سابعًا مرض العناد

سابعًا مرض العناد

بعض الأمراض الشائعة والمخفية

بقلم المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد

أولًا تعريف مرض العناد

مرض العناد أو ما يعرف علميًا باضطراب تحدي المعاند أو المعترض (Oppositional Defiant Disorder – ODD). هو نمط متكرر من السلوك ينطوي على المعارضة والسلبية والتحدي والتمرد بشكل مبالغ فيه، ويكون موجهًا غالبًا نحو السلطة وكافة رموزها.

يختلف اضطراب العناد عن مجرد تعنت الطفل السلوكي، فمرض العناد يمثل نمطًا مستمرًا من السلوك ويسبب مشكلات كبيرة في الحياة اليومية للطفل وعائلته، ويستمر مع الشخص بعد تخطيه مراحل الطفولة ويصبح سلوكًا ثابتا واضطرابًا سلوكيًا.

العناد المرضى هو اضطراب وتحدٍ سلوكي يتطلب الفهم والعلاج، وهو سلوك مضطرب يعكس عدم نضج ورغبة في إثبات الذات بمعارضة كل شيء ورفض آراء الآخرين لمجرد الرفض وبدون حتى منح الذات فرصة للتقييم والحكم. العناد من أجل العناد. إنه تعبير عن خلل نفسي وسلوكي يدفع الشخص، وغالبًا بطريقة لا واعية، إلى اتخاذ مواقف متشددة وعمل تصريحات لا تتوافق مع حجم المواقف والتصميم على فرض وجهة النظر مهما كانت خاطئة، واعتبار التعنت الأسلوب الأمثل للتعامل مع الناس والمواقف.

العناد هو غالبًا دليل على ضعف الشخصية وقلة الإمكانات فالأشخاص الواثقين من أنفسهم ومن إمكاناتهم يتميزون بالمرونة ولديهم شجاعة الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه، أما المرضى باضطراب العناد فهم يكابرون ويتفلسفون ويتسفسطون ويتفنانون في اختراع أسباب لا صحة لها وعرض تفسيرات لا عَلاقة لها بالأمر.

يخلط المرضى باضطراب العناد بين العناد من أجل العناد وبين اتخاذ مواقف ثابتة أمام تحديات الحياة. فالمريض بالعناد ينطلق من الرفض أما الشخص السوي فهو ينطلق من التساؤل حول فائدة القبول أو الرفض. المريض يحكم على الأشياء بتسرع ويصنف الناس إلى أعداء وأصدقاء أما السوي فيتصف بالتروي ويعرف كيف يحلل الأمور بعمق ويأخذ المواقف دون أحكام مسبقة.

المريض باضطراب العناد يعيش في حالة تحدٍ دائم وكأن الكون ضده، والخليقة لا شغلة لها سوى التآمر عليه. إنه فريسة الاعتقاد بأنه ضحية لمؤامرات الآخرين ضده لذا يتصرف وكأنه في خطر وعليه أن يدافع عن نفسه برفض كل شيء بتحدٍ لمَن حوله وبتحويل الحياة إلى مباراة عليه الانتصار فيها وتسجيل الأهداف ضد الآخرين والذين يعتبرهم خصومًا ومنافسين عليه الانتصار عليهم.

ثانيًا أسباب مرض العناد

من الصعب معرفة الأسباب الدقيقة لمرض العناد بشكل كامل، ويعتقد الخبراء أنها تتضمن مزيجًا من العوامل الوراثية والبيئية والتربوية، بما في ذلك:

  1. العوامل الوراثية

يُعتقد أن بعض الأطفال قد يكون لديهم استعداد وراثي للإصابة بهذا الاضطراب. وأننا نرث من والدينا بعض الميول السلوكية التي أن لم تجابه وتعالج يكون من الصعب تخطيها بعد تمكنها من الإنسان. وبما أن الأمر يتعلق بسلوك فيعتقد أن التأثير الوراثي ليس هو العامل الأساسي في تفحله. فالطفل الذي يولد من والدين مريضين باضطراب العناد إذا وجد بيئة صحية يكون بإمكانه التحرر من هذا الميل الوراثي.

  • العوامل البيئية

من أهم أسباب الإصابة باضطراب العناد هو البيئة الأسرية والمجتمعية التي ينشأ فيها الشخص. فالطفل يتشكل في سنوات عمره الأولى ويتأثر تأثرا كبيرًا بأساليب التربية غير المتسقة، أو العنف الأسري، أو الإهمال، أو وجود اضطرابات نفسية أخرى في العائلة. فالطفل الذي يحصل على ما يريد بتطبيق أسلوب العناد يكبر معتقدًا أن العناد هو الأسلوب الأمثل للحصول عما يريد.

  • اضطرابات عصبية

يعتقد بعض الخبراء والأطباء في إمكانية وجود بعض الاختلافات والخلل في عمل الدماغ لدى الأطفال المصابين بهذا الاضطراب. ولكون العناد أسلوب واضطراب سلوكي يصعب تأكيد أو نفي وجود اضطرابات عصبية مسببه له.

  • اضطرابات تربوية

الأطفال الذي ينشؤون في جو أسري يتصف بالشجار المستمر والتحدي الدائم يكونون عرضة أكبر للإصابة باضطراب العناد. والتعاليم التربوي حتى الدينية التي تفرض على الإنسان الكمال المطلق تدفعه باخر المطاف على عيش تحدٍ وجودي ينعكس في كافة تصرفاته. والتعاليم الدينية الخاطئة التي تحوّل الإنسان إلى “تاجر” عليه أن يفعل بعض الممارسات الخارجية كي يهدأ من الغضب إلهي، تخلق إنسانًا غاضبًا ومعاندًا وفي حالة حنق دائم، إنسانًا يفكر فقط في إثبات ذاته بأي شكل دون العمل على البعد الباطني والداخلي والروحي، إنسانًا في صراع دائم مع نفسه ومع من حوله. 

ثالثًا أعراض وأضرار مرض العناد

تظهر أعراض مرض العناد عادة في مرحلة الطفولة المبكرة، وتشمل:

  1. المِزَاج الغاضب والعصبي

يميل الطفل إلى فقد السيطرة على نفسه بسهولة، ويكون سريع الانفعال وكثير الصراخ والبكاء والصياح.

  • السلوك الجدلي والمتمرد

يجادل الطفل البالغين وذويه بشكل متكرر، ويرفض الانصياع لطلباتهم، ويتمرد على كل التوجيهات والتعاليم والتعليمات.

  • إزعاج الآخرين

يضايق الطفل الآخرين عمدًا، ويظهر سلوكًا انتقاميًا وعدوانيًا وهو يقوم بهذا لإجبار الكبار على الانصياع لرغباته.

  • لوم الآخرين

يميل الطفل إلى لوم الآخرين على أخطائه وسوء سلوكه وهو سلوك يكبر معه ونراه جليا في الأشخاص الذين يلومون دائمًا الظروف والآخرين ولا يعرفون ابدً النظر في مرآة الحقيقة أو لوم أنفسهم.

رابعا أضرار مرض العناد

إذا لم يتم علاج مرض العناد، فإنه يؤدي إلى العديد من المشاكل، بما في ذلك:

  1. صعوبات في العلاقات الاجتماعية

يعاني الأطفال المصابون بهذا الاضطراب من صعوبة في بناء علاقات صحية مع أقرانهم وأفراد العائلة. يؤدي العناد بالآخرين إلى تجنب هؤلاء الأشخاص والابتعاد عنهم وتجنبهم.

  • مشكلات في المدرسة

يؤثر هذا الاضطراب على قدرة الطفل على التركيز والتعلم، ويدفع به إلى مشاكل سلوكية في المدرسة وغالبا إلى أحد التطرفين، فإما التفوق الدراسي لأثبات وجهة نظر الشخص العنيد، وإما الفشل لإثبات وللوم الآخرين والظروف.

  • زيادة خطر الإصابة باضطرابات نفسية أخرى

يكون الشخص العنيد مُعرض بشكل كبير للإصابة باضطرابات السلوك وخاصة بالاكتئاب والشعور بالوحدة والانغلاق على الذات في دائرة مغلقة تزداد دائمًا سوءا واختناقًا.

خامسًا أمثلة على سلوكيات مرض العناد

  1. الطفل العنيد:

وهو الطفل الذي يرفض القيام بواجباته الأسرية والمدرسية. يرفض الآكل والخروج والمشاركة في الأنشطة. يرفض الأوامر والتوجيهات والنصائح. يرفض الإصغاء لمن يكلمه والانصياع للعادات والأعراف. يرفض كل شيء ولا يقبل سوى بعد الحصول عما يريد أو على مكافآت. يدفع الطفل العنيد أهله لتلبية كل طلباته، وتلبية كل طلباته تجعله يقتنع أكثر بصحة أسلوبه وعناده فيمارس مزيدًا من العناد كي يحصل على مزيد من المزايا.

  • الشخص المجادل:

إنه لا يَمل من الجدل والمجادلة ولديه استعداد للتكلم لساعات وساعات في أمور تافهة. إنه في حالة تحدي مستمر لكافة القواعد. ويزداد الوضع سوءا في فترة المراهقة حيث يشعر المراهق أنه بحاجة للجدل كي يثبت نفسه ويتحول الأمر إلى اضطراب حين يستمر مع الشخص بعد تخطي مرحلة المراهقة فيتحول الشخص إلى مجادل من أجل المجادلة.

  • المسؤول المريض:

أي المسؤول الذي يريد أن يثبت نفسه وإمكاناته بالعناد مع الجميع وإثبات سلطته بتحدي كل من يقع تحت مسؤوليته. إنه يستخدم مكانه والمسؤولية التي يشغلها كي يجبر الجميع على طاعته والانصياع إلى أوامره وتوجيهاته. يصل المسؤول المصاب بهذا المرض غالبا إلى ممارسة الدكتاتورية والتحول إلى صنم يجب على الجميع أن ينحني أمامه ويسجد له. إنه يُبعد كافة الأشخاص الجيدين أو الأفضل منه ويحيط نفسه بالمنافقين الذين يتغنون بحكمته وبراعته ومهارته وبُعد نظره.

إن المسؤول المصاب باضطراب العناد غالبا ما يُصاب أيضا بمرض النرجسية والشعور بأنه “ممثل الله على الأرض”. إنه يسحق المعارضين ويلجئ إلى أقذر الأساليب ويفقد الإحساس والشفقة ويتحول من راعي إلى لص، ومن مستأمن على الكرمة إلى أجير قاتل. إنه يبرر لنفسه أبشع الجرائم ويعاقب هفوات الآخرين بحسم وبعنف مبالغ فيه.

  • الشخص المؤذي:

أي الشخص الذي يتصرف بجفاء وعجرفة وغطرسة ولا يهتم بإيذاء مشاعر الآخرين والأصدقاء بل يسعد ويتعمد إيذاء مشاعرهم. وهو غالبا ما يعتمد الكذب والتلاعب بالآخرين وزراعة الزؤان بين الناس وقد يلجئ إلى السرقة أو التخريب.

سادسًا طرق علاج مرض العناد

يعتمد علاج مرض العناد على عمر الطفل والشخص المصاب وشدة الأعراض، وقد يشمل:

  1. العلاج السلوكي المعرفي

يقوم هذا النوع من العلاج على تعلم الطفل مهارات جديدة للتعامل مع المشاعر والعواطف، وكيفية حل المشكلات بطرق صحية. ويعتمد نجاح هذا العلاج على سن الطفل وعلى مدى تمكن هذا الاضطراب منه.

  • العلاج العائلي

يركز العلاج العائلي على تحسين التواصل بين أفراد الأسرة وتدريب الوالدين على كيفية التعامل مع سلوك الطفل. إنه علاج للمصاب وللمتعاملين معه لخلق بيئة صحية ومساعدة المصاب بمرض العناد على الخروج من هذا النفق المظلم والتحرر من الأفكار السلبية والتصرفات المدمرة.

  • الأدوية

في بعض الحالات، قد يلجئ الطبيب المعالج لاستخدام بعض الأدوية للمساعدة في التحكم في الأعراض المصاحبة، مثل الأدوية المضادة للاكتئاب أو الأدوية التي تساعد على تنظيم المِزَاج.

  • العلاج الروحي

يقوم العلاج الروحي على مصاحبة الشخص روحيًا وقيادته للتحرر من اقتناعاته المدمرة والسلبية. يحتاج العلاج الروحي لبناء الثقة المتبادلة بين المصاب والمرشد الروحي، كما يحتاج إلى إشراك المصاب في العمل الجماعي والتحلي بصبر ومثابرة حيث إن علاج مرض العناد يحتاج وقتًا وجهدًا، ولا يجب التوقع بحدوث تحسن سريع ويعتمد علاج هذا الاضطراب إلى تعاون وثيق مع الوالدين والمعلمين والمتعاملين مع الشخص المصاب.

ختامًا:

مرض العناد هو اضطراب مؤذي للمصاب به وللمتعاملين معه. إنه اضطراب معقد يتطلب تشخيصًا مبكرًا وفهمًا شاملًا وعلاجًا متكاملًا. إن اضطراب يبدأ بسيطًا ويزداد سوءا وتحكما في المصاب به.

إن العناد يحطم حياة المصاب ويُفقده مشاعر الرقة ويدفع من حوله إلى تفاديه والابتعاد عنه.

إنه مرض خطير خاصة عندما يصيب المسؤولين لأنه يحول قلوبهم إلى قلوب حجرية لا تشعر ولا تلين ولا تحب ولا تتعاطف مع أحد. يحولهم إلى مرضى نفسيين يسعدون فقط بإيذاء الآخرين وينشرون الإحباط حولهم وينسون ويتناسون جميع الأشخاص الذين بفضلهم وصلوا إلى أماكنهم. يحولهم إلى أشخاص منافقين، وإلى قادة ْعُمْيَان: “يحرمون الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ” (مت 23، 24).

إنه اضطراب يمكن التغلب عليه بالتوبة وبالعلاج والتواضع، ومن خلال اللجوء إلى متخصصي الصحة النفسية، لتعلم مهارات جديدة والتغلب على الاقتناعات والأفكار السلبية والمدمرة.

قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:

أولًا: مرض الإنكار

ثانيًا: مرض الإسقاط

ثالثًا: مرض التظاهر

رابعًا مرض الكذب والإنكار

خامسًا مرض تبلد أو موت الضمير

سادسًا: مرض التطفل والحشرية

سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).