– خاص بموقع كنيسة الإسكندري القبطي الكاثوليكي
مجرد رؤية كنسية للأحداث الجارية:
تمر مصر بأغرب وأخطر وأعجب مرحلة تاريخية في تاريخها القديم والحديث فبعد سونامي ثورة الشعب – 25 يناير – الذي أطاح بالرئيس مبارك يبدو الوضع ضبابيا وغامضا، بسبب أنه فلم يكن أحد يتخيل أن يرى مبارك يتنحى، أو يرى وزراءً وراء القضبان، وقضايا الفساد المرعبة والأرقام الفلكية لأموال الشعب التي سرقت في وضح النهار.
وقبل الإدانة والشجب والتنديد أو الرقص والغناء والنشيد دعونا نحاول أن نرى الأمور بطريقة متأنية ونطرح بعض الحقائق وبعض الأفكار وقليلا من الاقتراحات:
أولا بعض الحقائق:
1- الحقيقة الأول هي أن لا أحدا يستطيع أن يتوقع كيف سيكون المستقبل، فجميع القراءات ممكنة والمستقبل يبدوا ضبابيا يحمل كثيرا من الأماني ويُحيط به كثير من المخاوف، وكما أن سقوط مبارك ونظامه الحديدي لم يكن متوقعا فكذلك يصعب التنبؤ بالمستقبل أو تأكيد كيف سيكون شكله أو مضمونه.
2- الحقيقة الثانية هي أنه مع سقوط النظام المباركي سقطت معه أكاذيبه التي أقنعنا بها لدرجة أننا كدنا أن ندافع عنها:
– سقطت أكذوبة الإخوان المسلمين واتضح أن حجمهم الحقيقي ليس بهذا الحجم الهائل والمرعب الذي كنا نتصوره، فلهم دور ولهم وجود ولكن حجمهم ودورهم لم يكن هو محرك الثورة أو قائدها بل كان دورا محدودا للغاية، وفي غالب الأحيان كان "ورقة لعب" في يد النظام نفسه. ولنا الحق في الخوف من أفكارهم المتطرفة ولكن ليس لنا الحق في اسكاتهم أو تجاهلهم أو رفضهم؛
– سقطت أكذوبة الإصلاح المستمر وشد الحزام التي لم تُثمر سوى فقرا وفسادا قد انتشرا في كل الجسد المصري كالسلطان، الذي سيكون من الصعب استئصاله؛
– سقطت أكذوبة تحكم رجال الدين وقدرتهم على تحريك أتباعهم كالدمى، فعجز الأزهر في إرجاع المتظاهرين لبيوتهم برغم كل حيله وعباراته وإيحاءاته واستشهداته ولم يفلح قداسة البابا شنودة، الذي كثيرا ما كان يُتهم باطلا بأنه رئيس دولة الأقباط، في منع شبابه من الخروج والمشاركة افعالة في المظاهرات (12 شهيد من الأقباط)؛
– سقطت أكذوبة الفرعون الحاكم بأمر الله الذي جعلنا نظن أنه إما هو وإما الطوفان؛
– سقطت أكذوبة الفتنة الطائفية فدافع المسلم عن المسيحي وعن كنائسه ودافع القبطي عن المسلم ولأول مرة منذ سنوات عانق كل منهما الآخر واكتشف أنه "أخ في الوطن" وليس منافسا أو خطرا، كما جعلونا نظن؛
– سقطت أكذوبة عدم الاضطهاد الأقباط فالوقائع تؤكد أن الأقباط تعرضوا لعمليات اضطهاد سمح بها النظام إما بصمته أو بمشاركته، خلف الكواليس، أو بتفسيراته الحمقاء وتستره على المجرمين والإرهابيين والسلفيين، أو بتعامله الأمني والبوليسي مع كل الأحداث والاعتداءات على الأقباط وأموالهم وبناتهم وكنائسهم. لدرجة أن أحد التهم الموجهة لوزير الداخلية هي مشاركته وتخطيطه لحادثة كنيسة القديسين بالإسكندرية.
سقطت الأكاذيب وسقطت معها ورقة التوت لنكتشف قباحة وفساد الوهم الذي عيشونا فيه فدافعنا عنه أو على الأقل رضينا به وسكتنا عن عيوبه.
3- للآسف لعبت الكنيسة والأزهر دورا سلبيا فحاولا مرغمتين تأيد نظام مبارك وكل محاولاتهما الحالية لمباركة وتأيد الثورة لن تُنسى الشباب والشعب تصريحاتهما السابقة، وأظن أن الصمت في هذه الظروف هو من الذهب وأن أي كلمة ستقال يجب أن تنبع من احترام لعقلية هذا الجيل الذي لا يمكن لأحد أن يخدعه أو يضحك عليه أو يستخف به.
ثانيا بعض الأفكار:
1- الديمقراطية ليست اختيارا سهلا ولا تأتي جاهزة بل هي بناء صعب ونظام صارم من حيث وضوح الواجبات والحقوق وهي اختيار مصيري، ولا يمكن لنا أن نضحك على أنفسنا أو نظن أن سقوط مبارك يعني أن مشاكلنا انتهت أو أن الثورة قد حققت أهدافها فالقادم أصعب وأخطر وأهم.
2- الديمقراطية تعني تبني خبرات الشعوب الديمقراطية القائمة فالأمر لا يعني بحال من الأحوال اختراعا جديدا. وعندما نقول نظام ديمقراطي يعني تبني "نظام" وليس "أجزاء نظام" فالديمقراطية لا تتجزأ – كما حال نظام مبارك في الماضي الذي كان يتغنى بالديمقراطية – أي تبني: المساواة والحرية والعدالة الإجتماعية ودولة القانون و"مدنية الدولة" وحقوق الإنسان بما في ذلك حرية العقيدة وحرية التعبير. وقد أكون متشائما إن قلت إن بلادنا العربية لا يمكن لها أن تتبني الديمقراطية نظاما سياسيا ما لم يتخلى السياسيون عن ارتداء ثوب الدين، ويتخلى رجال الدين عن العيش في ظل السياسيين، فلا قيام للديمقراطية بدون فصل إيجابي بين الدين والدولة، وبدون تبني مبدأ: الدين لله والوطن للجميع.
3- المدنية الإيجابية لا تعني التناحر أو الخصام بين الدين والدولة بين إتباع نهج الاحترام والحوار المتبادل بين أتباع الأديان وبين السياسيين والحكام بدون أحكام مسبقة وبدون فرض أو إقصاء لأحد على حساب الأخر. فلا رجال الدين يتحكموا في ضمائر الشعوب ولا رجال الدولة يتحكمون في رجال الدين.
ثالثا بعض النصائح:
1- على الجميع استخراج البطاقة الانتخابية فحتى الآن ليس واضحا كيف سيتم التصويت على التعديلات الدستورية أو على انتخاب أعضاء مجلسي الشعب والشورى ولهذا فعلى الكل القيام بدوره والتخلي عن السلبية؛
2- أظن أن لجنة الحكماء التي اقترحها العالم الدكتور أحمد زويل هي البُصلة التي ستوجه سفينة الوطن أما إلى الشاطئ وإما إلى الهاوية، لأن المستقبل لا يبني على النوايا الحسنة والواقع أن لا العسكر بمفردهم يستطيعون بناء هذا المستقبل ولا الشعب بمفرده ولهذا يجب الإسراع في خلق لجنة حكماء من رجال العلم والخبرة والفكر ومن الثوار ومن كل الذين يحظون بقبول واسع من الشعب ليخططوا بطريقة علمية لمستقبل مصر، فيضعون البرنامج وطريقة ووقت تحقيقه؛
3- على الأقباط تأجيل طلباتهم الخاصة والفئوية فالتشتت والتشدد سيكون سلبيا على الجميع والمهم الآن هو إظهار الوطنية والخوف على مستقبل هذا الوطن وبناء المستقبل الأفضل والتركيز على خلق مجتمع مدني يحترم حقوق الجميع ولا يفرق بين أبنائه على أساس الدين أو العرق أو الطبقة الاجتماعية. إن المجتمع المدني هو الذي سيحل كل المشاكل التي يحياها المسيحيون والمسلمون، وهو وحده سينزع عن السياسيين "ورقة الطائفية" التي كانوا يلعبون بها ليستمروا في الحكم وفي القهر. نقول التأجيل لا الإهمال أو النسيان؛
4- لا أظن أنه يجب إلغاء المادة الثانية بل تعديلها لتشمل غير المسلمين وشرائعهم ولتشمل القوانين الدولية وحقوق الإنسان كمصادر للتشريع، فمن حق الأغلبية التباهي بدينها ولغتها وشريعتها ولكن ليس من حقها إلغاء وجود الآخرين وحقهم في العيش بحسب دينهم وشرائعهم وهذا هو أهم مبادئ الديمقراطية الحقيقية- كلما تكلمنا عن إلغاء المادة الثانية كلما تمسكوا بها وكأنها مطلب الأقباط في حين أنها مطلب كل شخص مثقف وواعي يريد خير هذا الوطن، مطلب كل شخص يعرف أن لا ديمقراطية بدون فصل الدين عن الدولة؛
5- على الأقباط ألا يطالبون بحقوقهم بطريقة استفزازية فالدولة المدنية هي مطلب أغلب الشعب المصري وأغلب الشباب الثوار الذين قدموا أرواحهم منادين: "لا دينية ولا بلويسية، مدنية مدنية"، وبالتالي فليس عليهم إلا الاشتراك مع نداءات الشعب وعدم تقديم هذه الطلبات وكأنها فقط قبطية وبالتالي خلق رغبة لدى الآخرين في رفضها لأنها تبدو "قبطية". فلا يوجد مثقف أو مفكر لا يريد الدولة المدنية والجميع يعرفون أن الدولة الدينية تعني فقط القضاء على الأخضر واليابس، تعني الرجوع للعصور الظلامية؛
6- على جميع أبنائنا الأقباط المشاركة الإيجابية فيما تمر به مصر وعدم الاكتفاء بالتفرج، فعلى أقباط المهجر تنظيم رؤيتهم وإظهار محبتهم لهذا الوطن، فهذه هي فرصتهم لتأكيد أنهم ليسوا عملاء ولا خونة كما كان النظام القديم يصورهم وأن مطالبهم هي مطالب من أجل مصر ومن أجل كل شعب مصر، وعلى الكنيسة ألا تتحكم في أفكار أبنائها فدورها لا يجب أن يتعدى تقديم النصيحة على ضوء الإنجيل.
7- عدم الصمت أمام الظلم والاضطهاد والاعتداء على "حقوق الأقباط" كمواطنين كاملي المواطنة ولا يحق لأحد تجاهل وجودهم وحقوقهم، (بنفس منطق عدم إمكانية تجاهل وجود وحقوق الإخوان المسلمين) فالدفاع عن الحق واجب وطني وكنسي وإيماني. وهذا لا يعني المطالبة بامتيازات فئوية بل بحق المواطنة والمساواة والحرية كما تضمنها جميع المعاهدات الدولية وحقوق الإنسان، وعدم الصمت أمام بعض المظالم التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة.
8- استخدام كل الوسائل المشروعة لتوصيل الصوت والتي منها الإنترنت ومواقع الاتصال الاجتماعي هذه الوسائل التي أثبتت أنها أقوى من الأنظمة الحديدية وأكثر تأثيرا من الدبابات والمدافع، فقوة الحق لا يمكن لأحد أن يسحقها بل هي تسحق الجميع وتحررهم : "الحق يحرركم".
أن من سيحدد شكل ومستقبل مصر هو أولا الشباب الذين خلعوا عنهم الخوف، وبدؤوا يستنشقون حريتهم ويتباهون بقدرتهم وبقوتهم على تحقيق المستحيل لدرجة أنني أظن أنه سيكون من المستحيل التحكم فيهم مستقبلا أو بيعهم الأوهام؛ وثانيا المثقفين ورجال الفكر والعلم لاسيما الذين خرجوا من منفاهم وبدأنا نراهم ونسمعهم ونعرفهم، وبدؤوا وبحرية في عرض أراهم ورؤيتهم للمستقبل، على شاشات التلفزيون المصري الذي ابعدتهم وقزمهم لسنوات كثيرة وثالثا المصالح الدولية والإقليمية والتي بدون شك تتدخل بشكل مباشر وغير مباشر في تحديد سياسات واختيارات شعوب هذه المنطقة.
فعلى الشباب وعلى المثقفين وعلى الدول المتقدمة مساعدتنا في تحمل مسئوليتنا التاريخية وفي تحويل سونامي الثورة الشعبية إلى دولة مدنية تقوم على العلم والقانون والمساواة وعلى احترام الدين والاختلاف وحماية التنوع والتناغم، وعلي الثوار ألا يتركوا ثورتهم تسرق منهم أو تتحول لمجرد أغاني وطنية وشعارات لا تشبع جوع ولا ترفع أمة، ولا يجب على أحد أن ينسى أن الديمقراطية لا تتجزأ وأن الدُّول لا تنهض إلا على "الرؤى العلمية والتخطيط المستقبلي الواضح والشجاع" وأن ما نحياه هو منعطف تاريخي سنحاسب عليه أمام أحفادنا وأمام الأجيال القادمة، فالثورات إما أن يدافع عنها أصحابها وإما يسرقها الانتهازيون والسلفيون وأصحاب المصالح، والذين ما أكثرهم،
وليحفظ الرب مصر ويحفظ شعبها.
http://www.facebook.com/abuna.Yoannis#!/abuna.Yoannis/posts/203243143023312