذهب، ويأخذ معه أرواحا أخرى أخبث منه، فيدخلون ذلك البيت، ويقيمون فيه: وتكون آخرة هذا الرجل شرّا من أوله".

          انه لجميل أن تعود طاهرا، وأن تكون قد نظّفت الاصطبل من أخر براز، وأن تكون قد زيّنته كما لو كان عندك وليمة عرس. ولكن القطيع النجس الذي طرده الانسان النظيف يعود، ذات مساء، يطرق الباب، وانا نسمع شخير كل هؤلاء الخنازير…

          وكانت النساء تستمع الى هذه الأمور، دون أن تفهمها، كما يفعلن أيضا، وهن متعلّقة بشفتيه، وقد سحرهنّ صوته. وقاطعته إحداهن وصرخت به قائلة:" طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك!".

          لعلّها كانت ناصرية، وكانت تريد أن تفرح مريم المختبئة معها في الجمهور. ولكن المسيح لم يكن في ساعة حنان؛ فأجاب بصوت قاس:"طوبى بالأحرى للذين يسمعون كلام الله ويحافظون عليه".

          ان سماع هذه الكلمة لا يعني شيئا. وقبولها بمحبة لا يعني شيئا، أما الحفاظ عليها فهو كل شيء". والحفاظ عليها على الرغم من الروح النجس، الواحد والجمهور، المزدحم. بين المرتدّين الى المسيح، منهم من لا يشعرون الاّ بالرعب والتقزّز من جرائمهم المغفورة لهم. وهم قد شفوا منها كالأبرص من قروحه. غير أنه لدى غيرهم، تبقى ثغرة مفتوحة: كما لو ان محبة المسيح تتراجع أمام بعض الجراح التي لا تندمل الا نصفيا، لتعود فتنفتح وتواصل النزف.

          ولم يجرؤ أي صوت على الارتفاع. ولكن أفكار هؤلاء اليهود الخفية كانت تصفع المسيح. وفي ذلك الوقت، انفجر ابن الانسان أخيرا: هذا الجيل يطلب آية ؟ فهو سيحصل عليها! فستكون آية يونان. وهذا يعني أنه سيبقى في الأرض ثلآثة أيام وسيقوم. وهذا كان غير مفهوم بالنسبة الى سامعيه. ولكنه أراد أن يكون ذلك غير مفهوم، وصرخ ان هذا الجيل سيحكم عليه يوم الدين. وستقوم ملكة سبأ عليهم، وأن أهل نينوى تابوا…

          وقاطعه فريسي منافق: وكانت ساعة الطعام.أفلا يريد أن يأتي ليأكل في بيته؟ وكظم يسوع غيظه، ودون أن يتنازل ويجيب، تبعه، واخذ مكانا، ولم يفكّر بغسل يديه، بحسب الطقس. وتعجّب الفريسي لذلك، ولكنه لم يقل شيئا لذلك الرجل الغاضب. ونسي السلطان الذي كان يملكه هذا الناصري للقراءة في القلوب. ولم يكن في حاجة الى أكثر من تعجّب ضيفه، وهو تعجّب أخرس، لينهض ابن الانسان مرة ثانية – وكان في هذه المرة مخيفا في استنكاره المتجدّد، لكنه قمعه تأدّبا، على هذه المائدة الغريبة. ولكنه هذه المرّة، لن يتوقّف: وتحولّ العتب مسبّةّ، والمسبّة اهانة، والأهانة لعنة: ان ابن الانسان هو ابن يهودي، وهو يهودي مهتاج، ويكثر الحركات ويصرخ:" ويل لكم، أيها الفريسيون، الذين تعشّرون النعنع، وسائر البقول، ولا تبالون بالعدالة ومحبة الله! وكان عليكم أن تحافظوا على هذه ولا تتركوا تلك. الويل لكم، ايها الفريسيون، الذين تحبون أول المتكئات في الهياكل، وأن يسلّم الناس عليكم في الساحات العامة! الويل لكم لأنكم تشبهون القبور المخفية التي لا يراها الناس، ولكنهم يمشون عليها وهم لا يعلمون!"

          وكان الشك قد بلغ أوجه. وظنّ أحد العلماء أنه كان من واجبه أن يردّه الى صوابه: "أيها المعلّم، عندما تتكلّم هكذا عن الفريسيين، فأنك تهيننا أيضا". والتفت ابن الانسان الى هذا العدو الجديد، المحتقر ايضا أكثر من الفريسي. لأن العلماء، والمعلمين يفسدون أفكار الصغار – وهم محتقرون بحيث ان الذي لا وجود للوقت عنده كان يرى في معلّم اسرائيل هذا الهزيل ممثلا لذريّة هي أقوى من محبته. وكان المسيح يعرف أنه يبقى دون سلطة تجاههم طوال أية قرون! ولهذا، وقد اخرجه الغضب عن صوابه، وهو المحبة بالذات، فقد كال للعلماء لعنات رفيعة:" وانتم أيضا، يا علماء الشريعة، الويل لكم! لأنكم تحمّلون الناس أحمالا ثقيلة، لا يقوون على حملها، ولا تمسكونها أنتم باحدى أصابعكم، الويل لكم انتم الذين تبنون قبور الأنبياء، الذين قتلهم آباؤكم… الويل لكم، يا علماء الشريعة، لأنكم أخذتم مفاتيح المعرفة، فما دخلتم ومنتعتم الذين يريدون الدخول!" .

          يجب أن نعرف ارهاق هذا الرجل الذي هو الله، والذي في كل هنيهة حاضر في ذهنه حساب ملايين النفوس التي انحرفت عن ينبوع االماء الحيّ. ولما كان الصليب يرتسم في الأفق، وكان قد أصبح قريبا منه، وكان ابتدأ يستطعم الدماء في فمه، فلم يكن يرى سوى هذا الصليب، ومن حوله، جميع الصلبان، وجميع المحرقات، وكل عدّة الضراوة الانسانية، الدامية .

          أيها الأخوة والأبناء الأعزاء،

          نحتفل اليوم بعيد العنصرة. أي عيد حلول الروح القدس على التلاميذ. والكنيسة يحييها الروح، ولن تقوى عليها أبواب الجحيم، كما وعدها السيد المسيح. فعلينا أن نجدّد ايماننا بالكنيسة وبالروح القدس الذي لن يتركها. وهو دائما معها. ويقودها الى مواطن الخير والصلاح.