بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد
حق الانتفاع هو مصطلح قانوني يشير إلى نوع من العقد بين طرفين أو أكثر. الطرف الأول يسمى المُقرِض (وهو مالك الأصل: منزل، أرض، سيارة، مؤلف، إلخ) والطرف الثاني هو المقتَرِض (هو الشخص الذي يحصل على هذا الأصل على سبيل الإعارة كحق انتفاع).
يتميز حق الانتفاع بثلاث خصائص.
الأول هو المجانية: يمكن للمقترض استخدام الأصل مجانًا، دون الحاجة إلى دفع أي إيجار أو رسوم.
الثاني هو ارتباطه بفترة محددة أو غير محددة: يمكن تحديد استخدام الأصل لمدة محددة أو حتى يحتاج المقرض إليه.
الثالث هو وجوب الرد: في نهاية الفترة المحددة يجب على المقترض أن يعيد الأصل بنفس الحالة التي استلمها فيه.
في الواقع لأن المقترض لا يملك حق التصرف في الأصل، بل فقط حق استخدامه، يمكننا القول إن كل ما لدينا هو على سبيل الإعارة للاستخدام، وأننا في الحقيقة لا نملك شيئا مما نعتقد أننا نملكه. لدينا وثائق أو مستندات ملكية لكل ما نملكه: شقة، أرض، سيارة، حساب مصرفي… إلخ ولكن في الواقع هذه الوثائق لا فرق بينها وبين عقود حق الانتفاع. جميع تلك الوثائق لها نفس خصائص حق الانتفاع والقرض: المجانية، الوقت، والاسترجاع.
فعلى سبيل المثال: نفس المنزل الذي نعيش فيه الان كان مسجلا باسم شخص آخر، وبعد بضع سنوات سيتم تسجيلها باسم شخص جديد. الآن لا يستطيع أحد أن يدخله إلا بإذننا وبمجرد أن نتركه لا يمكن أن ندخله إلا بأذن ساكنه الجديد.
كل شيء نملكه يشبه غرفة فندق، نختارها ونؤجرها لبضعة أيام ثم نسلمها لأصحابها، ليشغلها شخص أخر بعدنا، تمامًا مثل تذكرة مقعد في طائرة أو قطار، يظل ملكًا لنا لبضع ساعات وحتى نهاية الرحلة وقد نتشاجر إذا جلس أحد مكاننا ولكن بمجرد أن تنتهي الرحلة يأتي أخر ليجلس عليه، وقد يتشاجر معنا إذا أردنا الجلوس في مقعده!!
نتشاجر للدفاع عن حدودنا وممتلكاتنا ونتجادل ونبغض بعضنا، وقد ينتهي بنا الأمر إلى القتل والتناحر والخصام والحرب من أجل أشياء هي في الحقيقة عابرة ومؤقتة ولحظية وزائلة.
نعتقد أن أطفالنا هم ملكونا ولكنهم في الحقيقة هم أطفالنا لبضع سنوات فقط، كما كنا أطفالا لوالدينا لبضع سنوات. فهم عندما يكبرون ويصبح لديهم عائلاتهم، سيكون من الصعب عليهم أن يجدوا بعضا من الوقت لنا.، كما يصعب علينا الآن إيجاد الوقت من أجل زيارة والدينا.
نعتقد، ونحن صغار أننا شباب وأقوياء إلى الأبد، لكن في الواقع هي مسألة وقت، وسواء أردنا ذلك أم لم نرد، ستأتي الشيخوخة ونبدأ في فقدان النشاط والقوة وسندرك أننا كنا مخدوعين وأنه يعد إنجازًا عظيمًا مجرد الوقوف أو المشي أو الأكل أو القيام بأبسط الأمور.
نعتقد أن الصحة ملكنا حتى يزورنا المرض ونبدأ في فهم هشاشتنا وضعفنا، ونرى المستشفيات مكتظة بأشخاص كانوا يظنون أنهم يستطيعون تحريك الجبال.
نعتقد أن المناصب الوظيفية ملكا لنا وغالبًا ما نتصرف كالفرعون، الأمر الناهي، حتى يصل سن التقاعد ونترك المكتب، حيث أمضينا ساعات وأيام وسنين، ليأتي أخر ويجلس مكاننا ولا يمكننا دخول ذلك المكتب بدون إذن صاحبه الجديد.
نخدع أنفسنا بأننا السادة والأسياد والمالكون الأبديون ولكننا في الواقع مجرد “مقترضين” مؤقتين، ليس لدينا سوى “حق الانتفاع”. وأن حياتنا، وكل حياة، هي مجرد رحلة لها بداية وبلا شك ستكون لها نهاية.
إذا أدركنا هذه الحقيقة سنرى الحياة بأعين مختلفة وبقلوب حرة ومتحررة. سنصبح أكثر سعادة بما لدينا وسنكون أقل عبودية للأشياء وللناس. سنتوقف عن الاقتتال من أجل الأشياء العابرة، وسنتعلم من القديسين أن “كل شيء هو نعمة”، ومن الحكماء الذين اختاروا ألا يضيعوا حياتهم على أشياء زائلة، يجب علينا في النهاية ردها وتركها ليستفد من آخرون.
إذا أدركنا هذه الحقيقة، سنفهم أكثر كلمات يسوع للأخ الذي سأله: “يا معلم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث” فأجابه يسوع: “أبصروا واحذروا كل طمع، لأن حياة المرء، وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله. ثم ضرب لهم مثلا قال: رجل غني أخصبت أرضه، فقال في نفسه: ماذا أعمل؟ فليس لي ما أخزن فيه غلالي. ثم قال: أعمل هذا: أهدم أهرائي وأبني أكبر منها، فأخزن فيها جميع قمحي وأرزاقي. وأقول لنفسي: يا نفس، لك أرزاق وافرة تكفيك مؤونة سنين كثيرة، فاستريحي وكلي واشربي وتنعمي. فقال له الله: يا غبي، في هذه الليلة تسترد نفسك منك، فلمن يكون ما أعددته؟ فهكذا يكون مصير من يكنز لنفسه ولا يغتني عند الله” لو 12، 13 – 23.
يعلّمنا يسوع ما هي الملكية الحقيقية: “بيعوا أموالكم وتصدقوا بها واجعلوا لكم أكياسا لا تبلى، وكنزا في السموات لا ينفد، حيث لا سارق يدنو ولا سوس يفسد. فحيث يكون كنزكم يكون قلبكم” (لو 12: 33-34).
إذا أدركنا أن حياتنا وكل ما نملك هو هبة، هي نعمة، هي بخار يظهر قليلا ثم يضمحل (يع 14، 4)، سنتعلم احترام واستخدام الأشياء ومحبة وتقدير الأشخاص، وسنتحرر من الكثير من العبوديات العابرة والتي تخدعنا متنكرة بقناع الأشياء الباقية.
وعندئذ فقط سنرفع لله هذه الصلاة:
“أشكرك يا إلهي على كل ما لدي،
أشكرك على الوقت الذي منحتني إياه وغالبا ما اضعته خلف أمور فانية،
أشكرك على حياتي وأسرتي وصحتي،
أشكرك على الفرص التي منحتني إياها بسخاء،
أشكرك على العمل والدراسة
أشكرك على حسن وعلى سوء الحال
أشكرك على الصداقة والمحبة والأسرة
أشكرك على الصحة والسكن والطعام
لا تسمح لي يا ألهي أن أحيا أبدا مثل الكرامين القتلة أو صاحب الوزنة الواحدة أو الشاب الغني أو يهوذا الخائن،
ساعدني على فهم أن كل شيء هو نعمة منك، هو هبة على سيبل الاستعارة
واهدني بعد هذه الحياة أن اسمع صوتك يقول: “نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ” (مت 25: 23)، أمين!