من بابل الى العُلّيِّة

للاب هاني باخوم احتفلت الكنيسة بعيد العنصرة، بحلول الروح القدس على التلاميذ؛ "فامتلأُوا جميعاً من الروح القدس، واخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم" (اع 2: 4). تلك هي أول عطية مُنحت للتلاميذ من الروح القدس؛ أن يتكلموا بلغات غير لغاتهم بحيث أن كل الناس، من كل اُمةِ تحت السماء، كانوا يسمعونهم يتكلمون بلغتهم (اع 2: 5- 7).

هذا ما حدث يوم العنصرة: التلاميذ يتكلمون بلغات غير لغاتهم والآخرين مع اختلاف لغاتهم يفهمونهم فيتعجبون. ما أعظم هذا المنظر! التكلم باللغات! فهو ليس ببساطة معجزة او شيء خارق للطبيعة أتمه الروح القدس؛ لا نستطيع ان نُحد ما حدث في العنصرة ونَصفه على انه اعجوبة من الروح ليُظهر قُدرته، لا بل يوجد ما هو أعمق، يوجد بداية لعصر جديد، واقع جديد مختلف، طبيعة جديدة تُمنح للتلاميذ، هناك الرب يتدخل ويجعل الرسل يتكلمون والناس من كل اللغات تفهم.

فلماذا اللغات؟ لماذا هذه العلامة المحددة؟

"وكانت الأرض كُلُها لغةُ واحدة وكلاماً واحداً" (تك 11: 1). هكذا كانت حالة الأرض والناس؛ لغةُ واحدة وكلاماً واحداً. هكذا كان قبل ان ينزل الرب ويبلبل لُغة الشعب. هذا الشعب الذي اراد ان يبني برجاً راسه في السماء (تك 11: 7).

نعم كان هناك لغةُ واحدة من قبل، كان هناك إمكانية أن يفهم الإنسان أخاه وكلامه، لكن الرب نزل وبلبل لُغتهم. الشعب بعد الطوفان راى ان العالم قد لُعنَ بسبب خطيئته وظهرت هذه اللعنة في الطوفان. موت! أخطأت كل البشرية ووصلت بخطيئتها لاعمق الاسافل؛ للموت، للانفصال عن الله. فيظهر هذا بعلامة مرئية: الطوفان. ومن قبله الرب يدعو كل من يؤمن به ان يصعد مع نوح في السفينة كي يخلص. لكن الشعب يرفض ان يدخل، لم يكن يصدق ان خطيئته وصلت الى حدٍ كهذا، ودمرت حتى الطبيعة وأفسدتها. الشعب لا يصدق ان الخطيئة تجلب الموت؛ موت الكيان والانفصال التام عن الله. الشعب يعتقد انه يستطيع ان يواصل حياته بطريقة عادية وان كان في الخطيئة: يأكل ويشرب، يتزوج، ويُزوج.

فيأتي الطوفان ويتشتت بني البشر. وبعد ان كثُرَ نسل نوح يتمرد البشر من جديد؛ راجين ان يخلصوا انفسهم بانفسهم، يبنون برج بابل، ليستقلوا عن الله. يبنون برجا راسه في السماء، في مسكن العلي، كي لا يموتوا من بعد. الشعب يريد اذا اتى الطوفان مجدداً، اذا اختبر الموت الناتج عن الخطيئة، ان يجد مهربا ولا يعلم ان هذا المهرب، البرج، معناه الموت الابدي. الشعب يفكر ان بصنعه للبرج سيُخلص نفسه من عواقب خطيئته ونتائجها. أي ان الشعب آمن ان خلاصه يأتي مما يصنعه هو بيديه، البرج، وليس عليه من بعد ان يدعو الرب او ان ينتظر منه الخلاص. فيدمر اخر وسيلة للخلاص؛ ان يتوب ويرجع للرب. لكن الرب الذي يسمح بأي شيء إلا أن يَفقد احدا من أبنائه للأبد، ينزل ويبلبل لُغتهم كي لا يفهموا بعضهم بعضا، فلا يستمرون في بناء البرج. لا يستمرون في بناء مقبرتهم الأبدية.

"وكانت الأرض كُلُها لغةُ واحدة وكلاماً واحداً"، لكنها لم تعد بعد كذلك. في الارض لغات عديدة والناس لا يفهمون بعضهم البعض. وتأتي العنصرة، فامتلأ التلاميذ، شعب الله الجديد، من الروح القدس، واخذوا يتكلمون بلغات غير لغتهم. اخذوا يتكلمون ويعلنون الخبر المفرح موت وقيامة المسيح وإمكانية التوبة والرجوع لله. إمكانية ان لا يموت الانسان من بعد، ان لا ينفصل عن الله. ان يتخلص من خطيئته ويُنجي نفسه، ليس ببناء برج، لكن بأيمانه في الذي صعد الى مسكن العلي وارسل روحه القدوس. البرج لم يصل الى السماء، اما المسيح فبلى! نزل الى اعماق الجحيم، اخذ على عاتقه طوفان الموت والخطيئة، لكنه قام، وصعد وسكن السماء.

الشعب الذي تحالف سابقاُ كي يُخلص ذاته بنفسه قد تبلبلت السنته، اما الان فتتوحد من جديد. الان يتكلمون بلغة والناس يفهمونهم، لانه قد اتى الوقت لبناء البرج الحقيقي، برج الايمان، عن طريق التبشير.

نعم برج الايمان! والذي هو ملجأ ومهرب يحملنا الى السماء ويرفعنا عن واقع الموت عندما يٌفيض علينا كالطوفان. برج الايمان الذي اشيدت اساساته بالتبشير بموت وقيامة المسيح منطلقاً من العُلّيّة. لذا يُرسل الرب الروح القدس كي يبني هذا البرج، يرسله بأول المواهب: التكلم بلغات؛ اي امكانية للامم ان تفهم وتؤمن بالخلاص. نعم وليس ببساطة التكلم بلغات اجنبية. التكلم بلغات؛ بلغة يفهمها من يستمع اليها. يفهمها لانه يختبر انها تنقصه وانها في العمق هي ما يحتاج اليه: لغة، لسان من نار، به يُعلن الخبر المفرح.

فمن بابل الى العُلّيّة، من برج فاني الى برج دائم، من خلاص وهمي لخلاص ابدي وحقيقي.

اعياد مباركة.