"محاكما جان… لم يعرفا أنهما يدينان قديسة"
حاضرة الفاتيكان، الخميس 27 يناير 2011 (Zenit.org)
ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه بندكتس السادس عشر عن القديسة جان دارك (1412-1431) خلال المقابلة العامة في قاعة بولس السادس.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
أرغب اليوم في التحدث إليكم عن جان دارك، القديسة الشابة التي عاشت في أواخر القرون الوسطى وتوفيت عام 1431 عن عمر 19 سنة. هذه القديسة الفرنسية المذكورة أقوالها مراراً في تعليم الكنيسة الكاثوليكية، هي قريبة بخاصة من القديسة كاترينا السيينية، شفيعة إيطاليا وأوروبا التي تحدثت عنها في تعليم سابق. فهما شابتان من الشعب، علمانيتان ومكرستان في البتولية، متصوفتان متفانيتان ليس في الدير وإنما وسط الوقائع الأكثر تأثيراً في الكنيسة والعالم في زمانهما. ربما هما المثالان النموذجيان من بين هؤلاء "النساء القويات" اللواتي في أواخر القرون الوسطى حملن بلا خوف نور الإنجيل العظيم في تقلبات التاريخ المعقدة.
نستطيع وضعها إلى جانب النساء القديسات اللواتي بقين على الجلجلة، قرب يسوع المصلوب ومريم أمه، بينما هرب الرسل وأنكره بطرس بنفسه ثلاث مرات.
في تلك الحقبة، كانت الكنيسة تعيش الأزمة الكبيرة المتمثلة في الانشقاق الغربي العظيم الذي دام حوالي 40 سنة. عندما توفيت كاترينا السيينية سنة 1380، كان هناك البابا والمناهض للبابا. وعندما ولدت جان سنة 1412، كان هناك البابا ومناهضان للبابا. إضافة إلى هذه الشرذمة ضمن الكنيسة، كانت الحروب الأهلية مستمرة بين الشعوب المسيحية الأوروبية، وكانت أكثرها مأساوية حرب المئة عام الطويلة بين فرنسا وإنكلترا.
لم تكن جان دارك تعرف القراءة أو الكتابة، لكن معرفة أعماق نفسها كانت ممكنة بفضل مصدرين ذات أهمية تاريخية استثنائية هما المحاكمتان اللتان خضعت لهما. تتضمن الأولى، "محاكمة الإدانة" النسخة عن استجوابات جان الطويلة والعديدة خلال الأشهر الأخيرة من حياتها (فبراير- مايو 1431)، وتشمل كلمات القديسة نفسها. وتتضمن الثانية، "محاكمة بطلان الحكم" أو "رد الاعتبار"، شهادات زهاء 120 شاهد عيان من كل مراحل حياتها (Procès de Condamnation de Jeanne d\’Arc, 3 vol. y Procès en Nullité de la Condamnation de Jeanne d\’Arc, 5 vol., ed. Klincksieck, París l960-1989).
ولدت جان في دومريمي، وهي قرية صغيرة تقع على الحدود بين فرنسا ولورين. كان والداها مزارعين غنيين ومعروفين لدى الجميع بأنهما مسيحيان صالحان. تلقت منهما تربية دينية جيدة، وتأثرت بشدة بروحانية اسم يسوع التي علمها القديس برناردين السييني ونشرها الفرنسيسكان في أوروبا. مع اسم يسوع، يتحد دوماً اسم مريم. وبالتالي، وفي إطار التدين الشعبي، فإن روحانية جان كانت متمحورة بشدة حول المسيح ومريم. فمنذ طفولتها، أظهرت محبة ورأفة عظيمتين تجاه الفقراء والمرضى وجميع المتألمين في سياق الحرب المأساوي.
من كلماتها، نعلم أن حياة جان الدينية نضجت بالخبرة ابتداءً من الثالثة عشرة من عمرها (PCon, I, p. 47-48). فمن خلال "صوت" رئيس الملائكة القديس ميخائيل، شعرت بدعوة الرب لها إلى تعزيز حياتها المسيحية وإلى تكريس ذاتها شخصياً لتحرير شعبها. فكانت استجابتها الفورية أي "قبولها" عبارة عن نذر البتولية، مع التزام جديد بالحياة السرية والصلاة: المشاركة اليومية في القداس، الاعتراف والمناولة بشكل دائم، وفترات طويلة من الصلاة الصامتة أمام المصلوب أو أمام صورة العذراء. كما أن حنو الفلاحة الفرنسية الشابة والتزامها أمام آلام شعبها أصبحا أقوى بفضل علاقتها السرية مع الله. فقد كانت العلاقة بين التجربة السرية والمهمة السياسية أحد الجوانب الأكثر فرادة في قداسة هذه الشابة.
بعد سنوات الحياة الخفية والنضج الروحي، جاءت فترة السنتين الوجيزة وإنما الباهرة من حياتها العامة: سنة من العمل، وأخرى من الألم.
في مطلع العام 1429، بدأت جان عملها التحريري. الشهادات المتعددة تظهر لنا هذه الشابة التي كانت تبلغ من العمر 17 عاماً فقط بمظهر المرأة القوية والمصممة، والقادرة على إقناع الناس الخائفين والمحبطين. بعد تخطي كل العراقيل، التقت بولي العهد الفرنسي، الملك العتيد شارل السابع الذي أخضعها في بواتييه لامتحان أجراه بعض اللاهوتيين من الجامعة. وجاء حكمهم إيجابياً، فلم يجدوا شراً فيها، وعرفوا فقط أنها مسيحية صالحة.
في 22 مارس 1429، أملت جان كلمات رسالة مهمة إلى ملك إنكلترا ورجاله الذين كانوا يحاصرون مدينة أورليان (Ibid., p. 221-222). كانت رسالتها اقتراح سلام حقيقي في العدالة بين الشعبين المسيحيين، على ضوء اسمي يسوع ومريم، لكن هذا الاقتراح رُفض، وكان ينبغي على جان أن تكرس نفسها للكفاح من أجل تحرير المدينة الذي حصل في الثامن من مايو. وتمثلت اللحظة الأخرى الهامة في عملها السياسي في تتويج الملك شارل السابع في ريمز بتاريخ 17 يوليو 1429. طيلة سنة كاملة، عاشت جان مع الجنود منجزة بينهم رسالة فعلية من الكرازة الإنجيلية. كثيرة هي الشهادات عن صلاحها وشجاعتها وطهارتها الاستثنائية. الجميع كانوا يسمونها وهي كانت تصف ذاتها بـ "البكر" أي العذراء.
بدأت آلام جان في 23 مايو 1430 عندما وقعت أسيرة في أيدي أعدائها. في 23 ديسمبر، اقتيدت إلى مدينة روان. هناك، أجريت محاكمة الإدانة الطويلة والمأساوية التي استهلت في فبراير 1431 وانتهت في 30 مايو بالإعدام حرقاً. كانت محاكمة كبيرة ورسمية ترأسها قاضيان كنسيان هما الأسقف بيار كوشون والمحقق جان لوميستر، وأدارتها فعلياً جماعة كبيرة من لاهوتيي جامعة باريس الشهيرة الذين شاركوا في المحاكمة كمستشارين. كانوا كهنة فرنسيين تتعارض ميولهم السياسية مع جان، وكان حكمهم سلبياً على شخصها ورسالتها. تشكل هذه المحاكمة صفحة مؤثرة في تاريخ القداسة، وصفحة نيرة حول سر الكنيسة التي هي "في الوقت عينه مقدسة وبحاجة دائمة إلى التطهر"، وفقاً لكلمات المجمع الفاتيكاني الثاني (نور الأمم، Lumen Gentium، 8). إنه اللقاء المؤثر بين هذه القديسة ومحاكميها الذين كانوا كهنة. اتهمت جان وحوكمت من قبلهم لدرجة أنها أدينت بالزندقة وأرسلت إلى موت المحرقة الرهيب. خلافاً للاهوتيين القديسين الذين أناروا جامعة باريس كالقديس بونافنتورا، والقديس توما الأكويني، والمبارك دونز سكوتوس، الذين تحدثت عنهم في تعاليم أخرى، هذان القاضيان كانا لاهوتيين يفتقران إلى المحبة والتواضع لرؤية عمل الله في هذه الشابة. هنا، تتبادر إلى الذهن كلمات يسوع التي بموجبها تنكشف أسرار الله لمن يتمتع بقلب طفل، وتُحجب عن الحكماء والفهماء غير المتواضعين (لو 10، 11). كان محاكما جان عاجزين تماماً عن فهمها ورؤية جمال روحها: لم يعرفا أنهما يدينان قديسة.
رفضت المحكمة مطالبة جان بتدخل البابا في 24 مايو. وفي صباح 30 مايو، تناولت القربان المقدس للمرة الأخيرة في السجن، وبعدها اقتيدت سريعاً إلى التجربة الأليمة في ساحة السوق القديمة. طلبت من أحد الكهنة أن يضع أمام المحرقة صليب الزياح. وهكذا، ماتت وهي تنظر إلى يسوع المصلوب وتلفظ اسم يسوع مراراً بصوت عال (PNul, I, p. 457؛ تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 435). وبعد حوالي 25 عاماً، توصلت محكمة بطلان الحكم التي افتتحت في ظل سلطة البابا كاليكستوس الثالث، إلى حكم رسمي أعلن إبطال الإدانة (7 يوليو، 1456؛ PNul، II، ص. 604-610). هذه المحاكمة الطويلة التي تتضمن أقوال الشهود وأحكام العديد من اللاهوتيين التي تؤيد كلها جان، تسلط الضوء على براءتها وأمانتها المثالية للكنيسة. وقد أعلن بندكتس الخامس عشر قداسة جان دارك سنة 1920.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن اسم يسوع الذي كانت تتضرع إليه قديستنا حتى آخر رمق في حياتها على الأرض كان بمثابة نفس روحها، وخفقان قلبها، ومحور حياتها كلها. إن "سر محبة جان دارك" الذي فتن الشاعر شارل بيغي هو هذه المحبة التامة ليسوع ولقريبها في يسوع ولأجل يسوع. لقد فهمت هذه القديسة أن المحبة تشمل كل واقع الله والإنسان، والسماء والأرض، والكنيسة والعالم. ولطالما كان يسوع يحتل المرتبة الأولى في حياتها كلها، وفقاً لقولها الرائع: "اخدموا الله أولاً" (Pcon، I، ص. 288؛ تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 223).
محبته تعني الإذعان دوماً لمشيئته. لقد قالت بثقة واستسلام تامين: "أوكل نفسي إلى الله خالقي، أحبه من كل قلبي" (المرجع عينه، ص. 337). مع نذر البتولية، كرست جان نفسها كلياً لمحبة يسوع الوحيدة: إنه "وعدها الذي قطعته لربنا بأن تصون بتوليتها الجسدية والروحية" (المرجع عينه، ص. 149-150). إن بتولية الروح هي حالة النعمة، القيمة الأسمى، التي تعتبرها أثمن من الحياة: لقد كانت هبة تلقتها من الله وصانتها بتواضع وثقة. وإن أحد النصوص الأكثر شهرة في المحاكمة الأولى متعلق بهذا الموضوع: "عن سؤالها إذا كانت تعلم أنها تعيش في نعمة الله، أجابت: "إن كنت لا أعيش فيها، فليضعني الله فيها؛ وإن كنت أعيش فيها، فليبقني الله هناك" (المرجع عينه، ص. 62؛ تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 2005).
لقد عاشت قديستنا الصلاة كشكل من أشكال الحوار المستمر مع الرب الذي ألهم أجوبتها للمحاكمين، مانحاً إياها السلام والأمان. فصلت بإيمان: "أيها الإله الأكثر عذوبة، تكريماً لآلامك المقدسة، أسألك إن كنت تحبني أن تكشف لي كيفية الرد على رجال الكنيسة هؤلاء" (المرجع عينه، ص. 252). رأت جان يسوع كـ "ملك السماء والأرض". هكذا، طلبت جان أن تُرسم على رايتها صورة "ربنا الذي يساند العالم" (المرجع عينه، ص. 172)، أيقونة رسالتها السياسية. كان تحرير شعبها عملاً من أجل العدالة البشرية، عملاً قامت به جان بمحبة وبدافع محبتها ليسوع.عملها يشكل مثال قداسة رائع للعلمانيين العاملين في الحياة السياسية، بخاصة في أصعب الظروف. والإيمان هو النور الذي يرشد كل خيار، كما سيشهد بعد مرور قرن قديس عظيم آخر هو الانكليزي توماس مور. في يسوع، تأملت جان أيضاً واقع الكنيسة، كنيسة السماء المنتصرة، وكنيسة الأرض المناضلة. بحسب كلماتها، فإن ربنا والكنيسة هما "واحد" (المرجع عينه، ص. 166). ولهذا القول المذكور في تعليم الكنيسة الكاثوليكية (رقم 795) طابع بطولي في سياق محاكمة الإدانة أمام القاضيين، الرجلين الكنسيين، اللذين اضطهداها وأداناها. في محبة يسوع، وجدت جان القوة لتحب الكنيسة حتى النهاية، حتى في لحظة إدانتها.
يسرني أن أذكر كيف أثرت القديسة جان دارك تأثيراً شديداً في قديسة شابة من العصر الحديث هي تريزيا الطفل يسوع. ففي حياة مختلفة تماماً في الدير، شعرت كرملية ليزيو بأنها قريبة جداً من جان، بعيشها في قلب الكنيسة ومشاركتها في آلام يسوع لخلاص العالم. ضمتهما الكنيسة كشفيعتي فرنسا، بعد العذراء مريم. وقد عبرت القديسة تريزيا عن رغبتها في الموت على مثال جان بلفظ اسم يسوع (Manuscript B, 3r)؛ واستمدت حيويتها من المحبة عينها ليسوع وقريبها، المحبة التي عاشتها في البتولية المقدسة.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، بشهادتها النيرة، تدعونا القديسة جان دارك إلى مستوى رفيع من الحياة المسيحية، إلى جعل الصلاة الطريق المرشدة لحياتنا؛ إلى التحلي بثقة تامة في إتمام مشيئة الله أياً كانت؛ وإلى العيش في محبة من دون تحيز، من دون قيود، مع إظهار محبة عميقة للكنيسة في محبة يسوع، على مثالها. شكراً.
نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2011