الأب رغيد: شهيد البغض وشاهد المحبة

بقلم الأب بيار نجم

روما، الأربعاء 26 مايو 2010 (Zenit.org).

شاءت العناية الإلهيّة أن ألتقيه في روما حيث درسنا  في جامعة واحدة. كاهن شاب، وديع الشخصيّة، خفيض الصوت، بريء النفس ودائم الإبتسامة. كاهن ملتزم، فخور بدعوته، عميق الرّوحانيّة، واسع الثقافة، مطيع للكنيسة الأمّ ومُغرم بكنيسته الكلدانيّة.

شاءت العناية أن نكون معاً يوم بدأت جلجلة العراق، ودرب صليب مسيحيّي ما بين النهرين. رغم حزنه بقي يأمل الأفضل، رغم بشاعة الأحداث وهول الأخبار بقي يرجو خلاصاً قريباً، رغم القلق وانشغال البال علي أهل وإخوة وأصدقاء، بقي متّكلاً على الله، مصليّاً لتكون قيامة العراق قريبة.

شاءت العناية أن أشارك في قدّاسة الأوّل، عرفت يومها كم أن كنيسته غنيّة بكاهن مثله، وبمؤمنين مثل أهله وأبناء شعبه .

شاءت العناية أن نلتقي في السويد، أنا في زيارة خاصّة وهو في زيارة رعويّة ليخدم كلدانيّي السويد فترة الأعياد. دعاني لمشاركته الذبيحة الإلهيّة في الرعيّة الكلدانيّة. يومها كان لقائي الأوّل بمسيحيّي العراق، يومها لمست طيبة هذا الشعب وقربه، رأيت نبل العراقيّين وانفتاحهم، رأيت روح الخدمة والأستقبال، عشت ساعات من فرح عميق، فرح التعرّف على إخوة كانوا موجودين، ولم أكن أعرفهم .

عرفت فعلاً ما معنى "ما أجمل أن يسكن الإخوة معاً تحت سقف واحد". يومها أيقنت أن ما يحصل في العراق هو غير عادل، وأن الصليب الّذي يُلقى على كاهل هذا الشعب هو ثقيل جدّاً، صليب لا يستحقّه القوم هؤلاء .

ثم عدنا وافترقنا، عاد كل منّا يخدم كنيسته وشعبه، عدت الى لبنان وعاد هو الى العراق، وبقيت الصداقة تحيا بالصلاة .

الى يوم قرأت الخبر الأليم، خبراً بدا غير صحيح. بدا لي الأمر بأسره مزحة سمجة، كذبة كبرى. بدت لي أحلام كنيسة تتحطّم بلحظة واحدة: لقد قُتل الأب رغيد وثلاثة من شمامسة الكنيسة عند خروجهم من خدمة قدّاس الأحد. كان الأحد الأوّل بعد العنصرة .

للحظة ظننت أن الكنيسة سوف تسقط في العراق، كما سقط رغيد أمام باب كنيسته. في لحظة ألم ظننت أن أحلام كنائس ما بين النهرين سوف تتحوّل الى كابوس يطارد أتباع الناصرّي في تلك الأصقاع .

ثم عدت فتذكّرت، تذكّرت أن ما فعله أبناء الظلام برغيد وبرفاقه ذاك الصباح لم يكن جديداً، فمعلّم رغيد نفسه قد تمزّق جسده بالسياط، وثقبت يداه بالمسامير كما ثقب جسد رغيد، قُتل ظلماً كما قُتل رغيد، لا لخطأ فعله، لا لخطيئة ارتكبها أو لمعصية أثم بها، بل بسبب ظلم الأشرار وموت العدالة .

تذكّرت أن ما تمّ مع رغيد ذلك الصباح قد تمّ سابقاً مع بطرس ويعقوب، مع متّى وبرتلماوس، مع اسطفان وبولس… مع آلاف الشهداء الّذين قدمّوا حياتهم في سبيل المسيح، ارتضوا السيف والحرق وأنياب الوحوش على إنكار ذاك الّذي إحبّهم حتّى الموت. ولم تمت الكنيسة معهم، بل نمت وأينعت لأنّهم رووها بدمائهم الطاهرة .

سمعت في سقوط جسده على الأرض صدى كلمات إغناطيوس الإنطاكيّ السائر في موكب الأسر الى روما: "كم إشتهي أن أطحن كحبّة حنطة تحت أنياب الوحوش ".

عندها استيقظت من خوفي الأرضيّ، وعلمت أن دم الشّهيد يروي الكنيسة، وأن كنيسة أعطت أفرام ويعقوب السروجّي وإسحق السريانيّ، كنيسة أعطت مدارسَ جامعات في الرها ونصيبين، كنيسة حملت إنجيلها وتركت ورائها كلّ شئ لتمتلك المسيح، كنيسة أعطت اللاهوتيّين والقدّيسين، كنيسة ما بين النهرين التي عشقت المسيح لا يمكنها أن تموت، لأن دم شهدائها قد غاص في أرضها، وبذار قداستهم باتت تثمر ثباتاً وإيمان .

علمت أن دم رغيد ما هو إلاّ حلقة جديدة من سلسلة شهداء أرووا الكنيسة، وأن شهادته ما هي إلاّ خطوة إضافيّة علي طريق قيامة العراق بمسيحييّه ومسلميه، يوم يعون أن الرّب قد شائهم هناك معاً، وأن رحيل الواحد هو موت الآخر، وأنّهم بالإله الواحد الّذي يجمعهم، يمكنهم أن يحيوا عائلة واحدة، يوحّدها الله ويجمعها الإنسان .

نعم، رغيد هو ليس الوحيد الّذي يسقط نتيجة العنف والإرهاب، ألم يتبعه راعي أبرشيّته، المطران بولس فرج رحو، بعد تسعة أشهر على درب الشهادة نفسها؟ ألم يسبقه الأب بولس اسكندر؟ ألن يسير على الدرب عينها الأب يوسف عادل؟ وغيرهم من المكرّسين والشمامسة والعلمانيّين من كافة الكنائس والجماعات؟ كم من آباء حرموا منهم أولادهم بسبب حقد من يجهلون الله والضمير؟ نعم، هو لم يكن الأوّل، وللأسف لم يكن الأخير، ولكنّه صورة كاهن المسيح الّذي قال في عظته الأخيرة، قبل أن يساق الى الذبح كحمل: "لا يمكننا أن نحيا دون الإفخارستيّا"، وقال للجزّار الّذي يطلب منه الرّوح: "كيف لي أن أغلق بيت الله؟". هو صورة الكاهن الّذي جعل خير كنيسة الله قبل خيره هو، وجعل نموّ الكنيسة هدفه. هو الكاهن الّذي على مثال الكاهن الأعظم بذل ذاته من أجل الإخوة، وعلى مثال الكاهن الأوحد، سوف يكون موته قيامه، وشهادته خلاص لكنيسة عراقيّة أحبّت المسيح حتّى العشق، فقدّمت له من كنوزها كهنة شهداء. فأية صورة أنصع من رغيد، تختتم فيها سنة الكاهن، فنرفع معه الكهنة الى الله ليكونوا أمناء، مثل المسيح، ومثل رغيد، على خلاص النفوس الّتي ائتمنوا عليها .

تابعوا مجريات أسبوع الصلاة من أجل مسيحيي العراق على هذا الرابط.