المجتمع في منظار المسيحية

الورتبيت جان قداديحي

 

  إنّ المجتمَع في معناه الشموليّ والدِينيّ هو دعوة البَشَريَّة إلى إظهار صورة الله والتحوّل للتصوّر بصورة الابن الوحيد للآب. وهذه الدعوة لها طابع شخصيّ، لأنّ كلّ واحد مدعوّ إلى الدخول في السعادة الأبديَّة.

 

الدعوة البَشَريَّة وسمَتها الجماعيَّة

الناس بأجمعهم مدعوّون إلى غاية واحدة هي الله نَفْسه. وهناك بعض الشبه بين وحدة الأقانيم الإلهيَّة والأخوّة التي يجب على الناس أن يقيموها, في ما بينهم، في الحقيقة والمحبّة. فمحبّة القريب لا تنفصل عن محبّة الله.

يحتاج الشخص البَشَريّ إلى الحياة الاجتماعيَّة. وهي بالنسبة إليه ليست شيئاً مضافاً، وإنّما من مقتضيات طبيعته. فالإنسان بالتواصل مع إخوته، وتبادل الخدمات والحِوار، ينمّي قواه ويلبّي هكذا دعوته.

المجتَمع هو فريق من الأشخاص المرتبطين عضويّاً بمبدإٍ يوحّدهم ويتجاوز كلاًّ منهم. هذه الجماعة المنظورة والروحيَّة في آن واحد، تدوم في الزمن، فتتقبّل الماضي وتهيّئ المستقبل. وبها يصير كلّ إنسان "وريثاً" ويتقبّل "وزنات" تغني هويّته، ويكون ملزماً بتنمية ثمارها. وعلى كلّ واحد بحقّ أن يبذل الذات في سبيل الجماعات التي هو عضو فيها، وأن يحترم السُلطات المسؤولة عن الخير العامّ.

بعض المجتمعات، من مثل الأُسرة والمدينة، هي أكثر تناسباً مع الطبيعة البَشَريَّة، فهي ضروريَّة لها. ولا بدَّ في سبيل تعزيز مشاركة العدد الأكبر في الحياة الاجتماعيَّة، من التشجيع على إيجاد تجمّعات ومؤسّسات مختارة "ذات أهداف اقتصاديَّة، وثقافيَّة، واجتماعيَّة، ورياضيَّة، ومهنيَّة، وسياسيَّة… في داخل الجماعات الكُبرى كما على الصعيد العالمَيّ ".

وهذا "التجميع" يعبّر أيضاً عن النـزعة الطبيعيَّة التي تحمل الناس على التشارك في سبيل بلوغ أهداف تتجاوز الإمكانات الفرديَّة. وهو ينمّي صفات الشخص، وعلى الخصوص، حسّ المبادرة والمسؤوليًّة عنده. وهو يساعد على كفالة حقوقه.

وقد أعدّت الكنيسة في عقيدتها مبدأً دعي "بالتسلسليَّة". ومؤدّاه " أن ليس لمجتمع أعلى أن يتدخّل في الحياة الداخليَّة لمجتمع أدنى بحرمانه من صلاحيّاته، بل عليه بالأحرى أن يسانده عند الضرورة وأن يساعده على تنسيق عمله مع عمل العناصر الأُخرى التي تؤلّف المجتمع في سبيل الخير العامّ ".

لم يشأ الله أن يحتفظ لنَفْسه بممارسة كلّ السُلطات. فهو يعطي كلّ خليقة الوظائف التي يمكنها أن تمارسها بحسب إمكانات طبيعتها الخاصّة. ونمط الحكم هذا يجب أن يُقتدى به في الحياة الاجتماعيَّة. وتصرّف الله في حكم العالَم، الذي يُظهر الكثير من المراعاة للحرّيَّة البَشَريَّة، يجب أن يُلهم حكمة من يحكمون الجماعات البَشَريَّة. فعليهم أن يتصرّفوا كمعتمدين للعناية الإلهيَّة… قاصدين وفق المبدإ التسلسليّ المذكور انسجام العلائق بين الأفراد والمجتمعات وساعين إلى إقامة نظام دوليّ حقيقيّ.

 

التوبة والمجتمع

لا بدَّ من المجتمع لتحقيق الدعوة البَشَريَّة. ولبلوغ هذا الهدف لا بدَّ من احترام التراتبيَّة الصحيحة بين القِيَم التي تُخضع الأبعاد الطبيعيَّة والغريزيَّة للأبعاد الداخليَّة والروحيَّة.

إنّ قلب الوسائل والغايات الذي يبلغ حدّ إيلاء قيمة الغاية القصوى إلى ما ليس سوى وسيلة إليها، أو النظر إلى الأشخاص كوسائل فقط إلى هدف، يولّد هيكليّات ظالمة تجعل السلوك المسيحيّ الموافق لوصايا المشترع الإلهيّ شاقّاً ومستحيلاً عمليّاً.

فيجب عندئذٍ استنهاض الإمكانات الروحيَّة والأخلاقيَّة للشخص، والمقتضيات الدائمة لتوبته الداخليَّة، للحصول على تغييرات اجتماعيَّة تكون حقيقة في خدمته. والأولويَّة المعترف بها لتوبة القلب لا تُلغي إطلاقاً، بل هي, على العكس, تفرض واجب إجراء الإصلاحات المناسبة على أوضاع الحياة، حتّى تتوافق مع قواعد العدل، وتعزّز الخير عوضاً من إعاقته.

وإنّ اللجوء إلى النعمة يفتح طريق المحبّة، أي محبّة الله والقريب. فالمحبّة هي أعظم الوصايا الاجتماعيَّة. إنّها تحترم الآخَرين وحقوقهم، وتقتضي ممارسة العدل، وهي وحدها تجعلنا قادرين على ذلك، إنّها تلهم حياة ملؤها بذل الذات: "مَن طلب أن يخلّص نَفْسه يهلكها، ومَن أهلكها حفظها" (لو 17/33).

 

 *  المصدر الرئيس الذي استُمدّت منه مادّة المقال: "التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيَّة"، المطبعة البولسيَّة – جونية، لبنان، 1999.

– يحتاج الشخص البشريّ إلى الحياة الاجتماعيَّة لينمو نموّاً يتوافق مع طبيعته. بعض المجتمعات، من مثل الأُسرة والمدينة، هي أكثر تناسباً مع الطبيعة البشريَّة.

– الشخص البشريّ هو، ويجب أن يكون، مبدأ جميع المؤسّسات الاجتماعيَّة ومردّها وغايتها.

– على المجتمع أن يعزّز ممارسة الفضائل لا أن يعيقها. ويجب أن يستلهم تراتبيَّةً صحيحة للقِيَم.

– حيث تُفسد الخطيئةُ المناخَ الاجتماعيَّ، لا بدَّ من اللجوء إلى توبة القلوب وإلى نعمة الله. المحبّة تحمل على إجراء إصلاحاتٍ صحيحة. وليس من حلّ للمسألة الاجتماعيَّة خارج الإنجيل.

عن موقع ايبارشية حلب الأرمنية الكاثوليكية