همسات الروح
تأمُّل في سفر المزامير
بقلم الأب/ بولس جرس
أولاً: تقديم المزمور
يُعتبر هذا المزمور “قدس الأقداس” بالنسبة إلى كل مسيحي على مر التاريخ، فبالإضافة إلى استخدام الرب يسوع المخلّص كلماته، كصلاة في لحظات نزاعه الأخيرة على الصليب، فإن نص المزمور يروي بالتفصيل الدقيق أحداث الصلب والموت والقيامة، وكأنه يتغنّى بتسبحة الألم ليحوّل الآلام إلى تسبحة خالدة مذهلة تتغنّى بها الأجيال.
هيكل هذا المزمور فريد في نوعه، يراه البعض مرثاة لها قوّتها الخاصّة، ويحسبه آخرون تجميعًا لثلاثة مزامير منفصلة، أو على الأقل لمزمورين: أحدهما مرثاة (1-21)، والآخر شكر (22-31). وهذان القسمان متمايزان عن بعضهما البعض، لاختلافهما من جهة نفسية المرنّم، وأفكاره وأسلوبه، يظن بعض الدارسين أنّهما كُتبا منفصلين بعد اجتياز المرنّم لخبرة رهيبة مُرَّةً، ثم أُضيفا فيما بعد إلى بعضهما لاستخدامهما في العبادة في الهيكل، وقد فُسّرا معًا كمزمور مستقبليّ يحمل فهمًا مسيانيًا.
يتطلّع آباء الكنيسة إلى هذا المزمور كمزمور مسياني، يروى بتناغم وتوافق أحداث الصلب المؤلمة جنبًا إلى جنب مع أحداث القيامة المبهجة. ولهم كل الحق في ذلك، فلا يمكن لمسيحي أن يقرأ هذا المزمور إلاّ ويلتقي بالصلب في حيوية وقوة “النبوءة” (1بط 1: 10-11؛ لو 24: 25-26)، إذ يُحسَب كإحدى النبوات الكاملة عن آلام المسيح واتّضاعه، ولقد ورد من هذا المزمور في العهد الجديد ثلاثة عشر اقتباسًا، منها تسع مرات في قصة الآلام وحدها، وقد اتخذ منه التلاميذ مادة للكرازة بخلاص المسيح وموته وقيامته. بالرغم من شعور المرنّم بالعُزلة التامة وتخلّي الله عنه، إلاّ أنّه يعيش في مملكة السلام. لا نجده يُلمِّح وهو متألم إلى خطيئة ما، ولا ينشد تبرئة لنفسه، ولا هو يدافع قط ضد اتهامات باطلة، كما أنّه لا ينفث غضبًا ضد أعدائه، إذ لا نجد حتى ذكرًا مباشرًا للأعداء، ولا طلب اللعنة عليهم كما في معظم المراثي.
- مزمور لداود: كاتب هذا المزمور، كما يتضح من عنوانه هو داود. لكن موضوع هذا المزمور لا يتحدّث عن اختبار شخصي لداود. وحتى لو حاولنا أن نرى بعض الملامح لاختبار داود من خلال المزمور، لكن هذه الملامح لا تزيد عن كونها ضوء الكوكب الذي سرعان ما يختفي أمام نور الشمس. ومع ذلك نقول إن الذي يرى في هذا المزمور يسوع وآلامه لا يعنيه بعد ذلك أن يرى فيه داود أو سواه. لقد كتبه داود إذًا بروح النبوة. فهو جزء من «الكلمة النبوية» (2بط1: 19). وقد تنبأ أنبياء العهد القديم بالروح عن آلام المسيح الذي، وعن الأمجاد التي تليها (1بط1: 11)، فلا عجب أن يقول الملاك ليوحنا إن «شهادة يسوع هي روح النبوءة» (رؤ19: 10).
لا يعطينا المزمور أساسًا اختبارًا شخصيًا لداود، فبالإضافة إلى أن داود لم يمت مصلوبًا، ولا كانت ميتة الصلب تمارس على عهده، يرجّح أن الرومان أدخلوها بعده بمئات السنين، فإن داود أيضًا لم يُترك من الله؛ أليس هو القائل في مز 37 “أيضًا كنت فتى وقد شخت ولم أر صدّيقًا تُخلّي عنه”. كلا، ليس هذا المزمور اختبار داود، بل هو اختبار المسيح من فوق الصليب. لقد ذكر أحد الشرّاح للكتاب، وهو يهودي متنصر، أن هذا المزمور يحتوي على 33 نبوءة تمّت جميعًا في المسيح وحده. فيا للعجب أن اليهود حتى اليوم لا يرون في هذا المزمور آلام المسيا، تلك الآلام التي تسبق ملكه العتيد على العالم كله. وليس فقط هم لا يرون المسيح فيه، بل إنّه يمثّل لهم حجر عثرة، ويتحاشى الكثيرون منهم قراءته، كما يفعلون أيضًا مع إشعياء 53.
- لكن سوف تنتهي هذه الحياة الحاضرة والمستمرة الآن والتي نسميها “اليوم” (عب: 13)، عندما يأتي الرب، لندخل إلى “الأبد” وذلك «متي ظهر رئيس الرعـاة».
- مزمور مسياني: كما سبق وأشرنا، هنالك مجموعة من المزامير يُطلق عليها “مسيانية “ لأنها تتحدّث عن المسّيا أو المسيح، وهي تلك التي أُخذت منها اقتباسات صريحة ومباشرة في العهد الجديد عن المسيح، ومع أن كل المزامير كما شاهدنا حتى الآن، تتكلّم بصورة أو بأخرى عن المسيح، بل أن موضوعها الرئيسي كالكتاب المقدس، كله هو المسيح، ومع وجودمزامير كثيرة تنطبق على ظروف كاتبها، كما وتنطبق علينا نحن المؤمنين، لأن كل ما كُتب، كتُب لأجل تعليمنا(رو 15: 4)؛ لكن هناك مزامير أخرى في الوحي لا يمكن أن تنطبق سوى على شخص واحد وهو المسيح وحده لا سواه. نذكر على سبيل المثال:
ما ورد في مزمور 16 «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا»، وقد اقتبس كلا الرسولين بطرس وبولس هذه العبارة ليطبقاها على يسوع وحده إثر موته وقيامته، وكان تعليق بطرس الرسول هو أبلغ تعليق “يسوغ أن يُقال لكم جهارًا عن رئيس الآباء داود إنه مات ودُفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبيًا وعلم أن الله حلف له بقسم إنه من ثمرة صلبه يقيمه المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلّم عن قيامة المسيح أنّه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فسادًا” (أع 27:2ـ31). كما علّق عليها الرسول بولس فقال “لأن داود بعد ما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضم إلى آبائه ورأى فسادًا. وأمّا الذي أقامه الله فلم ير فسادًا” (أع 13: 36-37).
وأيضًا ما جاء في مزمور 22 «ثقبوا يديّ ورجليّ»، فلم يحدث ذلك مطلقًا مع داود. فهو إذًا هنا لا يتكلّم عن نفسه، ولا من نفسه، إنما لكونه نبيًا عرف أن من نسله سيأتي المسيح، وأنه سيموت مصلوبًا.
وفي مزمور 68 نقرأ «صعدت إلى العلاء، سبيت سبيًا». هذه الأقوال أيضًا لا تنطبق على داود، فلا داود ولا غيره صعد إلى السماء كقول الرب له المجد «ليس أحد صعد إلى السماء، إلاّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3).
وفي ال مزمور110 نقرأ «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئًا لقدميك». ولقد علّق الرب على هذه الآية وقال «فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة» (مت 22:46-45). وهكذا…
لذلك يحتل المزمور الثاني والعشرين بين مجموعة المزامير المسيانية مكانة خاصّة، إذ يُعتبر بحق قمتها وأكثرها جمالاً وروعة، إنه أيضًا مزمور الصليب أكثر من أي مزمور آخر، نرى فيه بالحقيقة يسوع المسيح وإياه مصلوبًا.
- – هو أحد أضلاع ثلاثية مزامير الراعي: حيث يسمّي بعض المفسّرين مجموعة المزامير (22، 23، 24) بمزامير الراعي، كتبها داود بالروح القدس، ونحن نعرف أن داود بدأ حياته راعيًا للغنم، ثم اختاره الرب ليرعى شعبه إسرائيل (مز 78: 70-72) وقد قاسى خلال حياته الكثير من الآلام، وهو في هذا يرمز للمسيح الراعي الملك المتألّم. وقد تكلّم العهد الجديد عن المسيح، الراعي مستخدمًا ثلاثة ألقاب هي: الراعي الصالح، والراعي العظيم، ورئيس الرعاة، ولقد استخدم الروح القدس في تسجيل هذه الألقاب كلاً من يوحنا الرسول، حيث نقرأ قول المسيح عن نفسه «أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو 10: 11)، ثم بولس الرسول في الرسالة إلى العبرانيّين يكتب “وإله السلام الذي أقام من الأموات راعى الخراف العظيم ربنا يسوع بدم العهد الأبدي» (عب 13: 20). ثم يختم الرسول بطرس هذه الثلاثية مشيرًا إلى ظهور المسيح بالمجد والقوة فيقول في رسالته الأولى 5: 4 “ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى”.
يتضح هنا الارتباط الوثيق بين هذه الثلاثية، حيث جاء المسيح بالنعمة ليفدي البشرية، ذلك المجيء الذي انتهى بموت الصليب، إشارة إلى الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف، لكنه بعد الموت قام وصعد إلى السماء ممجّدًا، وجلس عن يمين الآب وهو هناك باعتباره راعي الخراف العظيم. وأخيرًا سيعود ثانية مستعلنًا بالمجد والقوة، ليعطي الأجرة لعبيده الأمناء، وذلك باعتباره رئيس الرعاة. نجد هذه الأفكار الثلاثة بنفس الترتيب في مزامير الراعي؛ ففي مزمور 23 نجد الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن خرافه الغالية، وفي مزمور 23 نجد الراعي العظيم الذي يعتني بكل خروف من قطيعه، ويحفظهم في هذا العالم المليء بالمخاطر والتجارب، ويرعاهم خلال الحياة المليئة بالاحتياجات، وفي مزمور 24 نجد رئيس الرعاة، الذي هو نفسه «ملك المجد» يظهر ليكافئ الخدام الأمناء الذين اعتنوا بقطيعه العزيز على قلبه.
هذه الثلاثية الجميلة تغطى حياة الرب يسوع بأكملها «أمس واليوم وإلى الأبد»، فبالنسبة للأمس نذكر تجسُّد المسيح باعتباره الراعي الذي أتى من السماء إلى الأرض ليتفقّد القطيع ويرعاه، وذهب وراء الضال يفتش عنه حتى وجده، ثم مضى إلى الصليب كراعي صالح يبذل نفسه عن الخراف. وهو ما يحدّثنا به مزمور22.
لكن الصليب لم يكن النهاية، ونفس المزمور الذي يكلّمنا أساسًا عن الصليب يشير أيضًا إلى القيامة، التي بعدها نرى خدمة أخرى للمسيح؛ كراعي الخراف العظيم المُقام من الأموات، فالذي مات لأجلنا، قام، وهو حي لأجلنا، ولا شك أنه ما كان بوسع أحد أن يخلّص دون خدمة المسيح الراعي، فمن يستطيع بإيمانه أن يستغني عن هذا الراعي العظيم؟!
والعلاقة الثلاثية الجميلة سجّلها موسى في آية في ترنيمته الشهيرة في (خر 15: 13) وهي كالآتي: في مزمور 22 نجد الفداء بالنعمة، وفي 23 نجد الإرشاد بالرأفة، وفي 24 نجدنا في مسكـن قدسه. أو كما في المزمور 73: 24 نجد في مزمور 22 النعمة المخلصة، وفي مزمور23 نجد الراعي الهادي، وفي مزمور24 نجد المجد العتيد.ويلخّص كل مزمور السؤال الآتي: فكأن المسيح في المزمور22:
- مزمور22 لماذا تركتني؟: وحيد منفرد
- مزمور23 أين تُربض؟ وفيه نجده مع أحبائه،
- مزمور24 من هو هذا؟ وهو فوق الجميع.
ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه
ينقسم المزمور كما قلنا في المقدمة إلى ثلاثة أ قسام رئيسيّة
القسم الأول: صلاة عبد الله المتألّم (1-22)
- لكبير المغنيين، دعاء الصباح. مزمور لداود:
- إلهي إلهي لماذا تركتني وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني.
- في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرك ساكنًا،
- وأنت القدوس على عرشك يهلل لك بنو إسرائيل.
- عليك توكل آباؤنا، عليك توكلوا فنجوا.
- إليك صرخوا فأنقذتهم وعليك اعتمدوا فما خافوا.
- أنا دودة لا إنسان يعيرني البشر وينبذني الشعب.
- كل من يراني يستهزئ بي. يقلب شفتيه ويهز رأسه
- ويقول ” توكل على الرب فلينجه، وينقذه إن كان يرضى عنه”.
- أنت أخرجتني من الرحم وطمأنتني على ثدي أمي.
- فأنا من الرحم محسوب عليك، ومن بطن أمي أنت إلهي
- اقترب الضيق ولا نصير لي، فلا تتباعد عني
- أشداء كثيرين يطوقونني كثيران باشان يحيطون بي.
- فاغرين أفواههم علىّ، كأسد مفترس مزمجر،
- كالماء سالت قواي وتفكّكت جميع عظامي، صار قلبي مثل الشمع يذوب في داخل صدري،
- يبست كالخزف قوتي، ولساني لصق بحلقي وإلى تراب الموت أنزلتني.
- الكلاب يحيطون بي زمرة من الأشرار يحاصرونني، أوثقوا يديّ ورجليّ
- ومن الهزال أعدُّ كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرّسون فيّ
- يقتسمون ثيابي فيما بينهم وعلى لباسي يقترعون
- وأنت يا رب لا تتباعد، يا إلهي أسرع إلى نجدتي.
- أنقذني من السيف يا رب، ومن أيدي هؤلاء الكلاب،
- أنقذني من أفواه الأسود ومن قرون بقر الوحش أعنّي
القسم الثاني: صلاة شكر للرب الذي نجَّاه من شدة آلامه (23-32)
- سأخبر باسمك إخوتي وبين الجماعة أهلل لك
- هللوا للرب يا خائفيه مجدوه يا ذريّة يعقوب، استجيروا به يا ذريّة إسرائيل
- لأنه لا ينبذ المساكين ولا يستهين أبدًا بعنائهم، لا يحجب وجهه عنهم ويسمع إن صرخوا إليه،
- 26. أهلل لك في المجامع يا رب وأوفي بنذوري أمام أتقيائك
- سيأكل المساكين ويشبعون ويهلل للرب طالبوه.
القسم الثالث: نشيد ختامي يَنقل أبعاد المزمور من صيغة المفرد إلى الجمع (28-32)
- 28. جميع الأمم تتذكّر الرب وترجع إليه من أقاصي الأرض. أمام وجهه تسجد جميع الشعوب.
- 29. لأن الملك للرب سيد الأمم
- أغنياء الأرض يسجدون له، وأمامه يرتمي العائدون إلى التراب، أمّا أنا فله وحده أحيا.
- ذريّتي أيضًا ستعبد الرب، والأجيال الآتية ستخبر عنه
- وتحدّث الشعب الذي سيولد بما تم على يده من خلاص.
ثالثًا: تفسير المزمور
القسم الأول: صلاة عبد الله المتألّم (1-22)
- لكبير المغنين، على أيلة الصبح (السحر) مزمور لداود
الشخص الرئيسيّ في هذا المزمور هو الملك، وهو المتكلّم هذه المرة فهو يريد أن يبلّغ العالم رسالة هامة سيظل يصدح صداها على مدى الأجيال.
- “أيلة الصبح”؟
ماذا يعني هذا التعبير؟ يرى البعض أن هذا التعبير يشير إلى مجرّد النغمة التي تُستخدم للتسبيح بالمزمور أو توقيت استخدامه في الصلوات الطقسية.يركّز البعض على كلمة “أيل” كوصف لعمل المسيح الفدائي، رمزًا وإشارة إلى آلام القدوس وقيامته. إذ تتألمّ الأيائل الجريحة وهي بريئة ليأتي عليها السحر بالفرج. هكذا تألّم المسيح وجُرح على الصليب، ليعلن مجده في فجر الأحد. وهو كغُفْرِ الأيائل على جبال الأطياب (نش 8: 14)، ومثل الظبية المحبوبة والوعل الذهبي لدى جميع المؤمنين به (أم 5: 19)، ينطق بأقوال حسنة كنفتالي الذي يشبه “أيلة مسبية” (تك 49: 21).يعتقد آخرون كما أنّه بحسب التقليد اليهودي القديم، كان الحمل يُقدّم كذبيحة صباحية بمجرد أن يرى الرقيب من فوق قبة الهيكل أشعة الفجر (السحر) الأولى، فيصرخ قائلاً: “انظروا ها هي أشعة النهار الأولى قد سطعت”. هذا التعبير يعني الشكناه، أي السحابة المجيدة التي كانت تظهر وسط شعب الله. هكذا يتحقّق إشراق الفداء المقدس من خلال آلام المسيح حمل الله في هذا المزمور.
2. إلهي إلهي لماذا تركتني وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني
نداء متكرّر وهو علامة المعرفة الكاملة كما يبدو فيه نوع من اللوم أو العتاب، أو حتى التوبيخ “آدم آدم أين أنت؟ (تك 2) قائين قائين أين أخاك هابيل؟ إبراهيم إبراهيم… إلى العهد الجديد “مرتا مرتا، أنت مضطربة ومهتمة بأمور كثيرة والحاجة إلى واحد. يوجّه النبي المتألّم ندائه هنا إلى الرب الإله الذي يبدو واقفًا بعيدًا، محتجبًا في زمن الضيق. يعرف المرنّم أنّه لا يتأخّر عن نجدته ويكرّر النداء ليعبّر عن دهشته وعتابه على هذا الموقف الذي يحتاج فيه إلى وجود إلهي ساطع ومعلن وصريح، فيهوه وحده المخلّص والمنقذ.
يفتتح داود مزموره الرهيب بوصف كامل لقصة الصلب التي تحقّقت تمامًا وبطريقة حرفية عبر آلام السيد المسيح. ونستطيع القول إن كلمات المزمور الأولى تعلن تكلفة فدائنا: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟! بعيدًا عن خلاصي عن كلام زفيري (عن ثقل خطاياي)”.
ربما يقول أحد إن كلمات الافتتاحية هذه تناقض نفسها، إذ كيف يمكن لأحد أن يقول “إلهي” لذاك الإله الذي ترك عبده؟! إلاّ أنّها صرخة يأس اقتبسها يسوع على الصليب، مظهرًا أنه يختبر ما ورد في هذا المزمور. لقد حُسب -كممثل للبشرية-أنه متروك من الآب إلى حين، لأنه صار لعنة لأجلنا (غل 3: 13)، وصار خطيئة ذاك الذي لم يعرف خطيئة (2 كور 5: 21) حتى لا نعود نحن متروكين من الآب أبدًا. وكما كُتب “لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة أجمعك، بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة، وبإحسان أبدي أرحمك” (إش 54: 7). يشاركنا المرنّم مرارة خبرة الشعور بترك الله لنا. وها هو يصارع حتى الموت، ليقيم من نفسه جسرًا ومعبرًا يقودنا خارج ضيقاتنا منطلقًا إلى حضن الآب. لأنه قد أظهر على الصليب مقدار بُعدنا عن الله وانفصالنا عنه، مع أنّه هو علّة وجودنا كله، “به نحيا ونتحرّك ونوجد”. تدخل بنا هذه الكلمات وجهًا لوجه مع أعماق عمل المسيح غير المُدرَك كحمل حامل لخطايا العالم، هذا الذي وُضع عليه إثم جميعنا. يسوع الذي صار خطيئة لأجلنا، وبخضوع وضع نفسه تحت غضب الآب وكراهيته للخطيئة. “أمّا الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن” (إش 53: 10).
- لماذا تركتني؟
بالعبرية ” لما شبقتني”، إحساس رهيب يولّد شعورًا بالمرارة والحزن، كطفل يفتقد حضن أمه التي لا يعرف غيرها، ولم يذق سوى حنانها ولا يأنس إلاّ لوجودها وينام مطمئنًا بين ذراعيها ويفتح عيناه على مُحيّاها وتتلمّس يداه وجهها المشرق حبًا وحنانًا وتلتقط أذناه صوتها العذب فتطمئن نفسه ويسود السلام عالمه فهل يمكن لأي بديل أن يعوّض ذلك الطفل عن حضن أمه؟ وهل يروي غيرها ما في نفسه من عطش وجوع وحنين إلى موضع راحته؟ هكذا كان النبي في علاقته مع الله وهكذا يجب أن تكون النفس البشرية في علاقتها بخالقها: “ما لي سواك يا سيدي”. فلا شيء أو شخص أو كيان مهما غلا وعلا يمكن أن يكون بديلاً أو أن يحل محل الله، فهو الذي يجوع نحوه كياننا وتعطش إليه نفوسنا وتهفو إليه أرواحنا وبدونه نشعر بخواء رهيب ففراقه يعنى الضياع.
3. في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرك ساكنًا
صلاة النهار تبدأ مع السحر وباكر وتتخلّل كل ساعات اليوم حتى الغروب لتباركه، أمّا صلاة الليل فتُسمّى النوم والستار حتى الفجر لتلتقي بالسحر. هكذا تتواصل صلاة المؤمن ليلاً ونهارًا ويعيش من خلالها في وحدة مع خالقه بكل حياته ووجوده وهوذا النبي يصف نفسه “إني صلاة” وهو في هذه المرحلة، برغم محاولاته الجادة في نهاره وليله، لا يشعر بتعزية وجود الرب وتجاوبه مع صلاته المرفوعة، رغم خروج الصلاة من أعماق القلب والنفس دون ثمّة استجابة، لكنه لا يتوقّف ولا يهدأ ولا يكف عن الصلاة، لأنّها الوسيلة الوحيدة الأكيدة والسراج الأخير الباقي لديه، حيث فقد كل سلطان وجاه وتخلّى عنه الأصدقاء، وحتى قوّته البدنية وتماسكه الجسدي وترابط هيكله العظمي وبهاء وجهه ، يشعر الآن أنها تفارقه ، ولا شيء يمكن أن يرد له سلامه سوى ظهور الله في حياته وتجلّيه وإشراق وجهه ، إعلانًا لفداه وخلاصه من يد العدو حتى يهدأ ويطمئن.
4. وأنت القدوس على عرشك يهلل لك بنو إسرائيل
يعيش النبي المرنّم خبرة صلاته الفردية والجماعية الموجّهة إلى القدوس الجالس على عرش السماء الحاضر في هيكله المقدس ويجمع بين الصورتين بطريقة رائعة، فذاك الجالس في السماء الحاضر في الهيكل يجلس على عرش من الصلوات والتسبيح، وهذه الصلاة يرفعها شعبه إليه لأنه قدوس إسرائيل، وكأن صلاة النبي المرفوعة نحو القدوس الجالس على عرش السماوات ترافق صلاة شعبه، ما أجمل الصلاة وما أجمل تجاوب الله معها وتقبُّله لها وتفاعله معها. إذ يؤكّد النبي أن صلاة شعبه هي الدعامة الأساسية في حياته ويتوجّه بصلاته الفردية إلى ذلك القدوس مذكّرًا إيّاه بأنّه أحد أفراد هذا الشعب الذي اختاره ويرعاه، فلماذا يتخلّى عن رئيس هذا الشعب وهو الذي اختاره ودعاه؟
5.عليك توكّل آباؤنا، عليك توكّلوا فنجوا
يستعرض في محنته تاريخ الخلاص، تاريخ إبراهيم الذي ترك أرضه وعشيرته وأهل بيته واتكل على الله وحده فصار شعبًا وأمة، تتبارك فيه كل قبائل الأرض، ويعقوب الذي صارع الحياة والظروف المعاكسة وعانى خوف الهرب والغربة والخدمة إلى أن نصبه الله إله إسرائيل أبًا للأسباط ومنبعًا فخريًا لكل بني شعبه “الملك أعظم من بيت يعقوب”، ثم يوسف الذي باعه إخوته بثلاثين من الفضة ونزل إلى السجن “فنزل الله مع يوسف إلى السجن ” ونجّاه وأجلسه على عرش مصر. إلى موسى الذي نجا من الموت وانتُشل من الماء وصار لله كليمًا وهو الثقيل اللسان وقال له “أنا أكون في فمك”… ما أجمله من تاريخ وما أروعه من خلاص وما أبهاه من قدوس لم يخذل أبدًا مَن توكّل عليه، هو الذي اتكل عليه الجميع ولم يخزوا فهل سيُخزى النبي الذي وضع عليه اعتماده واتكاله؟
6.إليك صرخوا فأنقذّتهم وعليك اعتمدوا فما خافوا
يستمر النبي في صلاته متأملاً تاريخ شعبه، شمشون، يفتاح وصموئيل، وروعة خبراتهم في تاريخ شعب الله، في سفر القضاة الذي تكرّرت فيه كثيرا “صرخوا إلى الرب” فأرسل إليهم مَن ينجيهم بما يؤكّد حضور الله وسط شعبه وأن أذنه ليست بعيدة عن صراخهم… فهل سيصل اليوم أيضًا ذلك المخلّص والمنجّى أم سيخذل الرب المرنّم ويخزيه أمام أعدائه؟ كل الدلائل والمؤشّرات من خلال تصفُّح النبي المتألّم لخبرة وتاريخ شعبه المقدّس بل وتاريخه الشخصيّ، إلى نجاة أكيدة ” وأنا أعلم أنك تستجيب لي في كل حين” (يو 12:14) وتفيد بأن الله لا ولم ولن يتخلّى أبدًا عن خائفيه والذين يتبعونه.
7.أنا دودة لا إنسان يعيرني البشر وينبذني الشعب
يعود المرنّم إلى حالته الخاصّة فبعد أن استقر على عظمة وبهاء سيرة آباءه وتاريخ شعبه المجيد مع ذاك القدوس، نراه ينظر في مرآة ذاته، فيشعر بالضآلة والضعف والهوان: فمن ذا الملك الذي أنكره ولده وطرده من قصره؟ وأي حاكم طاردته جيوشه التي سلّحها من ماله ودرّبها وأهّلها بجهده وفكره؟ ومَن ذا الذي تخلّى عنه أقرب مستشاريه؟ وخانه الحلفاء وتآمر عليه الأصدقاء؟ مَن ذا الذي جاع وعطش وتعرّى وبات في الطل ولم يكن له موضع يسند إليه رأسه؟ من ذا الذي عانى الخوف والذل والنكران والحرمان وهو مسيح الرب؟ لذا يرى داود نفسه في لحظة الألم تلك، أقرب إلى دودة تزحف على الأرض، مهدّدة حياتها بأن تدوسها الأقدام وتسحقها في أية لحظة، وكذا يشعر السيد المسيح على الصليب في ساعة الظلمة، ذلك الزمن الرهيب، وهو الإنسان ابن الإنسان، الملك بن الملك الممسوح من قِبَل الله، الذي افتقده الرب وكرّمه وكلّله بالمجد والكرامة، وبالروح القدس أيّده… فكيف تحوّل كل هذا المجد إلى هوان؟ كيف أنكره الشعب الذي هلّل له وهتف باسمه وأخبر بحياته؟ كيف احتقره ورزله الجمع الذي هتف له إبان دخوله إلى أورشليم منذ أيام معدودات: أوصانا بابن داود هوشعنا في الأعالي، مبارك الآتي باسم الرب؟ كم تنطبق هذه الآية على المسيح، فهو الذي أُهين وأُذل وكُلل بالشوك وبُصق على وجهه واحتُقر وضُرب بالسياط وبالعصا على رأسه، وسُمِّر على الصليب، خشبة العار، وهاجمه الناس واحتقروه وتخلّوا عنه جميعًا، وحاكموه كمجرم، وقالوا لبيلاطس: “أطلق لنا براباس” وهتفوا “أمّا يسوع فاصلبه”. وهكذا تحقّقت النبوءة في شخص يسوع المسيح الذي قوبل بنكران الجميل والاحتقار والإذلال والمهانة.
- عار عند البشر ومحتقر الشعب
هذه هي كلمات السيد المسيح الذي صار مُحتقرًا ومُهانًا من الشعب، صار في عيني الأعداء مرذولاً من الله، كدودة تدوسها الأقدام! “مَن هو الذي يقول هذا؟ إنّه مبدع الكون القدير “يصرخ القديس أوغسطينوس ويدكر الكتاب أنّه حين مات شاول الملك، رثاه داود بالقول “يا بنات أورشليم ابكين شاول الذي ألبسكن قرمزًا بالتنعُّم”(2صم1: 24). لكن الحقيقة إنّه ليس شاول هو الذي عزّى بنات أورشليم (1 صم8: 13)، بل إن الذي عزاهن كان يسوع:” يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ بل على أنفسكن وعلى أولادكن” وهو الذي كسا البشرية كلها بحلة الكرامة والعز والبنوة حقًا. إنه يسوع المسيح بذبيحته الكفارية الكاملة على خشبة الصليب.
- وأمّا أنا فدودة
الكلمة العبريّة المقابلة لـ “دودة” تولع وهو اسم أحد قضاة إسرائيل (قض 10: 1)، ويُعتبر رمزًا لقاضي إسرائيل الحقيقي، القاضي المرفوض (مي5: 1). وكلمة دودة نطقها بالعبري “تولع“، “cocus” واستُخدم هذا الاسم للإشارة إلى ديدان صغيرة حمراء اللون، تُجمع بهز الشجر الذي تتواجد عليه، وبسحقها تتخضب تمامًا باللون الأحمر القاني كالدم، وُتستخرج من عصرها أفخر أنواع الصبغات الحمراء الزاهية، لذا كانت هذه الصبغة مكلّفة وغالية، وكانت تُصبغ بها خيمة الاجتماع وثياب الملوك والأمراء، ويُشار إليها في نبوءة أشعياء باسم «الدودي» أو «القرمز» (أش 1: 18). مما يذكّرنا برجل الأحزان، الذي لأجلنا داس المعصرة وحده، فصار دامي الرأس والظهر واليدين والرجلين والجنب، من آثار الشوك والسياط والمسامير والحربة. وهكذا سُحق يسوع كما تسحق تلك الديدان حتى نلبس نحن ثياب المجد والبهاء! وهكذا تألمّ السيد ومات حتى تصير خطايانا التي كالقرمز، بيضاء مثل الثلج.
- لا إنسان؟
كيف وهو الإنسان الكامل، ابن الإنسان وابن الله، لماذا وضع نفسه هكذا فصار أقل حتى من مجرد إنسان حتى قال إنه “دودة”؟ هل لأن إنسانيّته قد سُحقت تمامًا تحت أرجل الأعداء الذين امتهنوا كرامته بالهزء والبصق والجلد والسخرية والاشمئزاز وقد أحاطوا به يريدون تحطيمه كآنية خزفية وسحقه ومحوه والقضاء على وجوده الإنساني؟ كما أن الدودة تولد من جسم دون اتصال جسدي، كما جاء المسيح من العذراء مريم؟ فقد وُلد من جسد لكن دون اتصال جسدي أو زرع بشري.
- عار عند البشر ومحتقر الشعب
هذا هو التجسيد الدقيق لِما قاله النبي أشعيا بالوصف المفصّل: “مجروح لأجل خطايانا… وهو لا ينطبق على داود نفسه بقدر ما ينطبق على المسيا، يسوع المسيح الناصري المصلوب، الذي لبسه كثوب وتلفح به كرداء وصار بالفعل حتى يومنا هذا عارًا عند البشر ومحتقر الشعب، وما زلنا إلى يومنا هذا نعاني من مسألة الصلب والضعف والهوان التي عاشها المسيح والتي يرفضها ذهن الكثير من البشر عندما يتكلّمون عن الله فهو ذو الجلال والإكرام.
8.كل مَن يراني يستهزئ بي. يقلب شفتيه ويهز رأسه
يتذكّر النبي الملك الموقّر ما ناله من تعدّى وما عاناه من آلام الذل والاحتقار حتى صار لكل مَن يراه مصدر استهزاء: والسخرية والاستهزاء هم من أقصى أدوات القهر والقتل المعنوي لا سيما حينما يهزأ الحقير من العظيم والعبد من السيد والمملوك من الملك، ولقد كان الاستهزاء ومازال إلى اليوم من أحط مصادر الاهانة وأقلها احترامًا لآدمية الإنسان. حدث هذا مع النبي ومع المسيح الذي رآه النبي بعين النبوءة: مَن يصدق هذا؛ الأغنياء والفقراء، علية القوم والأدنياء، اليهود والأمم، الواقفون والعابرون، كل مَن يرى مسيح الله يستهـزئ به! ويمط الشفاه ساخرًا.
- يقلب شفتيه ويهز رأسه
قلب الشفاه علامة الدهشة والاستهزاء والاحتقار وهي علامة الاحتقار المهين والاستهزاء المطلق بالشخص الذي يُستهزأ به. وهز الرأس يعنى عدم الرغبة حتى في مشاهدة ما ترى وكأنه شيء مقزز وهو علامة على الشماتة والسخرية.
وهذه كلها من تعبيرات الوجه المستخدمة في مختلف ثقافات العالم فالناس يعبرون بها ليظهروا استنكار وتهكُّم. وهكذا عبّر اليهود والرومان بالحركات والقول والفعل عن هذا الاحتقار والازدراء قائلين: “اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سُـرّ به”. يا لقساوتكم أيها الرومان! أما كفاكم حكم الموت الظالم المخالف لقوانينكم “لست أرى في هذا الرجل علّة تستوجب الموت” ويا لبغيكم أيها اليهود! أما تكتفون بقتله مصلوبًا، معلّقًا على خشبة وفي كتابكم “ملعون كل مَن عُلّق على خشبة” حتى يضيف كلاكما إلى جريمته الكبرى، جريمة أخرى أشد قسوة وأعمق جرحًا من الأولى ألا وهي الاستهزاء به؟! لقد انقلبت الموازين الخليقة تحكم على الخالق بالموت، والجبلة تسخر من جابلها وتتمرّد عليه وتقتله، بل ويا للعجب فحتى اللصان اللذان صُلبا معه كانا يعيرانه! والعبارات التي استخدمها أولئك المستهزئون هي نفس العبارات التي سجلّها متى (27 / 27 -44). كأن الأشرار كانوا يتمّمون ما ورد في هذا المزمور، لقد كانوا يردّدون عبارات السخرية القاسية وهم لا يدرون أنّهم وإن كانوا بأيدي أثمة صلبوه وقتلوه، لكنهم كانوا يفعلون مشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أع2: 23)، نعم فعلوا كل ما سبقت فعينت يد الله ومشورته أن يكون على هذا العبد المتألّم أن يحمل خطايا العالم كله على كاهله (أع4: 28).
9. ويقول ” توكل على الرب فلينجه، وينقذه إن كان يرضى عنه”
استكمالاً لأساليب الاستهزاء والإهانة، يعيّرونه بما لا يعيّر به الإنسان، إنّهم يعيّرونه ب ” الاتكال على الله” وكأنّه قد ارتكب جُرمًا بالاتكال على الرب، وكأن الاتكال على الله في هذا الزمان وكل زمان وصمة عار على الذين يمارسونه ويؤمنون به ويحيونه!!! وحيث إنهم قد أوقعوا به في شراكهم الدنيئة فإنهم يواصلون الشماتة والهزأ ويمتد هذا الاستهزاء ليشمل لا الصديق وحده بل الإله نفسه الذي اعتمد عليه واتكل عليه واتبعه طوال حياته… وكأنّهم بشماتتهم يقولون إنّهم غلبوا الله نفسه بقهرهم لأهم أتباعه.
10.أنت أخرجتني من الرحم وطمأنتني على ثدي أمي
تأكيد لما ورد في الأنبياء أشعياء وهوشع، أن معرفة الرب ليست وليدة اليوم، وان دعوته ليست لمجهولي الهوية، فهو خالق الإنسان، يكونه في بطن أمه، ويعرفه وهو بعد في الرحم مجهول الهوية حتى لوالديه، وهو يوفّر له العناية والرعاية ويمده بالحياة ويقوده في مراحل التطوُّر الدقيقة من مجرّد نطفة إلى شخص محدّد الجنس والنوع والهوية، ويخرجه من الرحم موفرًا له فائق العناية.
- وطمأنتني على ثدي أمي
من أجمل وأرق صور الحياة، صور الرضيع على صدر الأم، حيث يرضع ويغفو، فهي تجسيد رائع للإحساس بالشبع والشعور بالأمن والأمان، والراحة والطمأنينة، حيث يمنح الله الأم، أيًا كان خلقها وأخلاقها، حنانًا وحبًا لا يستطيع أحد مقاومتها، ويعطيها نعمة ورحمة حتى لتضحي بحياتها عن طيب خاطر لتفدي وليدها فهي تقدّم له الغذاء من أحشائها وتمنحه من صدرها لبنًا من صميم كيانها يقوده إلى النمو في الحياة حتى يصير قادرًا على مواجهتها. أليس كل هذا من عمل الله.
11. فأنا من الرحم محسوب عليك، ومن بطن أمي أنت إلهي
يستكمل النبي الصديق اعترافه بأنه خليقة الله وصنع يديه وأنه بدونه ما كان له أن يوجد في الحياة، وأنه قبل أن يولد عرفه الرب واختاره لدرجة أنه محسوب عليه أي ينتسب إليه وفى هذا يصدق قول أحد القديسين “والدي أرادا طفلاً أمّا الله فاختارني أنا” لأنه عرفني لذا أنا أنتسب بديهيًا إليه كخليقة، أمّا دعوة المختارين فنعمة خاصّة يتذوقونها وهم بعد أجنة في بطون الأمهات.
يمكن أن تطبّق تمامًا على المسيح: “مباركة أنتِ في النساء ومباركة ثمرة بطنك، فمن أين لي أن تأتى إلى أُم ربى” فهو “ابن الله” ومازال بعد في رحم أمه، محسوب على الله! وحين بلغ صوت سلامك إلى أذني ارتكض الجنين بتهليل في بطني “وهوذا جنين آخر يرتكض مبتهجًا ويسجد لجنين آخر أصغر منه عمرًا لكن أقدم منه سنًا. وهكذا نرى النبي يستشعر معرفة الله له حتى قبل أن يولد بل وينتسب إليه في الوجود، “محسوب عليك”، فأنت الخالق وأنت الآب السماوي وأنت الراعي والمخلّص والفادي…
12-اقترب الضيق ولا نصير لي فلا تتباعد عنى
يقول الحكماء “بارك الله في الشدائد لأنّها عرّفتني صديقي من عدوى”، فوقت الضيق والشدة يظهر معدن الأصدقاء والأقارب والجيران والمحيطين، الذين قد يظهرون أنّهم في علاقة حميمة وصداقة وطيدة وتحالف لا تنفصم عراه وقت الرخاء، لكنهم سرعان ما يتفرّقوا ويختفون عن ساحة الأحداث في لحظة الشدة التي عادة ما يكون الإنسان في أشد الحاجة إلى مساندتهم ودعمهم وعونهم لتجاوز المحنة والضيقات. يقبل المرنّم هجر الأهل والأقارب والأصدقاء والأتباع لكن يطلب من الرب التواجد فوجوده وحده يكفي.
13. أشداء كثيرين يطوقونني كثيران باشان يحيطون بي.
يشعر النبي بأنّه محاصر حصارًا شديدًا من قِبَل أعداء أقوياء بقوة الثيران وهي ما زالت من مقاييس القوة إلى اليوم، وهي قوة باطشة عاتية بهيمية غير مروّضة وغير عاقلة وبهذا يشعر النبي أنّه محاصر وأن هؤلاء الأعداء بتلك القوة الهمجية الحمقاء يحيطون به ويريدون الفتك بحياته.
يُقال إن الثيران عندما تشاهد جسمًا غريبًا فإنّها تحيط به في دائرة، ثم تهجم عليه مع أول حركة أو إشارة، وتعمل فيه نطحًا وتنكيلاً.بدليل الإثارة الشديدة التي تلقاها مصارعة الثيران في أسبانيا والعالم. كما تشتهر منطقة باشان بخصوبة مراعيها، والبقر بها سمين عنيف وينطح بقوة وشراسة، ثيران باشان هنا هم صورة لقادة الأمّة اليهودية صورة للقوة الجامحة والكبرياء المتمرّدة، حكموا على يسوع بالموت! وأحاط رؤساء أمة اليهود بالمسيح لاسيّما طالبين موته، مفضّلين عليه رجلاً قاتلاً. كقول عاموس النبي «اسمعي هذا القول يا بقرات باشان التي في جبل السامرة» (عا1:4).
- أشداء كثيرين يطوقونني
عندما خرجت عُصبة من اليهود مُرسَلة من رؤساء الكهنة ليقبضوا على يسوع: “وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ، ثمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَلكِنَّ هذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ” (لوقا 22) هكذا تمّت في يسوع كلمات هذه النبوءة.
14. فاغرين أفواههم علىّ، كأسد مفترس مزمجر
يستخدم النبي استعارة أخرى من عالم الحيوان أشد قسوة وأوقع هولاً من السابقة؛ فالثور رغم هول قوته إلاّ أنّه غير مفترس، بينما الأسد، حيوان وحشي مفترس فتاك في كل الأحوال وهو ملك الغابة وسيد الحيوانات جميعًا لما يمتلك من قوة وشدة بأس. والعدو كالأسد: فاغر الفم على يسوع يطلب شهادة زور ويشتريها ويسعى لخيانة تلميذ ويدفع ثمنها ثلاثين من الفضة كما سبق الأنبياء وتنبأوا. والفم المفتوح يحوي اللسان الذي يقذف تهمًا باطلة ويلوّك سير الأبرار بالباطل، كما يحتوي الفم على الأسنان التي تمزّق وتقطّع أوصال الفريسة الضحية المسكين بل والأضراس التي تطحن حتى العظام تمهيدًا لأن تبتلعها.
- كأسد مفترس مزمجر
زمجرة الأسد كفيلة يأن ترعب فرائسه وتشل حركتها فلا تعود قادرة حتى على الهرب. وعندما يفغر الأسد فاه ليفترس تتجلّى أنيابه الرهيبة التي بها يمزّق فرائسه… وهكذا يشعر النبي أمام أعداءه فاغري الأفواه الذين يفترسونه بأفواههم ويمزّقونه بأنيابهم ويمضغونه بضروسهم.
15. كالماء سالت قواي وتفكّكت جميع عظامي، صار قلبي مثل الشمع يذوب في داخل صدري،
يواصل النبي وصف حالته الجسدية والنفسية:
- كالماء سالت قواي
كالماء سالت قواي: وإن كان الماء سائل الحياة فهو أكثر السوائل شيوعًا وأسهلها وأسرعها انسكابًا لذا يشعر النبي بتلاشي قواه وعدم قدرته حتى على الوقوف.
- وتفكّكت جميع عظامي
الهيكل العظمي هو أقوى عناصر الجسم البشري وأكثرها صلابة وهو بقوته وترابطه وتماسكه يشكل بنيان الإنسان الخارجي. فإذا ما تفكك الهيكل العظمي يصير الشخص بلا هيئة ولا قوام ولا قدرة على الحركة. وانفصال العظام كلها يعني أنه لم يصبح للجسد أي شكل على الإطلاق! هكذا يصف شدة الألم التي يشعر بها حيث لم يتبق في المسيح عظمة واحدة في مكانها، وذلك بالصلب. تحقيقًا للنبوءة «كان منظره كذا مفسدًا أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم» (إش52: 14).
- مثل الشمع يذوب في داخل صدري
مثل الشمع وهو يتحدّث عن شمع عسل النحل سريع الذوبان والانصهار أمام أبسط درجات الحرارة، فما الحال أمام نيران تلك الحرب المتأجّجة ولهيب هذا الحصار المحكم الأشد من حرارة النار.
هكذا وصل الحال بمسيح الرب القوي المدعوم بمسحة الروح القدس، أسد سبط يهوذا، ذاب قلبه في يوم حمو غضب الله (نا1: 7). يتحدّث المرنّم عن يوم ظهور الرب فيقول «ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب قدام سيد الأرض كلها» (مز5:97). وليس فقط الجبال ستذوب في ذلك اليوم، بل تفكر في مصير الخطاة الآثمين الذين رفضوا محبته والإيمان بصليبه. يقول الكتاب «لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم». (زك12:14).
فإذا أضفنا الشمع الذائب إلى الماء المهرق والعظام المنفصلة نحصل على ثلاثية تؤكّد فكرة؛ عدم وجود هيئة ولا كيان محدّد للمسيح المصلوب، ليس خارجيًا فقط، بل وداخليًا كـذلك (ع15). مرة أخرى ذاك الكلي القدرة «هو. شديد القوة. من تصلب عليه فسلم. المزحزح الجبال ولا تعلم، الذي يقلبها في غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها. الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم. الباسط السماوات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب، فاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تعد» (أي9: 4-10)
وعندما يقول المسيح “كالماء انسكبت” فهذه صورة لمنتهى الضعف؛ لأنه هل توجد صعوبة في سكب الماء؟ إن أضعف شخص بوسعه أن يفعل ذلك. وعندما ينسكب الماء يتبعثر إلى جهات شتى ويستحيل جمعه، كما أن سرعة الماء تزداد مع سقوطه، وليس فيه إمكانية للتماسك، ولا العودة إلى وضعه الأول. وكل هذا صورة للضعف المتناهي. لكن الماء المهراق ليس فقط صورة للضعف بل أيضًا لاستحالة جمعه من جديد. لقد أهرق وتبعثر وانتهى الأمر. قالت المرأة التقوعية لداود “لأنه لابد أن نموت ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يجمع أيضًا»” (2صم14:14). هكذا ظن الأعداء أنّهم تخلّصوا من المسيح إلى الأبد، وأن أمره انتهى كالماء المهراق. أليس عجيبًا أن ذاك الذي اسمه دهن مهراق (نش1: 3)، من أجلي ومن أجلك صار كماء مهرق! في يوم الصلب العصيب ذاب قلب المسيح في داخله.
16. يبست كالخزف قوتي، ولساني لصق بحلقي وإلى تراب الموت أنزلتني
يواصل النبي وصف حالته الجسديّة والنفسيّة:
- يبست كالخزف قوتي
صناعة الفخار من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان وكانت الأواني الفخارية هي كل ما يُستخدم سواء في الطقوس الدينيّة أو البيوت، وهي تعتمد على نوع معين من التربة يشكل طينًا هينًا لينًا طيعًا لدنًا قابل للتشكيل والصياغة، لكنه عندما ييبس ويصير فخارًا أو عندما يدخل إلى الأفران فيخرج خزفًا، يصبح شديد الصلابة لكن سهل الكسر، فإن كانت للنبي قوة وشدّة صلابة إلاّ أنّه بسبب يبوسته الروحيّة صار سهل الكسر والسحق والإبادة.
ذاك الكلي القدرة «هو. شديد القوة. من تصلب عليه فسلم. المزحزح الجبال ولا تعلم، الذي يقلبها في غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها. الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم. الباسط السماوات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب، فاعل عظائم لا تُفحَص وعجائب لا تُعَد» (أي9: 4-10) ها هو يقول يبُست مثل شقفة قوتي!! مجرد شقفة سهلة الكسـر.
- ولساني لصق بحلقي
اللعاب هو ما يحفظ للفم رطوبته وهو يبتلع تلقائيًا لكن ثبت علميًا وبالاختبارات النفسيّة أن اللعاب يجف من الحلق وفي حالات العذاب أو الخوف الشديد أو الضعف والوهن والمرض… والتصاق اللسان بالحنك هو تعبير عن حالة الجفاف والعطش والهلع والرعب التي يعاني منها النبي لدرجة عدم استطاعته بلع ريقه أو حتى تحريك لسانه داخل فمه. أمّا لسانه، فإنّه من سعير النيران التي تحملها قد لصق بحنكه. وإننا مرة أخرى نتساءل؛ مَن هذا الذي نراه هنا بحنك يابس؟ إنه الذي كال بكفه المياه (إش40: 12)، الذي يروي أتلام الأرض وبالغيوث يحلّلها (مز65: 10). إنه المفجّر عيونًا في الأودية بين الجبال تجري، تسقي كل حيوان البر، تكسر الفراء ظمأها (مز104: 10،11). ولقد صار حنكه يابسًا من هول ما احتمل من سعير رهيب. ويقول أحد القدّيسين: “إن نار الله التي نزلت في أيام إيليا وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه (1مل18: 38)، هي التي احتملها بديلنا القدوس على الصليب”. فهو خروف الفصح الحقيقي الذي لم يكن يطبخ بالماء بل يشوى بالنار (خر12: 8،9). وهذا هو فعل النار فيه. وهو إن كان أتى على كل نيران غضب الله وأمكنه أن يقول «قد أكمل»، لكن بعدها مباشرة حانت لحظة النهاية.
- وإلى تراب الموت أنزلتني
الإنسان مصنوع من التراب إليه يعود بالموت، والنزول إلى التراب الموت ونهاية حياة الإنسان، الفاعل في الموت ههنا هو الله، لهذا فالفعل هنا في صورة المخاطب، فبعد أن وصف النبي حالته الشخصيّة والجسديّة وعبّر عن مخاوفه وتوجساته، مازال يؤمن أن الله وحده هو من ينزل إلى الموت والجحيم ويصعد…!
17. الكلاب يحيطون بي، زُمرة من الأشرار يحاصرونني، أوثقوا يديّ ورجليّ
يعود من جديد لوصف حالته فهو محاصر بالعدو الذي تمكّن منه تمامًا وألقى أيديه عليه، وقنصه وسيطر على حركته ووضعه تحت الأسر وقام بربطه بالحبال علامة المذلة والهوان إذ يسوقه العدو كحيوان بلا حرّيّة أو إرادة أو اختيار. سبق في آ13 أن قال “أحاطت بي ثيران” وهي تمثِّل قادة الأمّة الإسرائيليّة، أمّا هنا فيقول “أحاطت بي كلاب” وهؤلاء يمثّلون الأمم (مت 26:15) مشيرًا إلى جُند الرومان وهناك فارق بين الكلب والأسد، فالكلاب تعض وتمزّق بأنيابها، أمّا الأسد فإنه يفترس ويقتل. هكذا تلذّذ جُند الرومان بجلد يسوع، أمّا قادة الأمّة اليهود فلم يكن يرضيهم أقل من قتله. وكانوا كالنعامة أمام بطش الرومان لكنهم استأسدوا مجتمعين على حمل الله الوديع! فأتوا به مربوطًا إلى الوالي ليحكم عليه بالموت لأنهم كشعب مستعمر لم يكن لمحاكمهم الخاصّة سلطة إصدار أحكام بالإعدام، فأتوا به إلى الرومان وطالبوا الموت صلبًا مع أن قوانين الرومان لم تك لتحكم على إنسان بالموت لعلّة مثل التي قدّموه بها…لكن الحاكم الروماني غسل يديه.
- ثقبوا يدي ورجلي ّ
ما أقسى عملية الصلب. فأن تثقب اليدين والرجلين، هذه المناطق الممتلئة بالأعصاب الحّساسة، التي عندما تتهيّج ينتج عنها آلام تفوق الوصف، تعبِّر عنها لا إراديًا تحرّك كل عضلات الوجه، ناطقة بقسوة الألم وقد جاوز الحد. هاتان اليدان اللتان لم تكلا مطلقًا من فعل الخير وشفاء المتعبين، والرِجلان اللتان حملتاه عبر طرق العالم المتربة المتعبة وصولاً لكل بائس محتاج. ماذا فعل بهـا البشر؟ سمّروها فوق الخشب؟! آه ما أقسى أيادي صنعت هذا العجـب! الكنيسة لا تنسى مطلقًا موت الصلب، سيظل موته الفدائي على الصليب موضع فخر وشكر وعرفان “حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب الرب” ( ) وستحيا ذبيحته كوصية عزيزة نتغذّى عليها ونصنع ذكراها في كل يوم وفي كل أول أسبوع في سر القربان المقدس، ” كلما أكلتم …” هكذا تخبر الكنيسة كل يوم بموته وقيامته إلى أن يجيء. عشية يوم القيامة ظهر لتلاميذه وأراهم يديه ورجليه (لو 24: 39،40)، ولازال يرينا نفس هذا المنظر الأثير. بل إننا عندما نصل إلى المجد سنراه كخروف قائم كأنه مذبوح، وهناك أيضًا لن ننسى موت الصليب!
والنظرة إلى الصليب والمصلوب أنواع: فهناك النظرة المحيية: (الحية النجاسية.عد21: 8، يو3: 14،15)، المخلصة “التفتوا إلي واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض” (إش45: 22). وهناك نظرات الأشرار الوقحة في يوم الصلب، لكنها نظرة مهلكة ستجلب على أصحابها أشد الويلات؛ نتذكّر قديمًا أن أهل بيت شمس تجاسروا في جهل وعدم إيمان ونظروا إلى التابوت، تلك القطعة المقدسة في بيت الله التي ترمز وتشير إلى المسيح، فمات منهم الآلاف الكثيرة (1صم6: 19). ولما جاء رب المجد نفسه، في يوم ضعفه، علقوه على الصليب، وأخذوا ينظرون ويتفرّسون فيه بجسارة ووقاحة. لكن حمدًا لله، فكما تنبت الزنبقة البيضاء الطاهرة وسط الأوحال، هكذا أيضًا بين، وكان هناك فريق آخر له النظرة المقدسة، فيخبرنا لوقا أن جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل كانوا واقفين من بعيد ينظرون ذلك (لو23: 49). ونحن أيضًا مع هذا الفريق ننظر ونتفرّس خلال اسبوع الآلام، لكن ما أبعد الفارق بين نظرات الشماتة والجحود، ونظرات التعبُّد والسجود لهذا المصلوب.
19. يقتسمون ثيابي فيما بينهم وعلى لباسي يقترعون
ثم يقول المسيح: «يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» ولقد أشير إلى هذا العمل في كل البشائر (مت27: 35، مر15: 24، لو23: 34، يو19: 24). وكما يقول أحد القديسين: “لقد قدّر هؤلاء العسكر اللباس ولم يقدّروا صاحبه. عرفوا قيمة الثوب غير المخيط، المنسوج من فوق إلى أسفل، ولم يعرفوا ما كان يصنعه المصلوب إذ كان ينسج للإنسان العاري ثوب بر إلهي بغير خياطة بشرية. “ويا للمفارقة الكبيرة بين آدم الذي جلب على نفسه وعلى نسله العري والعار، بل الهلاك والدمار، وبين آدم الآخر الذي لأجلنا تعرّى كيما يكسو عرينا برداء البر الثمين، ويمتّعنا بالحُلة الأولى كيما نسعد معه في بيت الآب إلى أبد الآبـدين.
20. وأنت يا رب لا تتباعد، يا إلهي أسرع إلى نجدتي
يختم المسيح كلامه في هذا القسم الأول بهذا القول ولقد سبق أن أشرنا إلى أن القسم الأول من المزمور (آ1-22) يصوّر لنا آلام المسيح الثلاثية المصدر: من الله والإنسان والشيطان. وها المسيح في ختام زفرات الألم يلخّص تلك الآلام طالبًا من الرب إلهه أن ينقذه من ثلاثة أمـور:
- أنقذ من السيف نفسي: إنه سيف العدل الإلهي؛ سيف لهيب النار الذي نقرأ عنه في تك: 24، وزك13: 7.
- من يد الكلب وحيدتي: من شراسة إنسان الأمم وعلى رأسهم بيلاطس البنطي الدي يمثّل الأمة الرومانية.
- خلّصني من فم الأسد: من بطش الشيطان، الذي هو كأسـد زائر.
من هذه الثلاثية القاسية طلب المسيح النجاة؛ أي ينجو من عدالة الله، وقساوة الإنسان، وبطش الشيطان. فسمع له الله من أجل تقواه (عب 5: 7).
21. أنقذني من السيف يا رب، ومن أيدي هؤلاء الكلاب
السيف يعني الحرب والهلاك والموت بالسيف أهون وأشرف من موت الصليب الذي يحاكم به العبيد وقد مات بولس الرسول بالسيف لأنه مواطن روماني، بينما حُكم على بطرس في نفس المكان والزمان بالموت صلبًا لأنه يهودي.
22.أنقذني من أفواه الأسود ومن قرون بقر الوحش أعنّي
كما سبق وشرحنا ففم الأسد هو علامة السقوط الأكيدة وهو النهاية المحتومة ويشير إلى قوة الشيطان الجبارة التي كادت أن تلتهم ابن الله البار القدوس.
- قرون بقر الوحش
القرون علامة القوة في الثيران وهنا يقدّم ثيران متوحّشة غير مروّضة، قادرة بقوتها البهيمية وطول قرونها أن تمزّق وتفتك وتقتل، إشارة إلى رؤساء إسرائيل الذين عرفوا رب المجد، لكنهم لم يقبلوه ولم يمجّدوا الله ولا راعوا شعبهم وخيرهم الأبدي بل تمسّكوا بما هو أرضي زمني.
القسم الثاني: صلاة شكر للرب الذي نجَّاه من آلامه (23-27)
23.سأخبر باسمك إخوتي وبين الجماعة أهلّل لك
بينما رأيناه على الصليب وحيدًا، لا نراه هكذا بعد، بل يظهر وسط إخوته. في يوم قيامته قدّم الرسالة المفرحة: “اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يو 20: 17). نسمعه يخاطب تلاميذه كإخوته في يوم قيامته بعدما اجتاز آلامه. فإننا إذ نتقدّس بعمله الخلاصي (آلام الصليب)، ليس فقط لا يخجل بل يُسر جدًا أن يدعوهم هكذا “إخوته” (عب 2: 12).
وفي هذا يقول القديس أثناسيوس الرسولي: إننا أقرباء الرب حسب الجسد، لذا يقول: “أخبر باسمك إخوتي” (عب 2: 12؛ مز 22: 22). وكما أن الأغصان واحدة مع الكرمة (الأصل) وهي منها (يو 15: 1) هكذا نحن أيضًا جسد واحد متجانس مع جسد الرب، ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا (يو 1: 16)، ولنا هذا الجسد كأصل لقيامتنا وخلاصنا.
24.هللوا للرب يا خائفيه مجّدوه يا ذريّة يعقوب، استجيروا به يا ذريّة إسرائيل
هللوا أي افرحوا وابتهجوا وتهللوا يا من لم تخافوا من سطوة العدو وجبروته الذي بدا كأنه انتصر ووأد كل أحلامكم وقضى على كل رجاء فيكم، بل وسحقكم حتى العظم ودفنكم بعد أن عذبكم وظن أنه انتهى من أمركم، وأنتم لم تخافوه رغم كل ذلك بل ظللتم أوفياء: “للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” فلم تنحوا ولم تستسلموا ولم تشكوا وإن صرختم واستجرتم فأجاركم ونزل لخلاصكم فعيشوا في الفرح والتهليل فقد عبرتم المحنة وغسلتم ثيابكم في دم الحمل.
25.لأنه لا ينبذ المساكين ولا يستهين أبدًا بعنائهم، لا يحجب وجهه عنهم ويسمع إن صرخوا إليه
كيف ينبذ المساكين وهو الذي صار مسكينًا أكثر من جميع البشر وذاق من الذل والهوان ما لم يبلغه إنسان في تاريخ البشرية، وهو لا يستهين بعنائهم بل يدافع عنهم ويحاسب ظالميهم، ها هو يعود فيشرق عليهم بنور وجهه ولن يبقى محتجبًا بل سرعان ما سيجيبهم عندما يصرخون نحوه ويطلبوه.
26. أهلل لك في المجامع يا رب وأوفي بنذوري أمام أتقيائك
خرج المرنّم من حالة الصراخ والبكاء والاستغاثة والاستجارة ليعود من جديد لتلك الصورة المحببة إلى قلبه أكثر من أي شيء آخر، صورته في هيكل الرب “واحدة طلبت…” (مز…) ها هو يترك الصليب وينسى الألم ليدخل إلى بيت الرب بالفرح والتهليل يقف مع الأتقياء وسط الأبرار يقدم الشكر والهتاف وينحر ذبائح الحمد والتهليل.
27. سيأكل المساكين ويشبعون ويهلل للرب طالبوه
يعود إلى مشهد الرحمة والفرح في مز 23:” أعددت أمامي مائدة…” وتشمل المائدة الممتدة كل أنواع الشبع الجسدي والروحي، وقد حقّق الرب وعده في المسيح ذلك السيد الذي أرسل عبيده إلى الطرقات ليجمعوا كل من يلاقون ويلبسونهم حُلة العُرس ويجلسونهم على المائدة ليشاركوا السيد فرحة الخلاص الممتدة والمفتوحة للجميع ويشبعون، ومن ثم ينطلقون في ترنيمة فرح ونشيد تهليل… هكذا حوّل الرب حزنهم إلى فرح: ” طوبى للحزانى فإنهم يتعزون” وجوعهم وعطشهم إلى شبع وارتواء: “طوبي للجياع والعطاش فإنهم يشبعون”، وهؤلاء المساكين المحبوبون من الله المرزولون من البشر سيأكلون ويشبعون ويهللون.
القسم الثالث: نشيد ختامي يَنقل أبعاد المزمور من صيغة المفرد إلى الجمع (28-32)
28. جميع الأمم تتذكّر الرب وترجع إليه من أقاصي الأرض. أمام وجهه تسجد جميع الشعوب
جميع الأمم وليس شعب الله العبراني المختار، لأن خلاص الله يشمل الجنس البشري كله، وهذه نبوءة عن خلاص الله الذي يشمل كل البشرية التي تصالحت مع الله بدم ابنه ورجعت إليه بجميع شعوبها لتسجد له معترفة بربوبيته ولاهوته ومن ثم سيادته وملكوته.
- أقاصي الأرض
هو نفس التعبير الذي استخدمه الرب يسوع بعد قيامته من الموت منتصرًا، حيث نراه يرسل تلاميذه ك “شهود” على تلك القيامة ليس إلى اليهودية والجليل والسامرة فحسب، بل إلى أقاصي الأرض.
29. لأن الملك للرب سيد الأمم
المُلك للرب وهو سيد الأمم وهو إله الآلهة وملك الملوك ورب الأرباب، هو الرب والسيد الذي افتدى شعبه وخلّصه، لذلك فهو يعلن نفسه سيدا وربًا لا لشعب داود فحسب بل لكل شعوب الأرض.
30.أغنياء الأرض يسجدون له، وأمامه يرتمي العائدون إلى التراب، أما أنا فله وحده أحيا.
السجود لذلك الإله القوي المخلّص، سيشمل جميع طبقات الشعب: الفقراء والمساكين -أحباء الله المختارين دومًا-بل سيشمل الأغنياء أيضًا أغنياء الشعب، بل كل أغنياء الأرض.
- وأمامه يرتمي العائدون إلى التراب
بني البشر خلائق الله التي صنعها من تراب الأرض، والتي بسبب الخطيئة وحكم الموت “أنت تراب وإلى التراب تعود” صار أمامهم بالخلاص الذي تم الفرصة للخلاص وذلك بالارتماء والسجود أمام قوة الله وخلاصه.
- أمّا أنا فله وحده أحيا
بينما يسجد أغنياء الأرض ويرتمي الموتى المتهالكون والعائدون إلى التراب، أمام الرب خاضعين وساجدين، يحيا النبي ولا يموت بل يحيا ولكنه هذه المرة لا يحيا لنفسه بل لله الذي أحبه وافتداه باذلاً دم ابنه الثمين فداء عن الجميع لذلك فكم يقول القديس بولس “إن عشنا… ولكيلا يحيا إنسان بعد لنفسه…
31.ذريّتي أيضًا ستعبد الرب، والأجيال الآتية ستخبر عنه
هذا هو مستقبل شعب الله، فالذرية تعني المستقبل والاستمرارية والدوام… إنها باختصار تشير إلى الأبدية ودوام الذكر وهذا يعني أن العلاقة مع ذلك الرب القوي ستظل حية لا تعرف غروبًا، إذ ستخبر بها الذرية الآتية نسلها القادم وهكذا يظل ذكر الرب حيًا كما كان هكذا يكون من جيل إلى جيل وإلى دهر الداهرين.
32.وتحدث الشعب الذي سيولد بما تم على يده من خلاص
لا يكتفي المرنّم بالتأكيد على أن ذريته أيضًا ستعبد الرب، بل يتجاوز ذلك كما سبق وأوضحنا، بل يتكلّم عن الأجيال التي ستولد من جيل إلى جيل بما تم من خلاص الرب وعمله العظيم هو الذي لا يخيب رجاء من يطلبونه ولا ينقض عهده مع الذين وثقوا فيه واتبعوه.
رابعًا: تطبيق المزمور
- كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور؟
الملك الذي ينشد هذا المزمور هو يسوع المسيح. فهو وحده كان قريبًا من الله الآب (لو 10: 21؛ 15: 11) ودفعته قوى الشر إلى الموت (رو 6: 9)، فانتصر عليها وقام بالمجد والبهاء (عب 2: 9) وظهر عمل الخلاص في حياته بالقيامة، فنالت كل الشعوب البركة على يديه. (غل 3: 14). أنشد يسوع بداية هذا المزمور وهو على الصليب فتشكَّى إلى الآب، معلنًا ثقته بمحبّته وحمايته له حتى في عالم الموت، ومعبّرًا عن اتحاده الكامل بالله الذي لا يترك حبيبه يمسّه الفساد. صلاة على الصليب تنطبق عليه وحده وكأنها وضعت لأجله.
- إلهي إلهي لماذا تركتني وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني: بالكامل والكمال تنطبق هذه الآية على الرب يسوع وبالكاد تنطبق عليه وحده لذا كان هو من صلاها على الصليب وذكرت في جميع الأناجيل.
- § في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرك ساكنًا: صلى يسوع في بستان الزيتون الليل كله وأثناء المحاكمة وعلى الصليب… لكن بدا الأمر كأن الله سكن ساكت صامت لا يستمع ولا يستجيب.
- بعيدًا عن خلاصي: هذا هو الخوف الحقيقي، البعد، والانفصال، فماذا يقول الله عن نفسه؟ “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”، فما موقف الغصن مهما عظم؟ لا قيام ولا حياة ولا خلاص له بعيدًا عن مصدر حياته، وحيث يشعر النبي أن الله قد تركه، يتنهد حسرة ويزفر آلمًا ودمًا ودمعًا، يشعر باليبوسة والجفاف يتسرب إلى كيانه حين يرى أن الله قد ابتعد عنه، فهو إذن هالك لا محالة ولا يملك سوى الصلاة، نداء إلى ذلك الإله القدوس الذي طالما اختبر وجوده في كل لحظات حياته على مدار العمر. “أعرف أنك معي وأنك تستجيب لي في كل حين”، فلماذا أدعوك فلا تستجيب ولماذا أطلبك فلا تُخلص؟ ولماذا أصرخ فلا تسمع؟ لماذا تقف بعيدًا؟ لماذا تتوارى في زمن الضيق؟ (مز10). حقًا ردّد يسوع هذا المزمور على الصليب وصرخ بكلماته الأولى وهو مجروح الفؤاد وهو مسحوق الجبين.
- عن كلام زفيري: كلام الزفير في اللغة هو الكلام الذي يخرج مصحوبًا بزفرات الأنفاس تعبيرًا عن مشاعر عميقة لا تكفى الكلمات لوصفها فيعبّر عنها القلب تلقائيًا بزفرات حارة، يمكن أن يصحب الزفير الكلام في حالة السخط والغضب أو الحزن والآلام. بينما يشعر بلهفة الكلام في حالة الفرح والدهشة. وحالة المرنّم في هذا المزمور هي الحزن الحقيقي والألم العميق الذي ينم عن شعور بغياب الحضرة الإلهية والنور الذي يقوده والسند الذي طالما اتكل عليه. عاش المسيح حياته في وحدة مع الأب “أعرف أنك معي ، أنا و الآب واحد، أنا في أبى و أبى في” وكان يقضى الليل كله في الصلاة وفى كل عمل كان يمجّد الأب، وفى كل بشارة كان يحدّث الجموع عن ذلك الآب السماوي الحنون الرحيم الغفور… لم يشعر أبدًا أنه وحده، وحتى على الصليب كان يعرف أن الأب موجود، بدليل أنه كان يخاطبه طوال الوقت، ويعرف أنه لن يتركه، ولن يسلم إلى الهاوية حياته، كما يدرك أن تلك اللحظات إنما هي كأس مر، يستطيع الآب ، بل يستطيع الرب يسوع الابن نفسه أن يعبره ويتخطّاه، لكنه تنازل عن إرادته ليتمّم مشيئة أبيه ويشرب الكأس المريرة حتى آخر قطرة ليظل حيًا وممجدًا إلى الآبد .
- أنت القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل: يعيش يسوع القدوس المعلّق على خشبة الصليب تلك الصورة السماوية السرمدية فهو الابن الوحيد في حضن الآب وهو من رأى ويخبر عن عرش السماوات ما أجمل هذه الصلاة وما أجمل تجاوب الله لها وتقبله إياها وتفاعله معها. إذ يذكر يسوع أن صلاة شعبه هي الدعامة الأساسية في حياته ويتوجّه بصلاته الفردية إلى ذلك القدوس مذكّرًا إيّاه بأنه أحد أفراد هذا الشعب الذي اختاره ويرعاه، بل رئيسه ومسيحه المختار، فلماذا يتخلّى الله عنه رئيس هذا الشعب وهو الذي اختاره ودعاه؟
- وأنت القدوس على عرشك يهلل لك بنو إسرائيل: بشر يسوع إبان رسالته بذلك الآب السماوي القدوس الذي في السماوات والذي تتوجّه له عيون شعبه تترجّاه فيستجيب.
- عليك توكّل آباؤنا، عليك توكلوا فنجوا: توكل يسوع على أبيه كل حين كما يتوكل كافة الأنبياء والآباء والصديقين، وقد نجّاهم الرب من جميع مضايقهم. لذا يأمل البار المعلق على الصليب عريانًا أن ينال نفس المصير.
- إليك صرخوا فأنقذتهم وعليك اعتمدوا فما خابوا: صرخ يسوع بصوت عظيم كما سبق آباءه فصرخوا، وتوكل واعتمد كما سبق فاتكلوا واعتمدوا ولم يخافوا من مواجهة الصعوبات والمخاطر … وقد قدّم يسوع كل هذه المسوغات راجيًا النجاة. يستمر يسوع في صلاته متأملا ًتاريخ شعبه، فهل سيصل اليوم المخلّص والمنجى أم سيخزيه الرب أمام أعدائه، أم سيصر هو خلاص وحياة لكل البشرية، كل الدلائل والمؤشرات من الخبرة والتاريخ تفيد باستحالة وقوع ذلك، فالله لا ولم يخذل ولم يتخلى أبدًا عن خائفيه.
- اما أنا فدودة لا إنسان: تنطبق هذه الآية كنبوءة عن السيد المسيح فهو الذي أهين وأذل وكللوه بالشوك وبصق على وجهه واحتقر وضرب بالسياط وبالعصا على رأسه وسمر على الصليب خشبة العار واحتقره الناس، يلخص الرب يسوع كل آلامه ومعاناته على الصليب بهذه الكلمات، حيث يريد الأعداء أن يفقدوه الشعور بآدميته بامتهان كرامته الإنسانية، وشعوره أنه مكروه ومحتقر ومرزول من الأتباع ومهجور ومتروك، ومنبوذ من الله والشعب الذي افتداه وقدسه بدمه.
- الناس الذين هتفوا أوصانا هوشعنا بابن داوود مبارك الآتي باسم الرب، هاجموه وتخلوا عنه جميعًا، فصار كمجرم، وقالوا لبيلاطس أطلق لنا براباس وهتفوا أما يسوع فاصلبه. فالمسيح قد يلقى الكثير من الاحتقار والإذلال والمهانة ونكران الجميل يرى نفسه في لحظة الألم أقرب إلى دودة منه إلى إنسان، تدوسه أقدام الطغاة، وهو الإنسان ابن الإنسان ابن الله القدوس الذي أحبه الرب وأكرمه وبالمجد والكرامة كلله وبالروح القدس مسحه، فكيف تحوّل كل هذا المجد إلى هوان وكيف أنكره الشعب.
- عار عند البشر ومحتقر عند الشعب: يعود يسوع إلىحالته الخاصّة وهو معلق على الصليب فبعد أن استقر عن عظمة آبائه وبهاء تاريخ شعبه مع ذلك القدوس، ينظر في مرآة ذاته فيشعر بضآلته وضعفه وهوانه حيث أنكره تلاميذه وتخلّى عنه أقرب أتباعه وباعه بثلاثين من الفضة، وخانه الرؤساء وتآمر عليه الكتبة والشيوخ ورؤساء الكهنة، ضرب وشتم وُكلل بالشوك وتعرى وعطش عانى من الإذلال، والنكران وهو مسيح الرب.
- كل من يراني يستهزأ بي يقلب شفتيه ويهز رأسه: حدث كل هذا مع يسوع في ساعة الصلب: استهزأ به الجنود قائلين ” سلام يا ملك اليهود وبصقوا عليه وكللوه بالشوك وسخرية من كونه ملك اليهود وصلبوه معلقين إياه على خشبة وكان كل العابرين يسخرون منه ويقلبون الشفاه ويهزون الرؤوس قائلين: اتكل على الرب فلينجيه.
حدث هذا بالفعل كما يذكر الإنجيلين وقت الصلبوت بالوصف الدقيق والكلمات والحركات.
- ويقول ” توكل على الرب فلينجه وينقذه إن كان يرضى عنه”: تمّت حرفيًا هذه النبوءة ونطق الناس بهذه العبارة نفسها على المسيح وهو معلّق على الصليب قائلين: إنه ينادى إيليا! لننتظر لنرى هل يأتي إيليا ويخلّصه؟ وكانوا يسخرون منه ويستهزئون مطالبينه بالنزول عن الصليب إن كان يستطيع أن يخلّص نفسه باتكاله على الله.
- أنت أخرجتني من الرحم: ما أروع انطباق هذه الآية على الرب يسوع فهو قبل أن يُحبَل به في الرحم وحين بشّر به الملاك أمه البكر مريم محسوب ابن الله القدوس وقد حلّ الروح القدس على أمه لتحمل به فكيف لا يكون محسوبًا عليه وهو بعد في الرحم من بطن أمه وقد شعر به يوحنا المعمدان وهو بعد جنين فارتكض بالتهليل. وقالت اليصابات: “مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك فمن أين لي أن تأتى إلى أم ربى ” فيسوع وهو بعد في رحم أمه محسوب على الله “ابن الله”.
- وطمأنتني على ثدي أمي: تعتبر صورة يسوع على صدر مريم من أجمل الصور التي يعتز بها المسيحيون فهي أمه أم يسوع وأم الله. ولم ينس المخلّص في آلامه على الصليب ماض حياته المجيد في صحبة أمه منذ الحبل به بقوة الروح القدس في بطن العذراء ولم ينس أن يوصي بأمه الواقفة بجواره تحت الصليب عند التلميذ يوحنا.
- فأنا من الرحم محسوب عليك ومن بطن أمى أنت إلهي:
يسوع محسوب على الله أي ينتسب إليه وهو بعد في بطن أمه كقول الملاك “ابن العلي يُدعى” وهو بعد جنين لم يتجسّد في بطن أمه العذراء القديسة.
- اقترب الضيق ولا نصير لي، فلا تتباعد عني: عرف يسوع قبل أن يرى بأم عينه لحظة اقتراب الضيق بل تنبأ بها لتلاميذه: “تتركوني وحدي” وقبلها لأنه يعلم ويؤمن أنه لن يكون وحده: ” لأن أبي هو معي”.
- أشداء كثيرين يطوقونني كثيران باشان يحيطون بي: أحاط به الأشداء والحرس والجُند والولاة ولم يفلتوه من قبضتهم حتى قبضوا عليه ظانين أنهم انتهوا منه إلى الأبد.
- فاغرين أفواههم علىّ، كأسد مفترس مزمجر: فغروا الفم وصاحوا بالفعل اصلبه اصلبه، وفغروا الفم وقدّموا شهادة زور، وفغروا الفم ونطقوا بأقذع الألفاظ وفغروا الفم وأصدروا حكم الموت. كم من الفظائع ارتُكبت من فم البشر نحو يسوع!
- كالماء سالت قواي وتفكّكت جميع عظامي، صار قلبي مثل الشمع يذوب في داخل صدري: حدث هذا مع يسوع كما سبق ووصفنا في الشرح فقد فاق ألمه جميع أوصاف البشر وتحقّقت فيه نبوءة : “أحصوا كل عظامي”.
- يبست كالخزف قوتي، ولساني لصق بحلقي وإلى تراب الموت أنزلتني: نزل يسوع إلى تراب القبر بالفعل بموته على الصليب، لكن تلك لم تكن النهاية فقد بقيت لله كلمة القيامة والنصر والغلبة.
- أوثقوا يديّ ورجليّ: أتوا بيسوع موثقًا إلى الوالي وأرسله الوالي موثقًا وإلى عامود الجلد أوثقوه وأمام السنهدريم وبيلاطس وهيرودس كان موثقًا.
- ومن الهزال أعدُّ كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرّسون فيّ: لم يحترم اليهود والمارة جلالة المشهد بل ظلّوا يحدقون بيسوع على الصليب ويتفرّسون فيه باحتقار وامتهان.
- يقتسمون ثيابي فيما بينهم وعلى لباسي يقترعون: ذُكرت هذه الآية حرفيًا في جميع الأناجيل ولم تتحقّق في حياة أحد سوى يسوع.
- وأنت يا رب لا تتباعد، يا إلهي أسرع إلى نجدتي: كان هذا طلب يسوع على الصليب فهو مستعد لمواجهة كل قوى الشر وكل الصعاب وكل المحن مادام يشعر أن الله قريب منه، قادر على رؤيته وسماعه حين يصرخ.
- سأخبر باسمك إخوتي وبين الجماعة أهلل لك: ينتقل بنا المزمور في هذا الجزء إلى عالم آخر، عالم الفرح في وسط جماعة الإخوة، وهو ما سبق ليسوع أن عاشه وسط التلاميذ والجموع وأخبرهم عن الآب علانية وكشف لهم أسرار ملكوت السماوات… وهو ما عاشه بعد القيامة ” اذهبي وأخبري إخوتي”.
- أهلل لك في المجامع يا رب وأوفي بنذوري أمام أتقياءك: عاش يسوع هذه المرحلة إبان وجوده وخدمته على الأرض وسط جماعة التلاميذ.
- سيأكل المساكين ويشبعون ويهلل للرب طالبوه: حقّق يسوع في حياته وأوصى بعد قيامته ودعا الجميع إلى وليمته حول مائدته وقدّم ذاته جسدًا ودمًا طعامًا وشرابًا عن حياتهم وأوصاهم: “كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس، تبشّرون بموتي وتعترفون بقيامتي وتذكروني إلى أن آتي.
- جميع الأمم تتذكّر الرب وترجع إليه من أقاصي الأرض. أمام وجهه تسجد جميع الشعوب: بذبيحته على الصليب وبإرساله لتلاميذه بعد القيامة إلى أقاصي الأرض، حقّق يسوع هذه النبوءة عن أخوّة عالمية وبنوّة إلهيه لجميع أبناء البشر. بحيث صار “الملك للرب سيد الأمم”. وسجدت له الملوك والرؤساء والنبلاء وكل أغنياء الأرض “أغنياء الأرض يسجدون له”.
- وأمامه يرتمي العائدون إلى التراب: سيقف أمام منبره الرهيب للمحاكمة كل البشر لأنه الديّان الذي سيدين العالم وأمام عرشه سيقف جميع البشر.
- المسيح الملك: حيث أنه منتسب إلى الله من بطن أمه فهو ابن الله وهو ملك “يملك على بيت داود إلى الأبد ولا يكون لملكه انقضاء” (لو 1: 33)، إنه “الملك“، تجلّى ملكه منذ البشارة به إلى صعوده على الصليب حيث عرفه اللص اليمين كملك وسأله “اذكرني يارب متى جئت في ملكوتك”. ومملكة المسيح الروحية مكونّة من كل الشعوب والأمم. وكما يقول القديس بولس: “ناظرين إلى… يسوع، الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي فجلس عن يمين عرش الله” (عبرانيين 12: 2).
- أمّا أنا فله وحده أحيا: عاش يسوع في أبيه في وحدة كاملة لدرجة جعلته يقول ” أنا في الآب والآب فيّ”وتمّم في جسده مشيئة مَن أرسله، فصار بحياته وموته وقيامته حياة لكل مَن يؤمن به.
- ذريّتي أيضًا ستعبد الرب: سلم يسوع وديعة الإيمان إلى الرسل وأرسلهم ليكونوا “شهودا” وهم أسّسوا الكنائس في كل مكان وسلّموها تلك الوديعة التي ظلّت تتناقل من جيل إلى جيل “والأجيال الآتية ستخبر عنه” وتظل الكنيسة “تحدّث الشعب الذي سيولد بما تم على يده من خلاص”. وتحدّث الشعب الذي سيولد بما تم على يده من خلاص.
- كيف نعيش هذا المزمور كمسيحيين
إذا كنّا في هذا المزمور نرى تصويرًا لآلام المسيح وهو فوق الصليب، فكم يكون هذا المزمور كريمًا وثمينًا بالنسبة لكل مؤمن. كيف لا وهو يُفتتح بالعبارة الذهبية التي نطق بها المسيح من عمق الألم والظلمة في الجلجثة. فالمسيح إن كان قد نطق بفمه بأولى عبارات هذا المزمور، فإنه لا شك قد أكمل بقيته بروحه. ونحن إن كنا نجد في الأناجيل تسجيلاً للوقائع التي تمّت في الجلجثة، فإننا في المزامير، ولا سيّما هذا المزمور نجد تسجيلاً لمشاعر المسيح الجريحة وأحزانه الدفينة وهو يجتاز آلام وأحزان الجلجثة.
أنشدت الجماعة المسيحية الأولى هذا المزمور على ضوء آلام يسوع، فرأت في تلك الآلام إرادة الله تتحقّق كما أعلن الانبياء سابقًا. (مت 27: 39-43): “وكان المارَّة يهزّون رؤوسهم ويشتمونه… وعيّره اللصان المصلوبان معه أيضًا”. وقال يوحنا (19: 24): “اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا”. وذكر آباء الكنيسة عبارة مستوحاة من المزمور فقالوا على لسان المسيح: “ثقبوا يدي ورجلي، وأحصوا كل عظامي”. وقالت الرسالة إلى العبرانيين (5: 7) عن المسيح إنه “رفع الصلوات والتضرُّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر أن يخلّصه من الموت، فاستجاب له لتقواه”. ونحن المؤمنين نصلي هذا المزمور فنكتشف عواطف يسوع المسيح (فل 2: 5) ونفهم معنى آلامنا ونعرف أننا إذا أردنا أن نكون له شركاء في التعزية، فيجب علينا أن نكون شركاءه في الآلام.
بالنسبة إلى الإنسان المسيحي يعتبر هذا المزمور صلاة كل متألم وكل من يعاني، حيث يعيش المؤمن في الكثير من لحظات حياته هذا الشعور الصعب المخيف ويسمّيها الآباء الروحيين “لحظات الجفاف الروحي” حيث لا يشعر المؤمن لا بالتعزية ولا بثمرة الصلاة ، ولقد عاشت القديسة تريزا دا فيلا هذه الخبرة لسنوات عديدة ، وكانت تزفر وتصرخ وتتألم بلا مجيب ، لكنها لم تتوقّف أبدًا عن الصلاة ، هكذا نحن المسيحيين مهما شعرنا بغياب الله وعدم سماعه أو عدم استجابته لصلاتنا فلا يجب أن نتوقّف أبدًا أو نكف عن الصلاة ،” صلّوا في كل حين بلا ملل”.
- إلهي إلهي لماذا تركتني وامتنعت عن نجدتي وسماع أنيني: تنطبق هذه الآية على الكثير من المواقف في حياة الإنسان المسيحي وبالكاد لا تخلو حياة أي إنسان على الأرض من آلام وضيقات لذا نصليها في أوقات الضيقات.
- § في النهار أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرك ساكنًا: هكذا يصلّي الإنسان المسيحي ليلاً ونهارًا، مهما شعر من جفاف ومهما عانى من صمت الله، فالمهم هو أن يظل مواظبًا على الصلاة في كل حين ليل نهار بلا كلل أو ملل.
- وأنت القدوس على عرشك يهلل لك بنو إسرائيل: اختلفت مشاعر الإنسان المسيحي عن الآب السماوي القدوس الذي في السماوات والذي تتوجّه له عيون شعبه تترجّاه فيستجيب، عن مشاعر إنسان العهد القديم فهذا كان عبدًا أما ذاك فصار ابنًا.
- عليك توكل آباؤنا، عليك توكلوا فنجوا: يتوكل الإنسان المسيحي إلى أبيه كل حين ويتكل عليه كما توكّل كافة الصديقين، وقد نجّاهم الرب من جميع مضايقهم. لذا يؤمن الإنسان المسيحي ويرجو أن ينال نفس المصير.
- إليك صرخوا فأنقذّتهم وعليك اعتمدوا فما خافوا: يصرخ الإنسان المسيحي بصوته في الصلاة كما سبقه يسوع وآباؤه ويتضرّع إلى الله الآب وقد توكل واعتمد عليه وحده فلا يعود يخشى مواجهة الصعوبات والمخاطر.
- وأنا دودة لا إنسان: يحيا الإنسان المسيحي، كما الرب يسوع، كل آلامه ومعاناته بهذه الكلمات، حيث يريد الأعداء أن يفقدوه الشعور بآدميته وذلك بامتهان كرامته الإنسانية، وإشعاره بأنه مكروه ومحتقر ومرزول ومهجور ومنبوذ من الجميع، لكنه لا يستسلم أبدًا.
- كل من يراني يستهزئ بي يقلب شفتيه ويهز رأسه: كما ذكر الإنجيليون كثيرًا ما يحدث هذا بالفعل في حياة المسيحي بالوصف الدقيق والكلمات والحركات.
- ويقول ” توكل على الرب فلينجه، وينقذه إن كان يرضى عنه”: تمت حرفيًا هذه النبوءة ويسوع معلق على خشبة الصليب ونطق الناس بهذه العبارة. وهو نفس ما يلقاه المسيحي المتكل على الله في العالم الذي يرفض إتباع أساليب وفلسفة هذه الدنيا ويتمسّك بشريعة الرب، يسخرون منه ويطالبونه أن يتوقّف عن هذه السذاجة.
- أنت أخرجتني من الرحم وطمأنتني على ثدي أمي: يسير الإنسان المسيحي ويحيا في صحبة الرب منذ الحبل به في بطن أمه، ولا ينسى عناية الله به حتى لحظة موته.
- فأنا من الرحم محسوب عليك، ومن بطن أمي أنت إلهي: ما أروع انطباق هذه الآية على الرب يسوع وعلى حياة الإنسان فالمسيحي في المسيح، خليقة جديدة تنمو وتتألق حسب صورة خالقها الذي جعلنا بنين لا عبيد.
- اقترب الضيق ولا نصير لي، فلا تتباعد عني: يعرف المسيحي لحظة اقتراب الضيق بل ويقبلها لأنه يعلم ويؤمن أنه لن يكون وحده: “لأنه إن كان الله معنا فمن علينا”.
- أشداء كثيرين يطوقونني كثيران باشان يحيطون بي: يحاط الإنسان المسيحي بأشداء هذا العالم عالم الظلمة، يحاربه ويقاومه ويحاول جاهدا إغواءه ولا يفلته من قبضته حتى يقضي عليه ظنًا انه انتهى منه إلى الأبد.
- فاغرين أفواههم علىّ، كاسد مفترس مزمجر: يفغر إبليس وعالمه الشرير أفواههم ليقضوا على أبناء الله، أبناء النور ويقامونهم ويصفونهم بأقذع الألفاظ، يبغون افتراسهم والقضاء عليهم لكنهم مفتدون ومحفوظون في دم يسوع.
- كالماء سالت قواي وتفكّكت جميع عظامي، صار قلبي مثل الشمع يذوب في داخل صدري: يحيا الإنسان المسيحي كل هذه الآلام مشاركًا الرب يسوع بإيمان وطيد: ” إننا إن تألمنا نتمجّد أيضًا معه”.
- يبست كالخزف قوتي، ولساني لصق بحلقي وإلى تراب الموت أنزلتني: بنزول الرب يسوع إلى تراب القبر بالفعل بموته على الصليب، يهب كل مسيحي الرجاء بأن تلك لن تكون نهايته فهو عضو في المسيح الذي هو القيامة والحياة.
- أوثقوا يديّ ورجليّ: يحاول العالم دومًا ربط الإنسان المسيحي بالكثير من مغريات الحياة ليقيّد حركته، لكنه بارتباطه بالمسيح قد صار ابنًا لا عبدًا ووارثًا لا أجيرًا إذ يتمتّع بحرية أبناء الله ولا يستطيع العالم إزاءه شيئًا.
- وهم ينظرون ويتفرّسون فيّ: لا يحترم العالم ولا أبناؤه الإنسان المسيحي بل يحتقرونه ويتفرّسون فيه باحتقار وامتهان ويحاولون بكل جهد إثناءه عن طريق الحياة، يسوع المسيح الذي قال ” أنا الطريق والحق والحياة”.
- وأنت يا رب لا تتباعد، يا إلهي أسرع إلى نجدتي: كان هذا طلب يسوع وهو نفس طلب الإنسان المسيحي في كل أوان فهو مستعد لمواجهة كل قوى الشر وكل الصعاب وتحمُّل كل المحن مادام يشعر أن الله قريب منه، قادر على رؤيته وسماعه حين يصرخ.
- سأخبر باسمك إخوتي وبين الجماعة أهلل لك: يدخل الإنسان المسيحي عالم الفرح في وسط جماعة الإخوة، لذا فهو سعيد وفخور بإيمانه بل مستعد ومتأهب أن ينقله إلى جميع إخوته عبر العالم. لذا فالكنيسة مُرسَلة وكل مسيحي هو مُرسَل إلى جميع إخوته في العالم أجمع.
- أهلل لك في المجامع يا رب وأوفي بنذوري أمام أتقيائك: يعيش الإنسان المسيحي هذه الحالة من الغبطة والتهلل والسرور إبان وجوده وخدمته على الأرض وسط جماعة الإخوة ويبارك الرب بالترنيم والتهلبل والتسبيح والقرابين والذبائح والمحرقات.
- سيأكل المساكين ويشبعون ويهلل للرب طالبوه: تتحقّق في حياة الإنسان المسيحي هذه الرغبة في الوليمة بالتواجد حول مائدة الإفخارستيا حيث يقدّم الرب ذاته جسدًا ودمًا طعامًا وشرابًا عن حياة كل مَن يؤمن به، ” كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس، تبشّرون بموتي وتعترفون بقيامتي وتذكروني إلى أن آتي”.
- جميع الأمم تتذكّر الرب وترجع إليه من أقاصي الأرض. أمام وجهه تسجد جميع الشعوب: تتحقّق فينا هذه النبوءة نحن المؤمنون المسيحيون من أصل غير يهودي، الذين قبلوا ذبيحته على الصليب مما جعلتنا نحيا في بنوة إلهيه وبالتالي أخوّة عالمية لجميع أبناء البشر. بحيث صار “الملك للرب سيد الأمم”. وسجد الجميع أمامه ما في السماء وما على الأرض وما تحت الأرض، جميع الطبقات من الفقراء والملوك والرؤساء والنبلاء وكل أغنياء الأرض “أغنياء الأرض يسجدون له”.
- وأمامه يرتمي العائدون إلى التراب: يعلم الإنسان المسيحي أن الكل سيقف أمام منبره الرهيب للمحاكمة، لأنه الديّان الذي سيدين العالم وأمام عرشه يقف الناس جميعًا.
- أمّا أنا فله وحده أحيا: يعيش الإنسان المسيحي في أسرة وحدة مع أبيه السماوي ويتمّم في حياته وصلاته وأسرته ومعيشته مشيئة الله أبيه، فتصبح حياته كلها ملكًا لله.
- ذريّتي أيضًا ستعبد الرب: كما استلم المسيحي وديعة الإيمان فقد صار” شاهدا” للرب وقيامته في كل مكان وبالتالي يتحتمّ عليه أن يسلّم وديعة الإيمان إلى ذريته التي تظل تتناقلها من جيل إلى جيل “والأجيال الآتية ستخبر عنه” وتظل الكنيسة “تحدّث الشعب الذي سيولد بما تم على يده من خلاص”.
خامسًا: المزمور في فكر وأقوال الآباء
تنقسم أقوال آباء الكنيسة القديسين حول هذا المزمور إلى قسمين: المسيح المتألّم والمسيح الممجّد.
أولاً: المسيح المتألّم
نشير هنا إلى أن القديس يوستينوس كان أول من طبَّق آ 17 من هذا المزمور على صلب المسيح راجعًا إلى الترجمة السبعينية. ويوستينوس هو ابن نابلس (شكيم القديمة) في فلسطين، والمدافع الأول عن الديانة المسيحية خلال القرن الثاني. كتب الدفاع الأول والدفاع الثاني، ثم الحوار مع اليهودي تريفون ومات شهيدًا في روما مع ستة من رفاقه سنة 165 على الأرجح. هذا بعض ممّا يقوله في دفاعه الأول (38: 4-6) عن آلام المسيح وقيامته مستلهمًا هذا المزمور: “حين يكلّم الروح النبوي المسيح، فهذا ما يقوله: ألقوا القرعة على لباسي وثقبوا رجلي ويدي. رقدت ونمت، ثم نهضت لأن الرب اهتم بي. وأيضًا: حرّكوا الشفاه وهزّوا الرؤوس قائلين: ليخلّص نفسه. نلاحظ هنا أن يوستينوس يبدأ بالآية 19 قبل آ 17 من المزمور ليتتبع آلام يسوع في الزمان. ثم يقحم مز 3: 6 بين آيات المزمور 22. أمّا الكلمة “ليخلّص نفسه” فكلام الفرّيسيّين كما أورده الإزائيون مستلهمين المزمور وسيعود يوستينوس إلى المزمور 22 فيفسّره تفسيرًا موسعًّا في حواره مع تريفون (ف 97- 106). حيث يبدأ فيبيّن لليهود الذين يرفضون القول إن هذا المزمور تحقّق في المسيح، إنهم لم يعرفوا في تاريخهم ملكًا ثقبت يداه ورجلاه ومات في هذا السرّ، أي سر الصليب، إلاّ يسوع وحده. وهكذا يطبّق يوستينوس المزمور كلّه على يسوع. فيطبّق آ 3 على صلاة يسوع في بستان الزيتون. والتلميح إلى الجهل يدلّ على أن المسيح كان عارفًا أنه سيقوم. كما إن آ 6 “عار عند البشر وسفالة في الشعب” تعني أن المسيح عار لنا نحن الذين نؤمن به. هو سفالة في الشعب لأن الشعب رذله وحقَّره فاحتمل المعاملات السيّئة التي فرضوها عليه. ويشرح أيضًا آ 8 كما نقرأها في المزمور: “الذين نظروا إليه مصلوبًا هزّوا الرؤوس وحرَّكوا الشفاه”. أمّا الرجاء من ثدي أمي (آ 10) فترجعنا إلى حماية الله ليسوع يوم قُتل أطفالُ بيت لحم. والكلام عن اللسان الملتصق بالحنك هو نبوءة عن صمت يسوع أمام بيلاطس. والآية 12 كالآية 5 تدلّ على أن المسيح اتّكل على الله وحده. أمّا الثيران والعجول فهم اليهود وأبناؤهم الذين هجموا على المسيح في بستان الزيتون. والأسد الزائر هو هيرودوس أو الشيطان. والمياه الجارية (آ 15) تدلّ على عَرق الدم وقت النزاع. قرون الثور هو صورة عن الصليب. السيف والكلاب وفم الأسد تدلّ على الشيطان الذي يريد أن يستولى على النفس ساعة ترك الجسد. فقد قال في “حواره مع تريفون” (97: 3-4): “وفي مقاطع أخرى يتكلّم داود أيضًا عن الآلام والصلب: ثقبوا يدي ورجلي وأحصوا كل عظامي. لاحظوني ونظروا إليّ، اقتسموا ثيابي وعلى لباسي اقترعوا. فحين صلبوه شكوا المسامير في يديه ورجليه وثقبوها. والذين صلبوه اقتسموا ثيابه واقترعوا على ما أراد أن يختاره” (أش 65: 2). نعتبر أن التقليد رأى في بداية المسيحيّة رجلاً مربوط اليدين والرجلين (مت 22: 13؛ أع 21: 11).
يقول القديس غرغوريوس النزيزى: لم يكن المسيح متروكًا من الآب ولا من لاهوته كما يظن البعض، أو كما لو كـان خائفًا من الآلام فانفصل بلاهوته عن ناسوته أثناء آلامه…؛ وإنما كما قلت إنه كان ينوب عنّا في شخصه. نحن كنّا قبلاً متروكين ومرذولين، أمّا الآن فبآلام ذاك الذي لا يسوغ له أن يتألم (حسب اللاهوت) أقامنا وخلّصنا.
يقول القديس أغسطينوس: ماذا يعني ربنا؟ الله لم يتركه إذ هو نفسه الله… فلماذا استخدم هذه الكلمات لو لم نكن نحن حاضرين (فيه)، لأن الكنيسة هي جسد المسيح (أف 1: 23)؟ ماذا يقصد بقوله: “إلهي إلهي لماذا تركتني” إلاّ أن يستلفت أنظارنا، قائلاً لنا: “هذا المزمور إنما كُتب عني؟”.
ويضيف القديس أغسطينوس: الصلاة التي نطق بها يسوع ليست صلاة رجل بار، إنما تليق بمن حمل الخطايا. من يُصلي هكذا هو ذاك الذي يسُمّر على الصليب إنساننا العتيق الذي لا يُدرك حتى لماذا تركه الله.
ويقول القديس أمبروسيوس: بكونه إنسانًا يتكلم حاملاً مخاوفي، فإننا إذ نكون في وسط المخاطر نظن أن الله قد تركنا. لهذا كإنسان اكتئب، وكإنسان بكى، وكإنسان صُلب. صنع المسيح نفسه هذا (صرخ على الصليب) كي نتعلّم أنه حتى النفس الأخير يكرم أبيه، وأنه ليس ضد الله.
يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: أجاب المخلّص المصلوب على هذا السؤال بنفسه، قائلاً: “أنت القدوس” هذه هي الإجابة: القداسة الإلهية؛ لأنه كان يجب أن يسدّد بالكامل ثمن الخطيئة، الثمن الذي لا يمكننا إدراكه. فقداسة الله تكشف الفرق الشاسع بين عظمة الله وبيننا نحن. خلال الصليب صرنا ملتصقين بالله الذي لا يُدنى منه، إذ ننال الشركة مع الابن الذي هو بِرُّنا وتقديسنا، وفيه نصير قديسين. يُظهر المزمور صورة الصليب بآلامه وعاره. ويقول المرتل إن آباءه اتكلوا على الرب أمّا حالته فميئوس منها، لأنه دودة لا إنسان. بهذه الكلمات صار السيد المسيح مهانًا ومُحتقرًا من الشعب. وصار في عيون الأعداء مرزولاً من الله، كدودة مداسة بالأقدام! الكلمة العبرية المقابلة لـ “دودة” تُستخدم للحشرة الصغيرة cocus التي يستخرج منها الصبغة القرمزية اللون أو الأرجوانية، تنتج عن موت الحشرة. هذا اللون كان لازمًا في خيمة الاجتماع. هكذا مات السيد المسيح حتى تصير خطايانا التي كالقرمز بيضاء كالثلج. الآن لا أتكلم كآدم، إنما أنا يسوع المسيح أتحدّث باسمي الخاص. لقد وُلدت حاملاً الجسد البشري دون زرع بشر، حتى بكوني إنسانًا أصير فوق البشر؛ بهذا أُخضع الكبرياء البشري بامتثالهم لاتضاعي.
يتساءل القديس أغسطينوس لماذا “لا إنسان”؟ لأنه هو الله. لماذا وضع نفسه هكذا حتى قال إنه “دودة”؟ هل لأن الدودة تولد من جسم دون اتصال جسدي، كما جاء السيد المسيح من العذراء مريم؟ فقد وُلد من جسد لكن دون زرع بشري.
وقد استخدم العلامة ترتليان هذه الآية في مناظرته ضد أتباع فالنتنيان. منكري ناسوت المسيح قائلاً: “إنهم ينكرون ناسوت المسيح، هذا الذي أعلن عن نفسه أنه “دورة لا إنسان”، والذي قال عنه إشعياء النبي أيضًا: “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع… وكمستَّرٍ عنه وجوهنا، محتقرٌ فلم نعتدَّ به” (إش 53: 3).
ويرى القديس باسيليوس الكبير في كلمات المرتل داود “أنا دودة لا إنسان” دعوة للاتضاع، إذ يقول: “هل احتقرك (إنسان) واستخف بك؟! اذكر أنك قد خُلقت من التراب (تك 3: 19)… إن دعاك وضيعًا، حقيرًا، كلا شيء، قل في نفسك إنك تراب ورماد. فإنك لست أعظم من أبينا إبراهيم الذي اعتاد أن يستخدم هذا الأسلوب نفسه (تك 18: 27). إن قال لك عدوك إنك حقير وشحاذ وتافه، قُل في نفسك مع داود: “أنا دودة” وُجدت في الحمأة”. هكذا في اتضاع ندرك حقيقة ضعفنا، لكي بالإيمان نتمتّع بكرامة مسيحنا المتضع، ونُحسب أولاد الله مكرّمين بين السمائيين!
يرى القديس أغسطينوس: في “عار عند البشر ومحقر الشعب” اتضاعي جعلني موضع سخرية البشر، فيستطيعون القول باستخفاف وبروح الإساءة: “أنت تلميذ ذاك” (يو 9: 28)، وهكذا يقودون الغوغاء إلى احتقاره. “يفغرون الشفاه” إشارة إلى فتح الفم أو الضحك… “يُنغِضون الرأس” علامة الاستهزاء بحركة الرأس. في الحركتين استهزاء وسخرية (مت 27: 39؛ مر 15: 29). فقد حسبوه شريرًا، ومجدفًا على الله، كاسر السبت، شرِّيب خمر، نبيًا كذابًا، عدوًا لقيصر، متحالفًا مع سلطان الشياطين.
يقول القديس كيرلس الأورشليمي: “لأنك أنت جذبتني من البطن” مشيرًا إلى أنه وُلد بغير زرع بشر، بكونه أُخذ من بطن العذراء وجسدها، لأن أسلوب الولادة (هنا) مختلف عن أسلوب أولئك الذين يولدون عن طريق التزاوج.
يشرح القديس أغسطينوس: كيف يظهر مقاوموه -في المزمور -بوضوح أكثر من أي شيء آخر كعلّة لآلامه [6، 7، 8، 12، 13، 16، 17، 18]. وقد استخدم المرتل حديثًا مَجازيًّا لوصف أعدائه: الثيران، الكلاب، الأسود، قادة اليهود الأشرار الذين اضطهدوا السيد المسيح كثيرانٍ وأسود متعجرفة بغيضة، وآخرون أقل منهم في المراكز شبههم بالكلاب، الدنسة، الجشعة، لا يكفون عن الحط منه. أمّا الأسد فهو الشيطان نفسه، وهو العدو الحقيقي: “خلّصني من فم الأسد”. هذا المقاوم الخطير الذي له سلطان الموت قد تحطم بالموت (1 بط 5: 8؛ 2 تي 4: 17؛ عب 2: 14). ويضيف القديس أغسطينوس: “أنا نفسي كنت فريسة الأسد، عندما أمسك بي وقادني للموت، وهو يزأر: “اصلبه اصلبه” (يو 19: 6)”.
يفسّر العلامة أوريجانوس: “تبعثرت كل عظامي”. بالرغم من أن عظام جسمه لم تتبعثر، ولم يُكسر منها واحدة. لكنه إذ تحقّقت القيامة، قيامة جسد المسيح الكامل الحق، فإنه يجتمع معًا أعضاء جسد المسيح الذين يكونون في ذلك الوقت عظامًا جافة، كل عظم من عظمه، فيلتصق الكل ويرتبط معًا (لأن مَن كان عاجزًا عن الترابط معًا لن يبلغ الإنسان الكامل)، وهكذا يبلغون إلى قياس ملء قامة المسيح. حينئذ يصير الأعضاء الكثيرون جسد واحد، مع كثرتهم يصير الكل أعضاء الجسد الواحد. يرى كثير من الآباء أن المؤمنين الحقيقيين -عظام السيد المسيح – حتى إن ضعفوا في لحظات الضيق والاستشهاد لكن نعمة الله تسندهم، ولا ينكسر واحد منهم. عظام السيد المسيح هي إيماننا الداخلي به، فإننا كثيرًا ما نئن عندما تشتد التجربة، صارخين في أعماقنا: “إلى متى يارب تنساني؟!… إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أردّد هذه المشورات في نفسي وهذه الأوجاع في قلبي؟” (مز 13: 1-2). كأن الله قد فارقنا أو إيماننا قد ضعف… لكن سرعان ما يعمل الله فينا بنعمته لنكمل صرخات المرتل: “يبتهج قلبي بخلاصك” (مز 13: 5)، معلنين أن عظامه فينا لا تنكسر وإن تبعثرت إلى حين!
ويرى العلامة أوريجانوس: أن هذه العظام من الجانب الرمزي تشير إلى تلاميذ السيد المسيح وجماعة المؤمنين فقد تبعثروا في ضعف في لحظات الصلب لكنه بالقيامة اجتمعوا كجسد واحد لم تنكسر منه عظمة واحدة.
البابا أثناسيوس الرسولي: مؤكدًا تخصيص المزمور للحديث عن الرب يسوع، عندما تسمع النبوءات الخاصة بموته تسأل: ماذا يُقال عن صليبه؟ … “ثقبوا يدي ورجلي. أحصوا كل عظامي” هذا عن موت يتحقّق برفع الشخص وتعليقه على شجرة، ولا يمكن أن يتحقّق إلاّ بالصليب. أيضًا ثقب اليدين والرجلين لا يتم بموتٍ آخر غير الصليب.
القديس جيروم “وهو مجروح لأجل معاصينا” (إش 53: 5). ويقول المزمور “ثقبوا يديّ ورجلي”، لكي يشفي جراحاتنا بجرحه. “مسحوق” أي “ضعيف”، “لأجل آثامنا” (إش 53: 5). لكي يخلّصنا من الإهانة باحتماله الإهانة.
ويختم القديس أغسطينوس صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي ترمز أحشاؤه إلى الضعفاء في الكنيسة. كيف صار قلبه كالشمع؟ قلبه هو إنجيله، أو بالأكثر حكمته المذخرة في الكتب المقدسة. الكتاب المقدس مغلق لا يفهمه أحد. عندما صُلب ربنا ذاب الكتاب المقدس مثل الشمع، فصار حتى الضعفاء قادرين على الدخول إلى معانيه. لذلك انشق حجاب الهيكل (مت 27: 15)، لأن ما كان محجوبًا صار ظاهرًا. “صار قلبي كالشمع”، ذاب لكي تنطبع فيه صورة غضب الله ضد الخطيئة التي حملها السيد المسيح لننال الرضى. ذاب قلبي فصرت كشخص ميت، نازعًا قساوة القلب واهبًا إياه لطفًا وليونة. لقد عرفنا أنه يتألم. عظامه قد أُحصيت، أُستهِزئَ به، ثيابه قد قُسَّمت. ألقوا قرعة على لباسه، أحاط به الرجال وهم مملوئون غضبًا وعظامه تبعثرت. إننا نستمع إلى القصة ونقرأ عنها في الإنجيل. لقد عُرَّىَ؛ فإن عار العِرْى هو ثمرة مباشرة للخطيئة، لهذا تجرّد ربنا يسوع من ثيابه عندما صُلب لكي يكسونا بثوب بره، ولكي يسترنا من عار عرينا.
ثانيًا: المسيح الممجّد
في فكر الآباء وأقوالهم يتكون هذا القسم من أغنيتين متكاملتين للشكر [22-26؛ 27-31]. في الأولى يمجّد المرنّم الرب ويدعو المساكين للمشاركة في وليمة الذبيحة (ذبيحة التسبيح)، بينما في الثانية يتنبّأ عن إقامة المملكة المسيَّانية. إنهما تُظهران حياة المرنّم الممتدة، إذ صارت مرثاته صلاة شكر وسط الجماعة العظيمة من “المساكين“. إنهما تُعلنان قوة قيامة المسيح ومجدها وبهجتها: فقد تحطّم سلطان الظلمة [1-21]. وجاء العيد وانتشر الفرح وتحقّقت المملكة اللانهائية. كما استخدم السيد المسيح على الصليب الكلمات الأولى للمرثاة. هكذا نُسبت الكلمة الأولى لأغنية النصرة إلى السيد بوضوح (عب 2: 12). في هذا القسم يشير المرتل إلى الشبع والنصرة الذين يهبهما المخلّص في آلامه، بإعلانه عن حضرته وسط كنيسته المملوءة فرحًا وشبعًا:
1. أُُقيمت الكنيسة بإعلان “اسم الله”: قال يسوع في صلاته الوداعية: “وعرَّفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم” (يو 17: 26). لقد تعرّفنا عليه من خلال حبه الإلهي على الصليب. ويقوم عمل الكنيسة في كل عبادتها بالتمتُّع بالمعرفة الإلهية ومنحها للمؤمنين. فالمعمودية مثلاً تُدعى “سرّ الاستنارة”، وفي الإفخارستيا ننال معرفة عملية جديدة.
2. المدعوون (للعضوية في كنيسة المسيح): يدخلون في علاقة قرب شديدة للسيد المسيح، فيُحسبون “إخوته“. “أُخبْر باسمك إخوتي، وفي وسط الجماعة أسبحك” بينما رأيناه على الصليب وحيدًا، لا نراه هكذا بعد، بل يظهر وسط إخوته. وفي يوم قيامته قدّم الرسالة المفرحة إذ يقول للمجدلية: “اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” (يو 20: 17). كما نسمعه يخاطب تلاميذه كإخوته وذلك في يوم قيامته المجيدة بعدما اجتاز آلامه. فإننا إذ نتقدّس بعمله الخلاصي بالصليب، لا يخجل بل يُسَر أن يدعوهم “إخوته” (عب 2: 12).
ويقول في هذا القديس أثناسيوس الرسولي: إننا أقرباء الرب حسب الجسد، لذا يقول: “أخبر باسمك إخوتي” (عب 2: 12؛ مز 22: 22). كما أن الأغصان واحدة مع الكرمة (الأصل) وهي منها (يو 15: 1) ويضيف القديس أغسطينوس: هكذا نحن أيضًا جسد واحد متجانس مع جسد الرب، ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا نعمة (يو 1: 16)، ولنا هذا الجسد كأصل لقيامتنا وخلاصنا.
3. هذه الكنيسة هي جماعة فرح وشكر وتسبيح. نترنّم للآب، بصوت المسيح نفسه الساكن في قلوبنا، هذا الذي يمنحنا حياة شاكرة مسبَّحة. يقول: “في وسط الجماعة أُسّبِحُك” فالسيد المسيح هو موضع سرور الآب، وهو يُسَرُّ بسماع صوته في كنيسته… بفرح أعلن مجدك.
4. الكنيسة هي جماعة حب: لأن أعضاءها هم إخوة السيد المسيح. وهي في ذات الوقت جماعة “خائفي الرب” فإن كان السيد المسيح يدعونا أحباءه إلاّ أننا نحن نحسب أنفسنا عبيد له. فالحب ومخافة الرب يتكاملان في حياة المؤمنين. بهما يُعد زرع يعقوب، وعليه تحل بركة إبراهيم.
5. هؤلاء الإخوة: الذين ينالون الحب مع مخافة الرب، يلزمهم أن ينضموا في الجماعة العظيمة، الكنيسة الجامعة. فالكنيسة كمملكة الله، يليق بها أن تمتد إلى كل أركان الأرض، لخلاص الأمم: “تَذكُر وترجِعُ إلى الرب كل أقاصي الأرض” ويأتي العالم ليعبد الرب. والروح “الجماعية” كموضوع محوري لهذا المزمور مستوحاة في اختصار من المزمور 18: 44، والمزمور 87 بتوسُّع أكثر. حيث ستتعبّد له كل أجناس المسكونة للرب المُلْك، المتسلّط على الأمم” وفي هذا يقول القديس أغسطينوس: “المملكة هي للرب لا للإنسان المتكبر، وهو يتسلط على الأمم. أمّا الخلاص الشخصي فمقدّم للعالم كله، ويتمتّع به كل عضو في الكنيسة بكونه خلاصه الشخصي. لذا يقول المرتّل “ليت نفسي تحيا به” إن نفسي التي تستهين بهذا العالم يبدو كميت في نظر الإنسان، تنسى ذاتها لتعيش في (المسيح).
6. كنيسة مملوءة شعبًا وفرحًا: افتقر السيد المسيح -رأس الكنيسة -وصار مسكينًا لأجلنا، لكي يمنحنا غناه وسلامه. “يأكل الودعاءُ ويَشبعون” ويصير المساكين بالروح أغنياء بالبركات الروحية، ويشبع الجياع بالخيرات، لأن السيد المسيح نفسه هو شبعهم!
ويرى القديس أكليمندس الإسكندري في العبارة: “تحيا قلوبكم إلى الأبد” إن سرّ الشبع والحياة هي المعرفة الروحية التي وُهبت لنا بالسيد المسيح. الذين يطلبونه بالحق مسبحين الرب يمتلئون معرفة، وتحيا نفوسهم، فإن يُقال عن النفس “قلبًا” من قبيل الرمز، فهذا القلب هو الذي يدبّر الحياة.
7. كنيسة مقدّسة، تعلن صلاح المسيح في حياته: يليق بالكنيسة أن تستمر حتى النهاية، عبر الأجيال. يقول القديس أغسطينوس: “تحيا قلوبُكُم إلى الأبد” لأننا في المسيح يسوع المُقام لن نعرف الموت قط إنما نعيش فيه أبديًا، نشاركه أمجاده”. عندما نترنّم بهذا المزمور نتأمّل في آلام السيد المسيح وقيامته، نشاركه صلبه ونبلغ قوة قيامته ومجدها، كمصدر نصرتنا على الموت وتمتُّعنا بالمجد السماوي. وقد استخدم العلامة ترتليانوس هذه الآية في مناظرته ضد أتباع فالنتنيان منكرو ناسوت المسيح.
خاتمة المزمور
كم تألمت وكم كان صعبًا وقاسيًا على شخصي الضعيف التأمُّل والتعمُّق والإحاطة بمحتوى هذا المزمور، وكم استغرق ذلك من وقت ومن مجهود فليس من قبيل الصدفة أنّه قد ورد هذا المزمور وصف كامل لقصة الصلب الرهيبة، التي تحقّقت تمامًا وبطريقة حرفية خلال آلام السيد المسيح. إن مَن يقرأ هذا المزمور ويصلّيه يجد فيه صورة حيّة لمشهد الجلجثة الرهيب حيث تألمّ المسيح من أجله. ولا يوجد في كل الكتاب المقدّس كله تصويرًا أبلغ لآلام كفّارة المسيح وذبيحته لأجلنا أقوى مما نراه هنا. إنه حقًا مزمور يحوي سر الأسرار؛ الابن الحبيب متروكًا من الله! ينبوع المياه الحية بحنك يابس! الذي تمجّد الخليقة قدرته السرمدية يقول «يبست مثل شقفة قوتي»! والمؤتزر بالمجد والجلال نراه عاريًا من كل كرامة بشرية!! فلتنحنِ الهامات إذًا، وليفض من القلب أعمق مشاعر التوقير والإجلال والتعبُّد، ولنخلع أحذيتنا عن أرجلنا ونحن نقرأ هذا المزمور ونصلّي كلماته الرائعة، فإننا هنا نقف في قُدس أقداس الكتاب المقدّس كله!
لقد أعلنت كلمات المزمور الأولى عن تكلفة فدائنا: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟! بعيدًا عن خلاصي عن كلام زفيري، لقد عشت معها أنا أيضًا واقتبستها كصرخة يائس في ساعة ظلمة، وكما كانت لداود ولربنا يسوع المسيح على الصليب، فهي لكل نفس مسيحية حقيقية عرفت واختبرت سر الألم كما ورد في هذا المزمور تظل دوما مرفأ وميناء لكل “عبيد الله المتألمين” من جيل إلى جيل. كثيرًا ما نحسب أننا متروكون من الله الآب ولو إلى حين، لكن الرب يسوع مخلصنا الذي سبقنا وصار لعنة لأجلنا (غلا 3: 13)، كما صار خطيئة من أجلنا ذاك الذي لم يعرف خطيئة (2 كو 5: 21) يعلّمنا لنعرف نحن أننا غير متروكين من الآب أبدًا. وفقد جاء في إشعياء “لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة أجمعك، بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة، وبإحسان أبدي أرحمك” (إش 54: 7). وهكذا شاركنا المخلّص خبرات حياتنا المُرّة إذ نشعر أن الله تركنا فصارع حتى الموت ليقيم نفسه جسرًا يقودنا خارج ضيقاتنا وينطلق بنا إلى حضن الآب. وأظهر لنا على الصليب مقدار بُعدنا نحن عن الله وانفصالنا عنه، وهو علّة وجودنا كله.
لقد أدخلنا المخلّص حامل خطايانا بهذه الكلمات وجهًا لوجه في شركة عميقة، مع الله الآب الذي وُضع عليه إثم جميعنا. وحين أنشد بداية هذا المزمور على الصليب تشكَّى إلى الآب، معلنًا ثقته بمحبّته وحمايته له حتى في عالم الموت، ومعبرًا عن اتحاده الكامل به لأنه يترك حبيبه يمسّه الفساد. وأنشدت الجماعة المسيحية الأولى هذا المزمور على ضوء آلام يسوع، فرأت في تلك الآلام إرادة الله تتحقّق كما أعلن الأنبياء سابقًا. وتقول الرسالة إلى العبرانيين (5: 7) عن المسيح إنه “رفع الصلوات والتضرُّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر أن يخلّصه من الموت، فاستجاب له لتقواه”.
ونحن المؤمنون نصلّي هذا المزمور لنكتشف عواطف يسوع المسيح (فل 2: 5) ونتفهّم معنى الألم في الحياة فنقبل آلامنا ونعرف أننا إذا أردنا أن نكون له شركاء في التعزية والمجد والكرامة، يجب علينا أن نكون أولاً شركاءه في آلامه، “لأننا إذا تألمنا معه نتمجّد أيضًا معه”.
صلاة بروح المزمور
إلهي إلهي لما شبقتني
تعاليت يا رب بعزك، نفسي تنشد لك وقلبي يتهلل لجبروتك، يدك يا إلهي لا تقصر عن أن تعمل في حياة أولادك،
إلهي إلهي لماذا تركتني ولماذا وأنت الكلي القدرة
امتنعت عن نجدتي وصممت أذنيك عن سماع أنيني.
قضيت النهار أدعوك ولا مجيب،
وسهرت الليل أناجيك وأنت لا تحرك ساكنًا،
لماذا تتوانى عن معونتي وأنا ابنك عبدك وابن آمتك
وأنت القدوس على عرشك تهلل لك كل الشعوب
عليك تتوكل جميع الخلائق فتحيا وتتحرك وتوجد وتنجو
إليك تصرخ فتفتدها وعليك تعتمد فلا تخاف شيئًا.
لماذا يا رب تخليت يا رب عني وفي يد العدو أسلمتني
فصرت كدودة لا إنسان يسحقني العدو ببطش كبرياءه
ويعيرني البشر بضلالة أفكارهم وينبذني الشعب.
صرت مسخة وسخرية لجميع من يراني
يستهزئون بي : يقلبون الشفاه ويهزون الرؤوس شماتة
حتى اعتمادي عليك صار عارًا إذ يقولون:
” توكل على الرب فلينجه، وينقذه إن كان يرضى عنه”.
نعم يا إلهي عليك توكلت منذ خلقتني
من البدء وأنا بعد جنين في رحم أمي أنت عرفتني
من هناك أنت أخرجتني وعلى ثدي أمي طمأنتني
أنت إلهي ومن الرحم محسوب عليك،
يا سيدي ها قد اقترب الضيق ولا نصير لي، فلا تتباعد عني
أعداء أشداء يطوقونني يحيطون بي. فاغرين أفواههم علىّ،
كالماء انسكبت سالت قواي وتفككت جميع عظامي،
صار قلبي مثل الشمع يذوب في داخل صدري،
يبست كالخزف قوتي، ولساني لصق بحلقي
ومن الهزال أعدُّ كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فيّ
يا إلهي أسرع إلى نجدتي ولا تتباعد واستمع إلى صرختي،
إلى تراب الموت أنزلتني وتعود تمد يدك وتنتشلني من حمأة الموت
سأخبر باسمك إخوتي وبين الجماعة أهلل لك
سأوفي بنذوري أمامك في هيكل قدسك
لأن لك الملك أيها لرب سيد الأمم. آمين
فهرس المزمور الثاني والعشرين
لما تركتني
أولاً: تقديم المزمور
ثانيًا: نص المزمور وتقسيمه
القسم الأول
القسم الثاني: صلاة شكر للرب الذي نجَّاه من آلامه (23-32)
القسم الثالث: نشيد ختامي يَنقل أبعاد المزمور من صيغة المفرد إلى الجمع (28-32
تطبيق المزمور
كيف عاش الرب يسوع هذا المزمور
كيف نعيش نحن هذا المزمور
المزمور في فكر واقوال الآباء
خاتمة المزمور
صلاة بروح المزمور
فهرس المزمور الثاني والعشرين