كرامة الكنيسة في مواجهة الاضطهاد

كرامة الكنيسة في مواجهة الاضطهاد

نور الإيمان ينير الظلمات

تأملات للمونسنيور د. يوأنس لحظي جيد

الكنيسة هي جسد المسيح وهي مؤسسة بشرية وسماوية، تحيا بنعمة الله وبمجهود أبنائها المخلصين، وبمواهب الروح القدس الذي يقودها عبر التاريخ ويحميها ويحول حتى إخفاقات أبنائها إلى فرص للنمو والتصحيح والتقديس. مهمة الكنيسة هي عيش الإنجيل ونقل بشارة الخلاص وحفظ وديعة الإيمان ونشر محبة الله بين البشر. وقد واجهت الكنيسة، على مر العصور، العديد من التحديات والاضطهادات، والأوقات الصعبة، إلا أنها استطاعت دائما أن تتجاوز هذه المحن وتستمر في رسالتها. ويشهد التاريخ أن الكنيسة، بفضل تعضيد المسيح لها وبفضل جهد أبنائها المؤمنين، قد جابهت دائما الشر بالخير، والاضطهاد بالشهادة، والقمع بالصلاة، والظلم بصرامة المتيقنين من عدالة السماء.

فكيف تحفظ الكنيسة وجودها وشهادتها وكرامتها في مواجهة الاضطهاد؟ وكيف تعيش وتجابه أوقات الازمات؟ وما هو مصدر قوتها وثباتها وانتصارها عبر العصور؟

كرامة الكنيسة من كرامة المسيح

تكمن كرامة الكنيسة في كونها جسد المسيح الحي، وهي ليست مجرد مؤسسة بشرية تعتمد على قدرات البشر وامكانياتهم وملكاتهم، بل تعتمد قبل كل شيء على قوة الله وعمل الروح القدس الذي يحفظ بقائها برغم إخفاقات وخطايا وحتى جرائم وآثام بعض القائمين عليها. فالكنيسة هي الكرمة التي تعيش بفضل ثباتها في المسيح نفسه الذي وهب نفسه من أجلها. الكنيسة هي باختصار شعب العهد الجديد، المدعو لحمل نور الإنجيل في العالم وإلى العالم.

الاضطهاد والإيمان

الاضطهاد الذي تتعرض له الكنيسة ليس أمرًا جديدًا، بل هو جزء من تاريخها ومن حياتها اليومية. فقد تعرض المسيحيون للاضطهاد منذ العصور الأولى، ولا يزالون يتعرضون له في العديد من أنحاء العالم حتى اليوم. وتؤكد الاحصائيات الدولية أن بين كل عشر أشخاص مضطهدين في العالم بسبب الإيمان ثمان منهم مسيحيين. ويأخذ الاضطهاد أشكالاً مختلفة، منها الاضطهاد الديني، والسياسي، والاجتماعي والمادي والفكري والجسدي. وأخطر أنواع الاضطهاد هو ذاك المقنع والنابع من الداخل وأحيانا من أبناء الكنيسة حين يبيعون أنفسهم لسيد هذا العالم ويشترون هلاكهم بثلثين درهما. وعلينا ألا ننسى أن صلب المسيح جاء بعد خيانة التلميذ يهوذا له. وكم من يهوذا اليوم يبيعون المسيح وكنيسته بأبخس الأسعار؟

كيف تواجه الكنيسة الاضطهاد؟

أولا بالصلاة:

الصلاة هي سلاح المؤمن الأقوى، فمن خلال الصلاة، يتواصل المؤمنون مع الله ويطلبون منه القوة والشجاعة لمواجهة المحن. والويل لكنيسة تنسى أو تتناسى قوة الصلاة وتهمل الثقة في وعود الله بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها: “وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا” (مت 16، 18). الويل لكنيسة تهتم بأمور الدنيا فتكنز لنفسها كنوزا يأكلها السوس: “لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، نَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا” (مت 6، 19-21). الويل لكنيسة تعتقد أنها تحي بقوة ومجهود وشطارة القائمين عليها. والويل لكنيسة تنسى أهمية الركوع أمام القربان المقدس والتضرع والصلاة والتواصل مع قائدها ومخلصها يسوع المسيح.

ثانيا بالمحبة:

المحبة هي ما يميز المسيحيين. المحبة المعاشة والملموسة: “إِنْ قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟” (1 يو 4: 20). المحبة في الفرح والحزن، في أوقات السلام كما في أوقات الاضطهاد. إن دعوة المسيحيين هي محبة الجميع وحتى أعدائهم وأن يصلوا من أجلهم: “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ” (مت 5، 44-45). محبة المحسنين والكارهين، محبة القريبين والبعيدين، محبة الذين يبنون والذين يهدمون. فويل لكنيسة تسقط في تجربة الكراهية والانتقام والتعامل مع الأشرار بشر، ومع الكارهين بكراهية، ومع الفاسدين بفساد، لأن أكبر انتصار لعدوك هو جرك للأسفل واجبارك على التخلي عما يميزك عنه، وارغامك على النزول لمستواه.

ثالثا بالشهادة:

الشهادة هي إعلان الإيمان أمام العالم. عندما يواجه المسيحيون الاضطهاد، فإنهم يشهدون لمسيحهم ويظهرون للعالم قوة الإيمان الذي لا يُهزم. الشهادة تكون بإعلان الايمان بشجاعة لا تخاف الموت أو الناس، كما يعلمنا القديس بولس الرسول: “مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ. وَلَكِنَّنَا فِي هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ ولا أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً. وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا” (رو 8، 35-39).

رابعا بالوحدة:

الوحدة بين المؤمنين هي سر قوة الكنيسة، والتفرقة والتحزب هما سلاح عدو الخير في إضعاف الكنيسة. لذا كانت صلاة المسيح الأخيرة من أجل الكنيسة هي أن يصيروا تلميذه واحدا: “لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي” (يو 17، 21).

وكثيرا ما يسعى أعداء المسيح والكنيسة إلى تعزيز انقسام الكنيسة وزرع الشقاق بين أبنائها والتشكيك بين المؤمنين وبعضهم، وبينهم وبين رؤسائهم، لأنه كلما كثر الزوان كلما اختنقت الكنيسة ووهنت وصارت فريسة أسهل. إن اتحاد المسيحيين هو طريقهم الأوحد للانتصار على عواصف المحن والاضطهاد والتجارب.

خامسا بالرجاء:

الرجاء هو ثمرة الإيمان. المؤمنون يرجون المستقبل لأنهم يؤمنون بأن الله سينتصر في النهاية. وبأن أمواج واعاصير العالم لن تغمر ابدا سفينة المسيح. وأن المسيح مهما بدى غائبا أو نائما فإنه سينهض لنصرة كنيسته: “فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: اسْكُتْ! اِبْكَمْ! فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ” (مر 4: 39).

سادسا بالقانون:

إن احترام القانون هو ضرورة اجتماعية وايمانية وإنسانية. والكنيسة مدعوه دائما لاحترام قُوَّةِ القانونِ لا قانونِ القُوَّةِ. واحترام القانون يعني استخدام كافة السبل السلمية حتى يصل الحق إلى أصحابه وحتى يطبق القانون على الجميع بعدل لا يعرف المهادنة، وبحزم لا يعرف التفرقة بين الناس على أساس مستواهم الاجتماعي أو قدراتهم المالية. فالقانون الذي يطبق فقط على الفقراء والمستضعفين ويستثني أصحاب السلطة والمال هو قانون ظالم. وهنا يحذرنا القديس يعقوب: “يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، رَبِّ الْمَجْدِ، فِي الْمُحَابَاةِ” (يع 2، 1). وتطبيق القانون يعني أيضا السعي للعدالة الناجعة والابتعاد عن تجربة التراخي باسم الرحمة، أو التنازل باسم الرأفة، أو التكاسل باسم الشفقة.

فالسيد المسيح يعلمنا: “ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام”. أي أن نتصرف بحكمة الأبطال وبوداعة وثقة المؤمنين بعدالة السماء. فالوداعة لا تعني التنازل عن الحق أو الخنوع والحكمة لا تعني العنف وعدم اللباقة.

شهادة التاريخ

الكنيسة الأولى:

تعرض الرسل والمسيحيون الأوائل للاضطهاد الشديد من قبل الإمبراطورية الرومانية، إلا أنهم استطاعوا أن ينشروا الإنجيل في كل أنحاء العالم، وانتصروا بقوة ايمانهم وبفقر حياتهم وبصدق شهادتهم على أعظم الجيوش وأشرس الاضطهادات. سقطت الامبراطوريات وانهارت التحالفات وبقيت الكنيسة شامخة بفضل المسيح الذي يقودها.

الكنيسة في العصور الوسطى:

واجهت الكنيسة العديد من الانشقاقات والهرطقات والاضطهادات، إلا أنها استمرت من خلال حفظها لوديعة الإيمان. وكانت الكنيسة دائما نورا لم يستطع كل ظلام العالم أن يخفيه. اهتزت وتألمت وعانت وتوجعت ولكنها استمرت وانتصرت بفضل أمانتها للمسيح وبفضل نعمة الروح القدس الذي حول آلامها لانتصارات ودماء شهدائها إلى بذور حياة.

الكنيسة في العصر الحديث:

شهد القرن العشرين اضطهادات واسعة النطاق للمسيحيين في العديد من البلدان، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن الكنيسة استمرت في النمو والتوسع. فواجهت الكنيسة الفكر الالحادي والشيوعي وثقافة الاستهلاك والجماعات والعمليات الإرهابية فقط بوداعة الواثقين أن ما من قوة يمكنها أن تهزم المتكلين على الله. بقوة المؤمنين الذين يعلنون: “أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي” (مز 23، 4).

الكنيسة اليوم:

على الرغم من التحديات التي تواجهها الكنيسة اليوم، فإنها تبقى مؤسسة قوية وحيوية وحاضرة ومؤثرة وفعالة. الإيمان بالله وقوة الصلاة والوحدة بين المؤمنين هم عوامل أساسية تساعد الكنيسة على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، والانتصار على أبواب الجحيم.

ختاما

إن أكبر تجربة قد يستخدمها عدو الخير في محاربة الكنيسة هي إضعاف ايمان أبنائها والتشكيك في قدرة خدامها، والنهش في صلابة جذورها، وزرع الزوان بين أبناها. إنها تجربة الأيادي المهتزة والركب المرتعشة والعزائم المرتخية. إنها تجربة اعتماد الرعاة على قواهم وإمكانياتهم وأهوائهم ورؤيتهم والظن أنهم أصحاب الكرمة لا مجرد مستأجرين، عليهم تسليم حساب خدمتهم. إنها تجربة المؤمنين عندما يسقطون في تجربة نهش جسد المسيح بالأكاذيب أو الاشاعات أو بنشر اليأس والإحباط. إنها تجربة التخبط وغياب الرؤية ودفن الرؤوس في الرمال. إنها تجربة ضعف الإيمان بقوة الله والاعتماد على مقومات وأنظمة العالم ووضع الرجاء في البشر. إنها تجربة شعب الله اثناء سيره في البرية: خيانة العهد مع الرب وعبادة أوثان هذا العالم.

تجربة نسيان أن كرامة الكنيسة تكمن في كونها جسد المسيح الحي، وهي لا تُقهر مهما كانت الظروف.

علينا أن نتذكر دائما أن الاضطهاد هو اختبار لصدق وأصالة الإيمان، وهو فرصة للمؤمنين ليشهدوا لمسيحهم، من خلال الصلاة والحب والشهادة والوحدة والرجاء والعدل. فالكنيسة مهما بدت ضعيفة أو منقسمه فهي دائما عروس المسيح الجميلة والبهية والمشرقة والمنتصرة. ومهما بدت متخبطة ستتغلب على كل الصعاب وستستمر في نشر عطر الإنجيل الطيب في كل الخليقة.

تأملات للمونسنيور د. يوأنس لحظي جيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *