بعض الأمراض الشائعة والمخفية
بقلم المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أولا وصف وتحليل مرض القطيع
مرض القطيع، أو التحجج بالأغلبية، هو حالة نفسية واجتماعية تتسم باتباع آراء وسلوكيات الأغلبية دون تفكير نقدي أو تقييم شخصي. هي حالة منتشرة جدا ومتأصله في النفس البشرية ومرتبطة بالانتماء للقطيع بحثا عن الأمن والسلامة. وقد أطلقنا على هذا المرض “مرض القطيع” لأنه موجود بقوة بين مملكة الحيوانات التي تحمي نفسها بالعيش في مجموعات لتحافظ على بقائها وتقاوم المخاطر وتجابه التحديات.
ونعتبره مرض لإن التحجج بان الجميع يتصرفون هكذا لا يكفي لاعتبار أن هذا التصرف أو غيره صحيحا، أو غير قابل للنقاش. فملايين البشر يدخنون ولكن هذا لا يجعل من التدخين عادة صحية ومفيدة. وقد اعتقد وأمن ملايين البشر بالشيوعية والماركسية ولكن هذا لم يحوّل هذه الأيدولوجيات المدمرة إلى فكر صالح وصحيح. ونرى ملايين البشر تؤمن بإله يدعو للقتل والكراهية ويتم التقارب له عن طريق الفتك بالمختلفين ولكن هذا لا يجعل من هذا الفكر الشيطاني فكرا إلهيا.
إن مرض القطيع هو داء خطير لأنه يتحول إلى عجز نفسي يمنع الإنسان من التفكير بحرية ومن الاختيار الصحيح لمواقفه ومن التفكير النقدي والعلمي والتحليلي. وتكمن خطورة مريض القطيع في تردد بعض العبارات المسلم بها بدون تفكير، مثل: “الجميع يتصرفون هكذا”، دون إدراك أن هذا لا يعني بالضرورة صحة هذا التصرف أو هذا الاعتقاد.
يتجلى مرض القطيع في مجموعة من السلوكيات، مثل:
- الخوف من الاختلاف: تجنب التعبير عن آراء مخالفة خوفًا من الرفض أو النبذ، بل والدفاع المستميت عن آراء الأغلبية حتى بدون الاقتناع بها. والخوف من الاختلاف يدفع الشخص إلى التهجم على من يخالف القطيع والتعرض له وشخصنة كل شيء، والتعرض للأشخاص لا للأفكار.
- التقليد الأعمى: المريض بمرض القطيع يلهث خلفالموضة ويتبع بدون نقاش الاتجاهات السائدة دون فهم أو اقتناع. إنه مقلد أعمي وضحية للتيارات السائدة. وهو قد ينتقل من تطرف لتطرف أخر لمجرد ان الجموع أو الأغلبية قامت بهذا.
- التبرير بالأغلبية: المريضبهذا المرض يكرر كالببغاء عبارات مثل “الجميع يفعل ذلك” لتبرير السلوكيات الخاطئة، وللاستمرار في تصرفاته المسيئة.
- فقدان الهوية: يتخلى المريض بهذا المرض وبسهولة وبدون حتى الشعور بخجل عن القيم والمبادئ الشخصية لتبني آراء الأغلبية.
- التعصب الجماعي: إنه يتبني آراء الجماعة بشكل متعصب، ويرفض أي آراء مخالفة، وغالبًا ما يلجأ للعنف بحجة الدفاع عن سلامة الجماعة وفرض السلام والأمن والاستقرار.
الوجه الاخر لمرض القطيع هو مرض المراهق، أو مرض خالف تُعرف، والذي سنتعرض إليه في الأسابيع القادمة.
ثانيا خطورة مرض القطيع
- على الشخص: يؤدي هذا المرض إلى فقدان الاستقلالية والتفكير النقدي. ويسبب الشعور بالندم وعدم الرضا عن الذات. ويمنع الشخص من النمو والتطور. ويؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة تضر بالشخص نفسه.
- على المحيطين به: يؤدي هذا المرض إلى انتشار الأفكار والسلوكيات الخاطئة. ويخلق بيئة غير صحية تعتمد على التقليد الأعمى. ويؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية ويعيق التقدم والتطور في المجتمع.
تكمن خطورة مرض القطيع في أنه يجعل الحوار مع المريض به لا جدوى له. فهو لن يغير رأيه مهما كانت الحقيقة ساطعة، ولن يرى النور مهما كانت الشمس ساطعة. إن ما يتحكم فيه ليس الحقيقة بل السعي لحصول على رضى الباقيين وقبول المحيطين.
ثالثا أمثلة من الحياة
- المقلد الأعمى: أي الشخص الذي يتبع الموضة بشكل أعمى، وينفق الكثير من المال على ملابس لا تناسبه، ويقلد أمور لا تناسبه، ويتصرف ويتكلم بشكل غريب لمجرد أن أحد المشهورين أو مجموعة من الناس تتصرف أو تتكلم بهذا الأسلوب.
- الصحبة السيئة: عندما نجد مجموعة من الشباب يمارسون سلوكيات خاطئة، لأن “الجميع يفعل ذلك”. تنتزع المجموعة حق افرادها في التفرد والاستقلالية ويصبح الخارج عنها منبوذا ومضطهدا من باقي المجموعة. كما يحدث في المدارس وفي التجمعات الرياضية وفي بعض الأنشطة الجماعية حتى داخل الكنيسة.
- المتشدد: أي الشخص الذي يتبنى آراء دينية أو سياسية متطرفة، لأنه ينتمي إلى جماعة تتبنى هذه الآراء. المتطرف يكون أحيانًا ضحية لضغط الجماعة فيخفي أفكاره الحقيقية لأنه لا يريد أن يخالف رأي الأغلبية.
- المجموعات الدينية: تسقط الجماعات الدينية كثيرا في تجربة القطيع لدرجة إجبار أعضائها إما على الطاعة العمياء وإما على الانفصال عنها وهجرها. فكم من نشاطاتنا الرعوية تنهزم وتتحطم على صخرة القطيع. يسقط في تجربة مرض القطيع الراعي عندما تتحكم فيه آراء رعيته ويصبح همه الأول والأخير الحصول على رضى الجميع مهما كان الثمن ومهما اضطر للتنازل عن الشهادة للحق. وتسقط فيها الرعية عندما تنقاد بدون وعي خلف دكتاتورية الراعي مهما كانت قراراته خاطئة ومدمرة ومخالفة لتعاليم المسيح. فكم من جماعاتنا الكنسية تأن من هذا المرض الذي يقضي فيها على روح الابتكار والحرية والابداع؟ وكم من الأنشطة الرعوية تُكرِس لفكرة القوالب المعدة والجاهرة للجميع؟ وكم من الرعاة يعرفون الحق ولكنهم يصمتون خوفا من القطيع؟ وكم من المؤمنين يعتقدون أن اتباع القطيع هو الطريق الأفضل للحصول على رضى الله والمسؤولين؟
- القيادة المنقادة: هي القيادة المهتزة التي لا تقود بل تنقاد من القطيع والظروف. وهي غالبا متخبطة ومهتزة وضعيفة وتسير بلا هدف وبلا رؤية وبلا دليل وبلا حماس وبدون غيرة رسولية. هي قيادة فاشلة في كل شيء إلا التكلم عن سوء الحظ أو عن المؤامرات الخارجية والداخلية، وبدلا من الاعتراف بالإخفاق والفشل غالبا ما تسعى لإسكات كافة الأصوات التي تحاول مساعدتها، وتشكك في النوايا وتضخم في صعوبة الظروف كي تعفي نفسها من المسؤولية. وهي غالبا ما تحوط نفسها بالضعفاء كي لا تنفضح وتسير من سيء إلى أسوأ لأنها لا تمتلك شجاعة الاعتراف بضعفها.
رابعًا أمثلة من الكتاب المقدس
- الشعب المحرر من عبودية المصريين: والذي اتبع معتقدات الأغلبية فعبد العجل الذهبي، وشيد على مدار تاريخه في الصحراء معابد للآلهة الوثنية ولبعل. سقط في تجربة القطيع فخان عهده مع الله كي يحصل على رضى الشعوب والناس.
- تلاميذ السيد المسيح: الذين تخلوا عنه خوفًا من اليهود، وهربوا وتركوه وحيدًا برغم أنهم أكدوا أمانتهم له حتى الموت.
خامسًا طرق العلاج النفسية والروحية
ينطلق العلاج دائما من حقيقة أن معرفة الداء هي أهم خطوة في طريق الشفاء. فمرض القطيع كالكثير من الأمراض الخفية يتطلب منا شجاعة الاعتراف بالسقوط فيه وتنمية الوعي الذاتي لفهم الدوافع والسلوكيات. يحتاج الشفاء لتعلم مهارات التفكير النقدي، وتقييم المعلومات والآراء بشكل مستقل. يحتاج إلى تنمية الثقة بالنفس والتعبير عن الآراء الشخصية بوضوح وثقة والعمل على زيادة الثقة بالله حتى لا يكون الشخص ضعيف أمام ضغوط المستغلين.
مرض القطيع هو مرض خطير يقود لتدمر العلاقات وإلحاق الأذى بالذات والآخرين. ولكن، من خلال الوعي والعلاج النفسي والروحي، وتغيير نمط الحياة، يمكن للفرد أن يتغلب على هذا المرض وأن يعيش حياة أكثر صحة وسعادة، لذا نحتاج جميعًا إلى تنمية فضيلة التواضع سواء بالاعتراف به أوفي طلب المساعدة من متخصص في الصحة النفسية أو من مرشد روحي.
ختاما
القول إن الجميع يقولون أو يؤمنون بأمر ما، هو تعميم يحمل في ذاته ضعف حجته وضلال استدلاله. فالحقيقة لا تحتاج إلى أن ترفع لأجلها سيفًا أو حتى صوتًا، وهي، بنهاية المطاف، تفرض نفسها وإن رفضها العموم والباطل يبقى باطلا وإن أتبعه الجميع. إن ادعاء أن البشرية جمعاء تتصرف هكذا لا يجعل من هذا التصرف حقيقة ملزمة لكل البشر أو أقله غير قابلة للتحليل والتقييم والمناقشة.
تكمن خطورة هذا المرض في أنه يجعل الانسان يضحي بحريته على هيكل رضى الجماعة عليه، فيفقد الانسان هكذا ما يميزه عن باقي المخلوقات: التفكير والتحليل والاختيار الحر.
قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:
أولًا: مرض الإنكار
ثانيًا: مرض الإسقاط
ثالثًا: مرض التظاهر
رابعًا: مرض الكذب والإنكار
خامسًا: مرض تبلد أو موت الضمير
سادسًا: مرض التطفل والحشرية
سابعًا: مرض العناد
ثامنًا: مرض الخنوع والعبودية الاختيارية
تاسعًا: مرض التطرف
عاشرًا: مرض الحصان المَيْت
حادي عشر: مرض استغلال الآخرين والتلاعب بهم
ثاني عشر: مرض عمى البصيرة
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).