علامة الزمن
مذبحة الكرادة… مذبحة كنيسة سيدة النجاة… ما أبشعها… جريمة مروعة… مخجلة… بل هي وصمة عار… راح ضحيتها أبوان في ربيع الكهنوت… أطفالٌ صغار… شباب… نساء ورجال… هؤلاء كلهم سقطوا قتلى وجرحى، ولم يخجل السفّاحون من جرائمهم، كما لم يدركوا أنهم شوّهوا صورتهم _ هم والذين خططّوا لها _ فأصبحوا وحوشاً مفترسة، غرزوا أنيابهم في أجسادٍ بريئة عبر أسلحتهم الكاسرة.
ضحايا مذبحة سيدة النجاة، هم شهداء، يكفيهم أنهم كانوا في لقاء ربّهم، ودماؤهم غفرت ما كان يجب أن يتمّ، والأحياء الذين رافقوهم بصلواتهم ودموعهم استشهدوا معهم كونهم عاشوا الجحيم، غير فاقدين رجاءهم. فكانوا مع الشهداء شهداء، وها هم الأحياء شهداء، كون الشهادة رسالة الحقيقة.
مذبحة سيدة النجاة ستُدرَج حروفها ضمن رسائل الزمن، وأبجديات التاريخ، لتعلن للملأ أن لغة الجرائم ما هي إلا وجود الشرّ وتأصّله في القلب الذي باع القيم وإنسانية الله وصورته، ولكن مهما أمعن الشرّ في حياة البارّ سيبقى الرجاء درع الخلاص، وطوبى لِمَن يثبت إلى المنتهى.
مذبحة سيدة النجاة تعلّمنا أن الدماء التي سُفكت لن تكون إلا نبع سلام وتآخي… رسالة محبة وإخاء… وما المسيحية في ذلك إلا مصدر اعتزاز وفخر، فهي تحمل رسالة الحب، قيمته فداء وغفران وشفاعة… إنها كما قال قداسة البابا بندكتس السادس عشر:"ستكون التضحية بذرة سلام وولادة جديدة"… إنها علامة الزمن!… أليست هذه حقيقة!؟… أليست هذه علامة؟.
ضحايا الحرب
الحرب… الحرب… وما أدراك ما أنتجته الحرب في بلادي… فمن الاحتلال المهين إلى دمار كل شيء، ولازلنا على سقطتنا ومعاناتنا، نئنّ ونتأوّه حتى الساعة، ممتلئين خوفاً من مستقبل مظلم، حيث أجواء العولمة وما يتبعها من مآسٍ وأنانيات، ومن حاضر متعب ومفروض علينا، شئنا أم أبينا، ومن ماضٍ أعادنا إلى سوابق عهد التخلف والفساد.
وابتدأت مع الاحتلال علامات أزمنة ومنها كان قتل الأبرياء، سقطوا ضحايا قنابل عمياء. وهجر الأبناء مساكنهم. واعتبر الكثيرون من المحتلين أنهم من المنتصرين. والحقيقة عكس ذلك، فقد أعلنها البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني، وحكم عليها قبل وقوعها، حينما أشار إلى أن الحروب والاحتلال ما هي إلا تدمير البلدان وقتل الأبرياء وسقوط الضحايا، مؤمناً أن الرب يسعى وراء الخاطئ حتى النهاية. وما كان تجسد الكلمة في نصب خيمته بيننا إلا هذه العلامة السماوية على البسيطة القلقة، فكان صوت الملائكة في الأعالي أمجاداً، وترتيلة البشر على الأرض سلاماً، وبذلك أمسك يد آدم وأدخله جنة السماء بدل جنة الأرض. وهنأ زكريا بوليد ابن الموعد بدل ابن الزمن… لقد كان ذلك حباً خالصاً، نزيهاً، شريفاً، لا حب تزييف ومصلحة ونفاق… حباً يجسد ثورة يسوع المسيح في مجال الحقيقة والمحبة، كون الكنيسة ما هي إلا صوت الذين لا صوت لهم، وليس صوت الذين يريدونها أن تكون مذيعة لأصواتهم… بل صوت يسوع ليس إلا…!!.
كبرياء … وأبرياء
لا أحد له الحق بأن يعتدي على الإنسان، وأن يشوّه وجهه. فلكل إنسان كرامته كونه وجه الله… ففيرونيكا حينما طبعت وجه يسوع بالمنديل، ما عملت إلا على إظهار الخطيئة التي لوّثت حياة البشر… إنها خطيئة الكبرياء والأحقاد البغيضة والمصالح الأنانية في قتل الأبرياء… إنها جريمة إنسانية مَن يفتش عن ذلك… فلغة المسيح غير لغة العالم، لأنها لغة المحبة والأخوّة… وما رسالتنا إلا كسر الحواجز بين الله وبيننا، وبين بعضنا بعض، مثل انتفاضة شباب العرب… علينا نحن أن نكسر الحواجز الروحية… إنها ثورة يسوع. فالسلطة مهما كانت بأيدي البشر _ كنسياً أو مدنياً _ ما هي إلا لبناء الإنسان والخير العام، وليس لمنافع ومصالح شخصية أو لكبرياء وأنانيات البشر… ما هذا الذي يحصل؟… لماذا التلذّذ بقهر الناس وتسخيرهم لمصالح ولثبات كراسي الدنيا والزمن؟… فهذا ليس الإنجيل، إنما الإنجيل ما هو إلا الإنحناء أمام أقدام الصليب… وهذا هو الاستحقاق لأنه أحبّ كثيراً (متى 12:26)… فويلٌ للإنسان الذي يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً… ويلٌ لأناس يتّهمون الأبرياء من أجل غاياتهم، أو يزوّرون كتاباتهم من أجل مصالحهم، وهم أنفسهم يرتكبونها ويتّهمون آخرين بفعلها… إنها خطيئة الكبرياء… بل الخطيئة الكبرى… بل علامة.
الحقيقة في يسوع المصلوب
في صدر مجرى التاريخ، وعبر أحداث الزمن، ينتصب الصليب. وفي خضمّ هذه الأحداث يختصر صليب المسيح تاريخنا بكامله ليصبح حكمة، ويطلق برمزية صرخة يتردد صداها، إنها إعلان الحكم بالظلم على ذلك المرفوع على الصليب.
فباسم الدين والدنيا رُفع يسوع الناصري مهاناً ومكلَّلاً بشوك الحقد… وباسم الدين والدنيا وبرجالها حُكم عليه بالموت وصُلبت الحقيقة ومعها وفيها… فالحقيقة والصليب تتعانقان ليصبح كلاهما في وحدة مصير. فمن سخرية الزمن أن يُصلَب الإنسان الحقيقي. فهناك شعوب تتحارب وأخوة تتقاتل باسم الدين والدنيا، كما تُحرَق المعابد ودور العبادة… فهل ضاع الله؟، أم أصبحنا بعيدين عن عيش إله الحقيقة.
أقولها: لا وطن قبل الإنسان، ولا سلطة قبل الإنسان، ولا شيء قبل الذي سفك دمه… فأين نحن من حقيقة الحب المتجسد الممدود على الصليب؟… ألم نعلم أن لغة الصليب هي لغة المفتدي!!، لأن الصليب ما هو إلا فعل حب، وإن الجهالة تختفي كونها في الحكمة البشرية.
نعم، إن موت المسيح من الزاوية التاريخية هو حدث تاريخي، وأمام حكمة الصليب هو عمل الشكر الوحيد في تاريخ العالم وأمام العالم بأجمعه… عرياناً دخل المسيح الهيكل الحقيقي… عرياناً مات على الصليب… عانقه مختاراً وشاقّاً حجاب الموت (متى 51:27).
لقد قدّم يسوع نفسه قرباناً، فأزال قرابين الكهنة… قدّم ذاته ليزيل بغض البشر، ويُتمّ فعل المصالحة بدمه. وأصبحت ساعة الصليب ساعة المصالحة الكونية، وبذلك محى المسيح كل عبادة خارجية. إنه اختصر كل كلام بفعل تقديم ذاته. صالحنا مع ذواتنا ومع إخوتنا لنعود نرفض ذواتنا… فالمسيح كما كان مدعوّاً إلى الخروج عن ذاته، دعانا إلى تجاوز الذات بالمحبة للقاء الآخر، لأنه "مَن أراد أن يرفع نفسه فليتّضع" (لو 14:18).
لننظر إلى عود الصليب، ونفتح آذاننا بكلمات المسيح. فالرب خلق الكون في سبعة أيام، والمسيح أعاد خلق الإنسان بسبع كلمات أخيرة… فها تمّ كل شيء (يو 28:19)، وكان فجر القيامة عهداً جديداً، وصليبه أضحى مفتاحاً لهذا العهد كونه أحبّ حتى النهاية، وحبّه وحده أعطى الألم والصليب معنى، ولو كان الجلاّدون قرب الصليب هم الكهنة لتقديم الذبيحة (متى 41:27).
نعم، سر الصليب هو سر لقاء الله بالإنسان. هذا السر العظيم يكشف لنا حقيقة الله بالإنسان. ومن هنا تبرز صورة الإنسان… أما خارج عن صورة الصليب، فما أنت إلا كاشف لعوراتك، أنت يا مَن تحكم على البريء لتبرّء نفسك. وورقة التين التي تستر عريك، تذبل وتبقى عرياناً أمام الحقيقة… إنه المسيح يكشف له صورة الإنسان الحق، فتصلبه… هذا هو أنا، هذا هو أنت.
أين حقيقة الإنسان؟… لقد أوضح يوحنا على لسان بيلاطس "هاكم الرجل" (يو5:29)، هاكم الإنسان يسوع… نعم، لقد عرفنا حقيقة الإنسان في يسوع المصلوب، وفي تلك الحقيقة أدركنا معه الله. فابن الله من على صليبه حاكمنا وهو يخلّصنا. لندع صليب المسيح يثبت كعلامة أبدية لجنون هذا الحب الإلهي… ذلك الصليب الذي أضحى تقدمة شكر من ابن لأبيه… فبورك جنون الحب… فيسوعنا أدرك أن ساعة إتّهامه قد أتت (متى 45:26)، ورغم ذلك أتمّ المشيئة… إنها العلامة.
خوف … أم ثقة ورجاء
لقد قلتُها في مقالات سابقة، إن قصة الله معنا قصة طويلة، إنها قصة حب، حب يعطي ويبذل ولا شيء آخر. سار قديماً مع محبيه، وواصل المسيرة بابنه في الجديد حتى وصوله إلى كل واحد منا. إنه يريد خلاصنا، ولكن المشكلة مشكلتنا إذ لم ندخل بوابة هذا الخلاص. ورغم ذلك يحبنا حباً صادقاً وليس حباً مزيفاً. وحبه هذا يجب أن ينمي فينا حدس عدم الخوف الذي به كان المدعوون شجعاناً إذ أمنوا أنه يحبهم حتى النهاية… وهاهو ذا يحبنا ويخاف علينا أكثر من خوفنا على أنفسنا، ومع هذا لا زلنا نتاجر بالخوف ولا نربح شيئاً إلا مزيداً من الخوف. وبسبب هاجس الخوف لم نعد ندرك عنايته ومشيئته، وأصبحت صلاتنا أن "قِنا يا رب خوف أنفسنا" طوال نهارنا فقد اصبحنا عبيداً كوننا لم نجد مكاناً بعدُ لله، بل أصبح الخوف إلهنا وهو يسيّرنا كيفما يشاء. وأزيد وأقول أصبحنا نخاف الله نفسه رغم حبه لنا… نخاف آياته، كونها تفسد لذّة عيشنا وتُهبط معنوياتنا. ومن خوفنا خلقنا أزماتٍ لأيامنا، وحملنا راية الخوف في مسيرة إيماننا متشائمين، كون الخوف يمرّ علينا فجراً ويصبح معنا ويمسي علينا، وكأن الله لا يعنيه شيئاً، وكأننا أهملناه خوفاً منه بل إهماله لنا، وما ذلك إلا ضعف الرجاء فينا، بل أولئك الذين فقدوا رجاءهم ولم يعد لهم شيئاً كونهم أضاعوا كل شيء.
فإن كان هكذا يحبنا الله، فَلِمَ الخوف؟، ولماذا يوسوس في عقولنا؟، لماذا نقتل أبرياءنا؟، أليس لأننا نخاف الحقيقة، وفي ذلك نقتل الروح الذي يعمل معهم وفيهم، ونتاجر لأنانيتنا من أجل مستقبلنا… ما علينا إلا أن ننظر إلى الأمور بموضوعية وبنظرة إيمانية.
لماذا نكبر في الخوف؟… لماذا لا نرفع أصواتنا منشدة نشيد الثقة والرجاء؟… "ليكن لكم ثقة، فإني قد غلبتُ العالم" (يو 33:16)… و"إن كان الله معنا فمَن علينا" (رو 31:8)… فعبر الرجاء نعبر إلى الإيمان لنحياه، حيث أن إيماننا اليوم يمرّ بأزمات وضيقات، ولابدّ من أن نجتازها، كون يد الله معنا. فلماذا نخاف؟… بل لماذا نخيف؟… أليس هذا قطع الرجاء؟… إنها خطيئة ضد الروح القدس… إنها علامة.