“لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ” (مز 69: 9).
بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد
يصف سليمان الْغَيْرَة بأنها “قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ، ولَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ” (نش 6:8). ويؤكد الكتاب المقدس “أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ” (خر 5:20). كما يقول رَبُّ الْجُنُودِ “هكَذَا غِرْتُ عَلَى أورشليم وَعَلَى صِهْيَوْنَ غَيْرَةً عَظِيمَةً” (زك 14:1). فالرب يغار لأرضه، ويَرِقُّ لِشَعبه، وعلى مجده، فيذكر صفنيا غَيْرَة الرب بأنَّها نار تأكل الأرض كلها: “بِنَارِ غَيْرَتِهِ تُؤْكَلُ الأَرْضُ كُلُّهَا” (صف 18:1). ويذكر سفر حزقيال النبي “وَأَغَارُ عَلَى اسْمِي الْقُدُّوسِ” (حز 25:39).
ويدعونا الكتاب المقدس للتحلي بالغيرة الرسولية: “حَسَنَةٌ هِيَ الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى” (غل 18:4)، لأن بها يعالج الروح في سفر الرؤيا حالة الفتور التي ظهرت في ملاك كنيسة اللاودكيين “كُنْ غَيُورًا وَتُبْ” (رؤ 19:3).
وهنا تجب الإشارة إلى أن الغيرة الإيمانية الصالحة هي شعور مقدس يضطرَم قلوب المؤمنين ويحرض الإنسان على فعل الخير، لمجد اسم الله القدوس، وخلاص النفوس والشهادة للمسيح مهما كانت النتائج. أما الغيرة العمياء الفاسدة والمفسدة فهي حيلة شيطانية تدفع حتى المؤمنين للاتجاه نحو الشر والإتيان بأعمال الهدم والتدمير والخراب وزرع الزؤان ووضع العداوة وغرس الخصام بين الناس.
الغِيرة الشيطانية
يعلمنا الرسول بولس تجنب خطر الغيرة المشوهة، تلك التي ترتدي قناع الإيمان والدفاع عن الحق كي تدفعنا في الاتجاه الخاطئ، كما حدث مع الرسول بولس نفسه حين كان مضطهدا للكنيسة، وحين كان يبرر اضطهاده بأن يدافع عن شريعة ووصايا الله.
إنها التصرف بحماسية وبدون حكمة لارتكاب الجرائم دون الشعور بالذنب وقتل سمعة الآخرين معنويًا وفعليًا دون تردد، ودون دليل، وحتى التفاخر برجم البريء بأفظع العبارات وتعرية أجساد الناس ونهش قبور الموتى. إنها الغَيْرَة الشيطانية التي تجعلنا نبرر لأنفسنا أبشع التصرفات والأقوال والأفعال والتباهي وكأننا الأبطال المدافعين عن الانجيل وعن الكنيسة وحتى عن الله ذاته، بينما نحن في الحقيقي نسعى فقط للحصول على المجد الباطل أو المكاسب الزمنية.
أصعب أنواع الغَيْرَة الشيطانية هو ذاك الذي يصل بصاحبه إلى العمى الروحي الكامل فتراه مقتنعًا بأفعاله اقتناعًا يجعله لا يسمح لأحد بمناقشته أو حتى للتساؤل حول جدوى ما يفعله وتأثيره على الآخرين وعلى نفسه. وكثيرًا ما يصاب أصحاب هذه الغَيْرَة بالغرور ويصح عليهم ما قاله أفلاطون: “الغرور هو طغيان الذات على العقل، فهو يعمي البصر عن رؤية الحقائق بوضوح ويجعل الإنسان يعيش في عالم من الخداع الذاتي”.
الغَيْرَة الشيطانية هي إذا تلك الحماسية التي تجعلنا نبرر كافة الوسائل للوصول إلى الهدف، ولا نشعر بالحاجة للمراجعة أو التوبة أو الاستماع للمعارضين بل تحقيرهم ووصفهم بأبشع الأوصاف. إنها حيلة إبليس التي يسقط فيها أغلب الذين ينطلقون من مبدأ الدفاع عن الحق حتى يصلوا لسحق كل شخص وكل فكرة وكل اختلاف. إنها تجرِبة أولئك الذين يتحولون لوحوش ولذئاب تتخفى في لباس الحملان، تبتسم في وجهك لتطعنك في ظهرك، تكلمك بمعسول الكلام والمنطق لتسميمك وتشويهك وسحقك. إن الغَيْرَة الشيطانية لا تفرق بين تجار الهيكل وباعة الحمام.
إنها الغَيْرَة الممقوتة التي تملأ النفس بالمرارة، والقسوة، والفشل، والإدانة.
وكم من الجرائم ارتكبت وترتكب باسم الغَيْرَة الرسولية؟ وباسم الدفاع عن الحق؟ وباسم قول الحقيقة مهما كان الثمن؟
الغَيْرَة الرسولية
هي الشغف بإعلان البشارة السارة والرغبة في بلوغ الآخرين ببشرى الإنجيل الخلاصية والسعي الصادق لتصحيح الخاطئين وليس سحقهم، لإدانة الخطيئة ومساعدة الخاطئ على التوبة، لإنصاف المظلوم والوقوف بجانب البريء مهما كان الثمن، للشهادة للحقيقة بالحياة قبل الكلام، للعمل فقط لمجد الله وخلاص النفوس وليس للمجد الذاتي والحصول على التصفيق أو المكاسب الزمنية.
إنها فضيلة القديسين والأبرار والشهداء الذين لا ينكرون إيمانهم مهما كان الثمن ويصفحون حتى عن قاتليهم ومعذبيهم بل ويبحثون عن تبرير افعالهم “إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون”.
الغَيْرَة الرسولية هي ضد اللامبالاة والكسل الروحي والانغلاق على الذات والهروب من مسؤولية حمل البشارة للآخرين: “الويل لي إن لم أبشر”. الغَيْرَة الرسولية هي قوت الإيمان وثمرته، وغذائه ومحركه. دون الغَيْرَة الرسولية يذبل الإيمان وتضعف الشهادة وينطفئ نور البشارة. الغَيْرَة الرسولية هي مصحوبة دائمًا بالصلاة والالتصاق بالله والتأمل ومراجعة الذات والتواضع والقدرة على قراءة الأحداث بعين الله. الغَيْرَة الرسولية هي التحلي بالشجاعة للنهوض عندما تسقط، وشجاعة الاعتذار عند الخطأ، وممارسة فضيلة “التمييز الروحي”.
الغَيْرَة الرسولية تدفعنا دائمًا لتحسين الأداء وابتكار الوسائل وعدم التحجر في أشكال وأنماط تاريخية وطقسية معتادة.
الغَيْرَة الإنجيلية هي التعبير عن فرح الإيمان بدعوة الآخرين له، والغيرة الحسنة سببها الحب، والباعث لها مجد الله، ويتحكم بها روح الحكمة، والتعقل، والإنصاف، وهي تهدف إلى نشر السلام، والحق، والخير، وتدعو للتوبة، ولذا يقول الروح في سفر الرؤيا “كن غيورًا وتب” (رؤ 3: 19)، وهو بهذا النداء يريد أن يوقظ الغَيْرَة المقدسة في الداخل، ويحرك الحماس في القلوب، فيعطي فرصة للتوبة.
فالغيرة الرسولية تدفع صاحبها أولا للتوبة حتى يتمكن من دعوة الآخرين لها “لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16). فالغيرة الرسولية لا تبحث عن كسب المواقف مهما كان الثمن، بل تقديم الشهادة الحقة حتى يصل الجميع للخلاص.
الفرق الأهم بين الغَيْرَة الشيطانية والغيرة الروحية هو أن الأولى تجعلنا مركز العالم، ومحور الصراع، ومرجعية الجدال، وغاية المناقشة، بينما الغَيْرَة الرسولية تجعل الله فقط هو مركز حياتنا ومحور وغاية تصرفاتنا، وخلاص الآخرين هو هدفنا الأهم والأوحد.
لنتذكر دائمًا أن غَيْرَة المسيح هي التي جعلتها يطرد ويطهر الهيكل من الباعة والمتاجرين والمفسدين ولكن دون أن يهدم الهيكل أو يعامل التجار والمربحين كما عامل باعة الحمام.
غَيْرَة المسيح هي التي جعلته أن يخلي نفسه، ويأخذ صورة العبد، ويطيع حتى الموت موت الصليب (ق. مز 119: 139).