لا الخوف من الجحيم والطمع في النعيم

لا الخوف من الجحيم والطمع في النعيم

شروط الايمان الحقيقي

بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد

الإيمان كالمحبة إن لم تتوفر فيه شروط المجانية والاستمرارية يصير ناقصا أو مزيفا.

فكل إيمان يقوم فقط على الخوف من دخول جهنم هو كإيمان العبيد والخانعين وغير المقبولين من الله الذي قال لنا في المسيح: “لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي” (يو 15: 15).

وكل ايمان يقوم فقط على الرغبة في دخول الملكوت هو ايمان المتاجرين الذين يتعاملون مع الله وكأنهم تجار يريدون الربح والمكسب والمقايضة. يقول السيد المسيح: “لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ! ” (مت 7: 21 – 23).

فالإيمان الحقيقي هو ثمرة المحبة والمحبة تقوم على المجانية الخالصة. الله يريدنا أبناء نحبه ونثق فيه بطريقة كاملة ومجانية وقد أعلن لنا في المسيح ابنه الحبيب أنه يحبنا حبا ابديا ولا يطلب منا سوى أن نبادله الحب بالحب: “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (يو 3: 16).

فعل الإيمان كفعل المحبة يقوم على شروط: الاستمرارية، المجانية، والشمولية والعملية.

أولا الاستمرارية: يحبنا الله محبة ابدية ويطالبنا بأن نحبه محبة ابدية: “وَمَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ” (إر 31: 3). محبة حية تعرف أوقات انتصار وصعود كما تعرف أوقات انهزام وانكسار ولكنها لا تتوقف ابدا. محبة اقوى من اليأس والخطيئة والموت. محبة قد تتألم ولكنها لا تتوقف ابدا حتى في أوقات العطش والظلم والظلام والشعور بالوحدة. محبة في “الصحة كما في المرض، في الغنى كما في الفقر، في السراء كما في الضراء”.

ثانيا المجانية: يقول سفر الرؤية “وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا” (رو 5: 8). لم يقدم المسيح حياته لنا لأننا نستحق فدائه أو لأننا أكدنا توبتنا ولكنه أحبنا برغم خطايانا وخياناتنا وترددنا واسامنا. المحبة الحقيقية ليست ثمنا ولا استحقاقا بل عطية مجانية يقدمها المحب لمن يحب دون مقابل.

ثالثا الشمولية: فالله يحبنا محبة كاملة وغير منقوصة لدرجة أن الكتاب يؤكد: “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” (يو 15: 13). ويعلمنا سفر الرؤية أن الله يرفض المتأرجحون: “لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي” (رؤ 3: 16).

رابعا العملية: الايمان الحقيقي يُترجم إلى اعمال رحمة وإلى حياة معاشة بين الناس. “إِنْ قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟” (1 يو 4: 20).

وتعلمنا القديسة تريزا الأفيلية (1515-1582)، من ملفانة الكنيسة، هذه الصلاة الرائعة:

إلهي، السماء التي وعدتني بها لا تحركني لأطلبها منك، ولا الجحيم المخيف يحركني لأتخلى عن إساءاتي إليك“. أي أن ما يدفعني لحبِّك ليس الجنة التي تقدمها لي، وليس الجحيم الذي أخاف منه هو الذي يمنعني من إهانتك. وتقول لنا أيضا: “لا يُقلقك شيء ولا يُرْهِبُك شيء، فكلّ شيء يزول، الله وحده لا يتغيّر. هو وحده يكفي، من له يسوع له كل شيء“.

تتردد هذه المعاني أيضا في دعاء رَابِعَة العَدَوِيَّة التي تقول: “اللهم إن كنت أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بنار جهنم وإن كنت أعبدك طمعا في جنتك فاصرفني منها، أما إذا كنت أعبدك من أجل محبتك فلا تحرمني من رؤية وجهك الكريم“.

ويحكى أنها كانت تجول في الشوارع حاملة شعلة نار وسَطْل ماء ولما سألها الناس عن السبب قالت: “أريد أن أسكب الماء على الجحيم وأشعل النار في الجنة، حتى تختفي هذين الستارين ويعبد الناس الله ليس خوفًا من الجحيم أو طمعا في الجنة، ولكن فقط من أجل جماله الأبدي“.

وبنفس الايمان يعلمنا القديس فرانسيس كزافييه أن نحب الله “ليس من أجل رجاء السماء، ولا خوفًا من الجحيم، ولكن لأنه احبنا أولا“.

ختاما نؤكد أننا جميعا بالطبع نخشى العذاب الأبدي والدخول لجهنم ونرغب جميعا في التنعم بملكوت الله ورؤية وجه الله الطوباوية ولكن الفاصل يكمن في أن نأسس علاقتنا مع الله فقط على الخوف أو الطمع. يجب أن نخاف العذاب ونطمع في الملكوت ولكن لا يجب أن يكون محركنا الأوحد هو الخوف أو الطمع، بل المحبة الكاملة والمجانية والمستمرة والكلية والمترجمة إلى حياة معاشة وإلى أعمل خير للآخرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *