فن التراجع أو الانهزام الحكيم

فن التراجع أو الانهزام الحكيم

حكمة لا تقل أهمية عن فن الانتصار

بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد

مقدمة

نحتاج جميعا لتعلم فن التعامل مع الناس والتدريب على مهارات هذا الفن، بهدف التحلي ببراعة التصرف بحكمة في معارك الحياة وكيفية مواجهة المشاكل والمواقف الجديدة والمعارك الصغيرة والكبيرة واليومية. يشمل هذا فن تعلم الانتصار والانهزام، والقيام والسقوط، التقدم والانسحاب، الصمت والكلام، التدخل والتراجع.

يركز أكثر الناس على أهمية الانتصار والتفوق وسحق الخصوم والتخطيط للاعتداء وتعلم استراتيجيات الهجوم، لكن هناك جانب آخر لا يقل أهمية عن هذه الجوانب، وهو فن معرفة التراجع أو ما يمكن أن نطلق عليه فن الانهزام الحكيم وقليلون هم الذين يجيدون هذا الفن.

فيعيشون أغلب الناس حياتهم في صراع مستمر لا نهاية له، وقد يحصلون على انتصارات بطعم الهزيمة، ويحققون إنجازات بطعم الانكسار.

إن التراجع في الوقت المناسب والصمت أمام بعض المواقف يمكن أن يكون مفتاح النصر الحقيقي في معارك الحياة وفي تكوين علاقات اجتماعية راسخة ومتينة وتحقيق انتصارات مستقبلية، وحماية النفس والإمكانيات من الخسائر الفادحة.

تعريف فن التراجع أو الانهزام الحكيم

فن التراجع أو الانهزام الحكيم هو القدرة على تقييم الوضع بدقة وهدوء والتحكم في الذات وفي ردود الأفعال الأولية والعفوية. إنه القدرة على اتخاذ قرار الانسحاب في الوقت المناسب، مع الحفاظ على الكرامة والخروج بأقل الخسائر وتفادي العنجهية والتكبر بهدف حماية الذات والممتلكات من الخسائر الكبيرة والحفاظ على الكرامة والقامة والقيمة.

إنه فن الالتزام بالواقعية، والقدرة على التكيف مع المتغيرات، والتفكير بعيد المدى، والثقة في الذات وفي عدالة الله. إنه فن الترفع والتعالي أمام المواقف التي تسحبنا للأسفل، وأمام الأشخاص الذين يريدون أن يجرونا في الوحل، وأمام الاختيارات التي سندفع ثمنها ندمًا وتحصرًا.

إنه فن الاحتفاظ بالصمت عندما نواجه همجية الصراخ، وفن الاحتفاظ بالقيم والمبادئ عندما يتطلب الانتصار اللحظي التنازل عنها، وفن التصرف برفعة واستقامة حتى وان تصرف الجميع بوضاعة وتلاعب.

إنه القدرة على رؤية الحاضر ببصيرة ترى المستقبل وتقيم النتائج.

إنه فن المحافظة على الثمين والباقي بتحمل مرارة خسارة المواقف الزائلة والمؤقتة.

إنه فن تعلم أن أكبر هزيمة هي نجاح عدوك في جرك للتصرف مثله، واستخدام ادوته والتفكير بطريقته واتباع دناءة أساليبه وسلوكه.

أسباب اللجوء إلى التراجع

هناك العديد من الأسباب التي قد تدفع الشخص إلى اتخاذ قرار الصمت أو التراجع، منها على سبيل المثال:

  • بشاعة الخصم: عندما نواجه اشخاص يفتقرون للحد الأدنى من الإنسانية والنخوة والرجولة والشهامة يكون من الأفضل الانسحاب وترك الأمر للزمن القادر وحده على إظهار حقيقة الأمور. فالزمن يكشف عاجلا أو آجلا الفرق بين الحديد والذهب، بين الزجاج والألماس، بين الادعاءات والحقائق، بين العنجهيات والإنجازات.
  • التفوق الكبير للخصم: عندما يتفوق الخصم بشكل كبير ومبالغ فيه عليك فإن التراجع قد يكون الخِيار الأفضل لتجنب الخسائر الفادحة والانسحاق الكامل، والسيد المسيح يعلمنا: “أَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لاَ يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا؟ إِلاَّ فَمَا دَامَ ذلِكَ بَعِيدًا، يُرْسِلُ سِفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ” (لو 14، 30 – 32).
  • حماية الذات والآخرين: من عدم الحكمة ادعاء الانتصار بخسارة كل شيء أو التركيز على هدف صغير وخسارة الأهداف الأهم والأكبر والأكثر قيمة. ومن الحكمة خسارة معركة من أجل كسب الحرب لأنه لا قيمة للانتصار في معركة يكون ثمنه خسارة كل شيء، ومن الرعونة التعنت في الأمور التافهة وخسارة الأمور النفيسة.
  • منح الفرصة: قد يكون التراجع هو الاختيار الأفضل للسماح بالتفكير والتقييم للموقف بطريقة أكثر هدوءً وعقلانية والاستعداد الأفضل للمواجهة. فكم من الأشخاص يتراجعون عن مواقفهم الخاطئة بمجرد أن نعطيهم الوقت الكاف للتفكير؟ وكم من المشاكل يمكن أن تُحل إن لم نصل بها للتحدي ونصب عليها بنزين العناد؟ وكم من الأسر يمكن أن يتم إنقاذها وتتخطى الأعاصير إن قرر أحد الطرفين التوقف عن إثبات أنه على حق، فمَا قيمة حقك إن كان ثمنه تدمير أسرتك وحياتك وحياة أبنائك وأسرتك؟
  • إرباك الخَصْم: يمكن أن يستخدم التراجع لإرباك الخصم وإجباره على التروي والتفكير والتراجع، وكسر دائرة الشر. إنالكثير من المشاكل تُحل عندما نتعلم ما قاله السيد المسيح: “وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا” (مت 5: 39 – 40).
  • تقييم الأمور بتروي وواقعية: من الحكمة تعلم حساب التكلفة وتقييم المواقف بميزان التروي، كما يعلمنا ذلك السيد المسيح: وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، قَائِلِينَ: هذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ” (لو 14، 28 – 29).

مبادئ فن الانهزام والتراجع الحكيم

  • الحفاظ على الانضباط: يجب الحفاظ على الانضباط والتماسك بالهدوء وضبط النفس وتجنب الهلع والفوضى والتسرع بالرد والاندفاع غير المحسوب.
  • التخطيط المسبق: الشخص الناجح هو الشخص الذي يتروى ويخطط ويدرس ويتعمق ويستعد للمواجهة برؤية واضحة ويمتلك القدرة على الاقدام كما على التراجع. فالقائد الذي يهاجم بلا خطة تراجع هو غالبًا بلا خبرة أو حكمة أو حنكة.
  • الحفاظ على قوة التركيز والتفكير: يجب الحفاظ على قوة التركيز والتفكير وتجنب المعارك الجانبية التي قد تؤدي إلى خسائر إضافية.
  • الاستعداد للرد المناسب: الانسحاب الحكيم لا يعني في كثير من الأحيان التنازل الكامل وقد يكون فقط لإعطاء النفس الوقت الكافي للعودة ولتحضير الرد المناسب، وطلب تدخل عناصر أخرى ووساطة بعض الحكماء.

أمثلة تاريخية

توجد العديد من الأمثلة التاريخية على فن الانهزام والتراجع الحكيم والانسحاب المتزن والصمت المعبر، ومن أشهر هذه الأمثلة:

  • صمت السيد المسيح أمام بيلاطس البنطي وأمام الاتهامات، فعندما تكون المحكمة مجرد تحصيل حاصل والحكم قد صدر قبل الدخول في المحكمة، وعندما نواجه أناس فقدوا الصواب واعمتهم الكراهية يكون من الحكمة الصمت لأن أي أدلة لن تفيد وأي دفاع سيتحول إلى اتهام. إن صمت المسيح هو صمت المظلوم الذي يسكت كي يتكلم الله، ويقبل كأس الظلم ليقينه بأنه بعد الظلام سيشرق النور، وبعد الصليب ستنفجر القيامة، وبعد صمت الله الظاهري سيحاكم كل إنسان حَسَبَ أعماله.
  • صمت يوسف: يحكي لنا الكتاب المقدس عن صمت يوسف أمام كراهية وغيرة أخوته، وأمام ظلم الفرعون وزوجته، وحتى أمام صمت الله الظاهري، إلى أن حوّل الله كل صبره إلى انتصار واستطاع أن يقول لإخوته: “أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا” (تك 50: 20).
  • تراجع نابليون أمام روسيا: على الرغم من الانتصارات الأولية، اضطر نابليون إلى التراجع أمام روسيا بسبب الظروف المناخية القاسية ومقاومة الروس الشرسة. هذا التراجع، رغم خسائره الفادحة، مكنه من الحفاظ على جزء كبير من جيشه والعودة إلى فرنسا. تراجع لأن الاستمرار كان يعني الفناء.

خاتمة

يتطلب فن الانهزام والتراجع الحكيم شجاعة وقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة. إنه فن اتخاذ القرارات الصعبة عندما تكون الظروف غير مناسبة. لهذا لا يستطيع ممارسة هذا الفن المتكبرون والمنتفخون وأنصاف المسؤولين وأصحاب الشخصيات غير الناضجة لأنه فن لا يدقنه سواء أصحاب البصيرة والرؤية.

ختاما نؤكد أن فنالانهزام الحكيم يختلف كليًّا عن الانتهازية والتلون وخيانة المبادئ والتراجع الجبان والهروب من أرض المعركة. ففي الحقيقة لا يستطيع ممارسة هذا الفن سوى الذين يرتفعون عن التفاهات ويصمتون أمام المهاترات ويثقون في عدالة السموات.

عنجهية الانتصار دائما والادعاء بعدم قبول الهزيمة مطلقا هي تعابير صبيانية تدل على عدم نضوج وعدم واقعية. لا نقصد هنا بالطبع الخنوع وقبول الظلم وعدم الدفاع عن الحق والحقوق والتنازل الرخيص أو الاستسهال… هذا جبن بل نقصد “لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا” (مت 5: 39 – 40). … انها تصرفات الأقوياء والشجعان وأصحاب القلوب الواثقة بالله وبالذات.

يقول جبران خليل جبران: “التجاهل انتقام راق، وصدقة جارية على فقراء الأدب”.

خلاصة القول:

اصمت عندما لا تنفع الكلمات

تجاهل الصغائر والمكائد والمهاترات

واعلم ان معدن الفرسان يُعرف وقت الازمات

تراجع للخلف أمام الشر والخبث والتفهات

حول خدك الآخر للمعتدين والأقزام ومدعي الانتصارات

ابتسم في وجه الظُلم فينهزم وينهار وتتبخر الآهات

كن شديد البأس، عفيف اللسان ولا تتلفظ بالمسيئات

لا تسمح لخصومك بجرك لوحل المستنقعات

حلق عاليا لترى تفاهة الدنيا وسخافة المكايد والمؤامرات

وثق دائما أن الله يرى ويعرف القلوب والنوايا والتصرفات 

وأن فجر الأحد سيأتي، مهما بدت منتصرة الظلمات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *