“الظلم المقدس” دعوة للتفكير

“الظلم المقدس” دعوة للتفكير

بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد

التكلم عن الظلم المقدس هو فرصة لطرح السؤال حول العَلاقة بين التدين والظلم، وكيف يمكن استغلال واستخدام الدين والتقوى لتبرير أفعال غير أخلاقية. واختيار تعبير “الظلم المقدس” هو تناقض في المصطلح، لأن الظلم هو انتهاك للحقوق، وهو ضد القيم الإنسانية والدينية الأساسية، بينما تشير كلمة “المقدس” إلى كلّ مَا هو مرتبط بالله القدوس وبالكمال الأخلاقي وبالعدل وبالسمو. فكيف يمكن أن يجتمع هذان التعبيران المتناقضان؟ إنه سؤال يضعنا أمام حقيقة تاريخية مؤلمة وهي وجود أمثلة عدّة حول استغلال الدين لتبرير أعمال ظالمة وأحيانا غير إنسانية.

الظلم المقنع والمختفي:

إن الظلم المقنع هو أكثر خطورة من الظلم الصريح، لأنه يصعب اكتشافه ومقاومته. إنه أبشع أنواع الظلم لأنه يتم تحت غطاء الإيمان والتواضع والتقوى كقناع لتبرير الأفعال الظالمة، حيث يتذرع الفاعل بأن أفعاله هي من أجل مصلحة أعلى أو لتنفيذ إرادة إلهية.

أمثلة تاريخية:

أولا الحروب الدينية:

تم تبرير العديد من الحروب الدينية باسم الدفاع عن الله، غير أنها في الواقع كانت في أغلبها حروب تم فيها استخدام اسم الله لتبرير السيطرة والعنف والإرهاب والقتل والظلم والقهر وارتكاب فظائع كبيرة. وأسوأ ما في تلك الحروب هو أن مَن يقوم بها يظن نفسه بطلًا وإذا قُتل شهيدًا، في حين أنه ببساطة قاتل قام باستغلال الدين ليبرر بشاعة أعماله.

ثانيًا محاكم التفتيش:

هي ممارسات قام بها بعض القائمين على الكنيسة في العصور الوسطى للقضاء على الهرطقة، ولكنها في بعض الأحيان تحولت إلى فظائع للانتقام من الخصوم وتبرير الظلم والقمع، وارتكبت فيها العديد من الانتهاكات لأبسط حقوق الإنسان وقيم الأخلاق.

ثالثًا العمليات الإرهابية:

مازلنا حتى اليوم نرى العديد من العمليات الإرهابية التي يقوم بها أناس يصرخون باسم الله أثناء تفجيرهم لكنائس وأماكن مدنية وأشخاص أبرياء. ولا تزال العديد من الجماعات المتطرفة تستخدم الدين لتبرير أعمال العنف والإرهاب.

رابعا الممارسات اليومية:

يُلاحظ كذلك أن بعض رجال الدين والمسؤولين يستغلون مواقعهم للتربح واستغلال الناس باسم الدين ولتبرير كافة أعمال الظلم والقهر. ويُقال إن أقل العمال حصولًا على حقوقهم هم العاملين في أماكن العبادة ومع رجال الدين.

يُلاحظ أيضًا أن العديد من المسؤولين يستغلون تبجيل واحترام المؤمنين لهم لإجبارهم على قَبُول الظلم والتعسف والاستبداد والطغيان وعدم الاعتراض عليه وقبوله وكأنه مشيئة الله. وهم يستخدمون في ذلك كل شيء دون خجل، ويبررون أعمالهم بترديد عبارات وآيات مثل: “ابن الطاعة تحل عليه البركة”، وكذلك “لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيْكَ الْبَرَكَةُ مِنْهُ، وَتَبْقَى بَرَكَتُهُ إِلَى الْمُنْتَهَى” (سي 3، 10). “يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ” (لو 22، 42). “سَمِعْتُمْ أنّهُ قِيلَ: عَينٌ بِعَينٍ وسِنّ بسِنّ. أمّا أنا فأقولُ لكُم: لا تُقاوِموا مَنْ يُسيءُ إلَيكُم. مَنْ لطَمَكَ على خَدّكَ الأيْمنِ، فحَوِّلْ لَه الآخَرَ” (مت 5، 38-43).

لماذا يحدث هذا؟

أولا أداة قمع مقنعة وبسيطة وفعالة:

يتم استخدام الظلم المقدس غالبًا كأداة للحصول على السلطة وممارسة النفوذ، فكلما كان المسؤول فارغًا وخاويًا من الإيمان كلما كان مستغلًا ومستخدمًا للإيمان من أجل أهوائه وامتيازاته الشخصية. فمن يؤمن حقا لا يسقط أبدًا في تجرِبة الظلم المقدس، بل يراجع نفسه ألف مرة قبل أن يظلم أحدا سواء بالقول أو بالفعل أو بالصمت أمام الظلم.

غالبا ما يمارس الظلم المقدس كل رجال الدين المرائين والمفتقرين لأبسط درجات الإنسانية والخير. يمارسه المنافقون الذين قال فيهم المسيح: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا” (متى 23: 15). يسقط في تجرِبة “الظلم المقدس” كذلك المسؤولون الذين يستغلون أماكنهم لإسكات أصوات الحق، ولأبعاد واستبعاد كل من يُظهر حقيقتهم وضعفهم ووهنهم وعجزهم.

ثانيًا كتعبير عن رفض المختلف:

يستخدم البعض الدين لتبرير الكراهيَة والخوف من الآخر المختلف. فكلما ضعفت الحجة كلما زاد المدافع عنها عنفا وظلما وقسوة وبطشا. ويشهد التاريخ على أن المؤمنين الحقيقيين يشهدون للحق دون السقوط في تجرِبة العنف أو الظلم، أما المؤمنين الزائفين فهم أكثر الناس صراخا وصياحًا وترديا للشعارات لتبرير تصرفاتهم الشريرة، مثل رئيس الكهنة قيافا: “فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا، لاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا!” (يو 11، 49 – 50).

ثالثًا كدليل على زَيف الإيمان:

يقول السيد المسيح: “لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!” (مت 7: 21- 23). فمَا أكثر المتوشحين بالإيمان لإخفاء بشاعة أنفسهم؟ وما أكثر المؤمنين الجاهلين بأبسط قواعد وتعاليم إيمانهم؟ وما أكثر الذين يتم خداعهم وإقناعهم بأن الغاية تبرر الوسيلة وبأن الطريق إلى السماء مفروش بدماء الأبرياء؟

كيف نحمي أنفسنا من بشاعة الظلم المقدس؟

أولا بتطبيق التفكير النقدي:

يجب تعلم التفكير النقدي وممارسة التساؤل والشك في جميع الأفكار والأقوال والأوامر، حتى تلك التي تأتي باسم الدين. فالله منحنا العقل لاستخدامه في التساؤل والحوار والتعمق في كل شيء وعدم قبول المسلمات وكأنها وحي إلهي لا يقبل النقاش. لنتذكر أن أجمل صلاة هي: “أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي! (الآية 24). وأن الكتاب المقدس يمدح أهل بلدة بيرية لأنهم بعد أن استمعوا إلى الرسول بولس وهو يكلمهم بأقوال الله، رجعوا وفحصوا الكتب ليتأكدوا من أقوال بولس. فمدخهم الوحي المقدس في أع 17، 11 قائلًا: “وَكَانَ هؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا؟”.

الكتاب المقدس يقول: “هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ” (إش 1: 18).

كما يقول رينيه ديكارت إنه “إذا أردت أن تكون باحثًا حقيقيًا عن الحقيقة، فمن الضروري أن تشك، على الأقل مرة واحدة في حياتك، في كل شيء بقدر الإمكان”.

الإيمان الحقيقي يسمح بالشك والسؤال والبحث ويشجع على ذلك لان الإيمان الحقيقي لا يتعارض مع العقل او البحث. فالشك ليس خطية بل أن عدم إعمال العقل هو الخطية، وقبول الأمور والمواقف الظالمة بدون تحليل ونقد هو الخطيئة.

ثانيًا الحوار والاحترام:

علينا دائمًا احترم آراء الآخرين ومن دلائل الاحترام الحوار المنفتح والصادق والبنوي حول كفة القضايا والأمور. فليس كل ما يقوله رجل الدين هو دين أو أمر إلهي لا يقبل النقد والنقاش.

السيدة مريم العذراء أما الملاك جبرائيل تعلمنا شجاعة الحوار والمناقشة والتساؤل: “كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟” (لو 1، 34). إن الله يحبنا كأبناء أحرار لا كعبيد خاضعين وخانعين. والمسيحية هي في الأساس دعوة للحرية: “فإنكم إنما دعيتم للحرية أيها الإخوة” (غل 5، 13). والسيد المسيح نفسه يعلمنا: “لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي” (يو 15، 15).

ثالثا وضوح التعليم:

إن الظلم المقدس هو نتيجة الخلط الواعي أو غير الواعي بين الظلام والنور، بين الحق والباطل، بين ما هو بشري وما هو إلهي. ولا يمكن مقاومة الظلم المقدس إلا بصرامة وضوح المفاهيم وعدم الخلط بين العدل وقيم المحبة والرحمة والتسامح. فالرحمة بدون عدل هي تواكل وهروب من المواجهة والعدل بلا رحمة هو قسوة مقنعة وأحيانا انتقام باسم الحق. والإيمان الحقيقي يدعونا لقول الحق بمحبة، ولعيش العدل برحمة.

خامسا مقاومة الظلم:

علينا دائمًا مقاومة أي شكل من أشكال التطرف الديني ورفض أي نوع من الظلم المقدس وتعلم أن حتى الصمت أمام الظلم هو مشاركة فيه وأن الله سيحاسبنا لا فقط على الشر الذي قمنا به ولكن أيضا على الظلم الذي كان بإمكاننا أن نرفعه ولكننا فضلنا السكوت والخنوع. سيحاسبنا على كل خير كان بإمكاننا القيام به ولكننا فضلنا الهروب والتطنيش والانسحاب. والسيد المسيح الذي يعلمنا الوداعة قائلًا: “مَنْ لطَمَكَ على خَدّكَ الأيْمنِ، فحَوِّلْ لَه الآخَرَ”، هو ذاته يعلمنا قول الحقيقة أمام الظلم، قائلًا: “إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟” (يو 18، 23).

في الختام

يذكرنا مصطلح “الظلم المقدس” بأن الإيمان يمكن أن يكون قوة عظيمة للخير، كما يمكن استخدامه أيضًا لأغراض شريرة. وإن أفظع الجرائم هي تلك التي تتنكر في ثوب الخير والورع. يذكرنا هذا المصطلح بأنه يجب علينا أن نكون حذرين من أي محاولة لاستخدام الدين لتبرير الظلم، وأن نعمل على بناء عالم قائم على العدالة والمساواة والاحترام المتبادل. فالمؤمن الحقيقي هو من يحيا حَسَبَ القاعدة الذهبية: “فكلُّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء” (متى 7، 12). المؤمن الحقيقي لا يظلم أحدا ولا يصمت أمام ظلم الآخرين ولا يستخدم أبدا إيمانه لتبرير الظلم.

ختامًا نؤكد أنه لا يوجد ظلم مقدس، كما لا يوجد ظلام مُنير، أو خير شرير، أو محبة كارهة، فكل ظلم هو شر مهما اختفى وتخفى خلف أقدس التبريرات وأخير الأعذار وأفضل الأقنعة. واستخدامنا لتعبير “الظلم المقدس” كان لتوضيح الظلم الذي يُمارس ضد الناس باسم المقدس أو باسم الدين أو باي اسم هو ممارسة بغيضة وحقيرة يقوم بها فقط مَن يحاولون تجميل بشاعتهم وإخفاء حقيقتهم وابتعادهم عن كل ما هو مقدس وإلهي وسماوي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *