بعض الأمراض الشائعة والمخفية
بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد
أولًا تعريف تبلد أو موت الضمير:
الضمير هو البوصلة التي نهتدي بها في درب الحياة وهو استعدادٌ إنساني ونفسي لإِدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأَقوال والأَفكار، والتفرقة بينها، واستحسان الحسن واستقباح القبيح منها. إنه القدرة على إدراك وتقييم وفهم الحقائق التي تحدث داخلنا ومن حولنا. والضمير كأي مَلكة إنسانية يتكون وينضج عبر خبرات الإنسان ويتأثر بالبيئة المحيطة وبالتربية والتعليم والمجتمع وبكافة العوامل المحيطة بالإنسان. إنه ذلك الصوت الباطني الذي يخاطبنا ويهدينا ويرشدنا عندما يكون صالحًا ومستقيمًا كما بإمكانه أن يضللنا عندما يكون مريضًا أو سقيمًا أو متبلدًا أو مائتًا.
يقصد بموت أو تبلد الضمير حالة الإنسان النفسية والروحية والإنسانية حين يتوقف فيها الإنسان عن الشعور بالذنب أو الندم على أفعاله، وإن كانت تلك الأفعال تضر بالآخرين أو تنتهك القيم الأخلاقية أو الدينية أو أبسط قواعد التصرف الحضاري.
يعتبر هذا المرض حالة خطيرة، حيث يفقد الشخص القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، بين العدل والظلم، بين المستحب والمكروه، بين الرأفة والقسوة، بين الأمانة والسرقة، بين الشهامة والخساسة، بين التقوى والتظاهر.
المريض بهذا المرض يتصرف وكأنه يعيش في عالم بلا قيم أو مبادئ ويضرب بعرض الحائط المبادئ والقواعد والشرائع والوصايا المنظمة للحياة. إنه يجعل من نفسه المقياس ويأتي بأبشع الجرائم طالمَا سيستفيد هو، ويقوم بأقذر الأعمال مهما كانت نتائجها على الآخرين طالمَا سينتفع هو.
إن موت الضمير هو من أخطر أمراض عصرنا لأنه يُفقد صاحبها القدرة على تقييم أفعاله والندم عليها وبالتالي طلب العلاج. ومَن يحيا بضمير ماءت كمن يعيش بالقرب من القذرات يعتاد على رائحتها المقززة لدرجة أنها لا تزعجه، فيصبح بإمكانه أن يمثل أمام الناس “التقوى، والقداسة، والورع، والتدين”، ويمارس بعيدًا عن الناس أقذر الجرائم بدون إن يرى في ذلك أي عيب، لدرجة أنه يعتبر هذا ذكاءً وفطنة وحذاقة.
ثانيا خطورة تبلد الضمير:
يعتبر تبلد الضمير من الاضطرابات النفسية الخطيرة، لأنه كما سبق وأوضحنا يصيب البوصلة الداخلية ويطفئ في قلوبنا ذلك النور الذي نهتدي به. إنه مرض خطير لأن بإمكانه أن يصيب الجميع ويهدد سلامة المجتمع ويشكل خطرًا على الأفراد أنفسهم. إنه خطير لأن المصابون به يزدادون مرضًا وكلما ازدادوا مرض كلما رفضوا الاعتراف به وبالتالي طلب الشفاء. إنهم يدخلون في دائرة جهنمية تزداد دائمًا بشاعة وقباحة وتكبرًا. إنه خطير لأن الأشخاص الذين يعانون منه قد يرتكبون جرائم خطيرة دون الشعور بأي ندم أو خوف من العقاب أو حساب للنتائج. إنه خطير لأنه أيضا معدي وينتقل كالهشيم بين الناس ويحول المجتمعات التي يسيطر عليها إلى مجتمعات مريضة وفاشلة، يحولها إلى مجتمعات تتكلم طيلة الوقت عن الأخلاق ولكنا تحيا بلا أخلاق، تتظاهر طيلة الوقت بالدين والتدين وهي أبعد ما يكون عن الله، تتغنى بالبطولات والانتصارات وهي غارقة في الهزائم والانكسارات، تصوم وتصلي وتتصدق وهي تسرق مال الأيتام والارامل والفقراء. تعتقد أنها أفضل الأمم وهي في زيل البشرية والتحضر والإنسانية.
إن تبلد الضمير يحول الأشخاص والمجتمعات إلى مسوخ تعاني من الشيزوفرانيا والانفصام.
ثالثا أمثلة عملية على تبلد الضمير:
- رجل الدين: يعتبر رجل الدين من المعلمين الذين يجب أن يؤهلوا الآخرين لتكوين ضمائر حية وصالحة، فإن أصيب رجل الدين أو المعلم أو المربي بهذا الداء يتحول إلى شيطان فاسد ومفسد، يتحول إلى طبيب ينشر المرض بدلًا من الشفاء، يتحول إلى إنسان يبرر أبشع الجرائم ويدفع الناس للإتيان بأقذر الأفعال. إن مرض موت الضمير يجعله يحوّل معرفته وعلمه بالمبادئ الدينية إلى سلاح يبرر به أفعالهم ويضلل به الآخرين. ويشهد التاريخ على سقوط كثيرون من رجال الدين في هذا الفخ ودفعهم للناس نحو الخراب واستغلال سلطتهم الدينية للتربح واستخدام واستغلال التابعين لهم. من أكبر النماذج على هذا حالات الاعتداء على الأطفال وحالات تبرير الإرهاب والاغتصاب والسبي والعبودية والغنائم والتربح.
- المرتشي: المرتشي هو الشخص الذي يقبل أو يطلب رشوة مقابل قيامه بعمل أو الامتناع عن القيام بعمل من أعمال وظيفته أو منصبه. بمعنى آخر، هو الشخص الذي يستغل موقعه وسلطته للحصول على مصلحة شخصية على حساب المصلحة العامة. وهو بلا ضمير لأنه يستغل السلطة الممنوحة له لتحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة، ويخون الأمانة الموكلة إليه ويقوم بأعمال تضر بالمصالح العامة. والمرتشي يفتقر إلى الأخلاق والمبادئ ويقوم بأفعال غير قانونية وغير أخلاقية ويسعى إلى تحقيق مكاسب مالية سريعة وسهلة دون بذل أي جهد. ومن أمثلة المرتشي الموظف الذي يقبل رشوة لمنح ترخيص لبناء مبنى مخالف للمواصفات أو لتسريع إجراءات معاملة ما أو اتخاذ قرارات معينة لصالح شخص معين مقابل الحصول على مبالغ مالية. ومن عواقب الرشوة تدهور جودة الخِدْمَات العامة وزيادة الفساد، وتضخم ثروات الأفراد بطرق غير مشروعة، وزيادة التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، وتدمير الثقة في المؤسسات الحكومية وانتشار الفساد.
- القتل المتسلسل (Serial Killer): أي القاتل الذي يرتكب سلسلة من جرائم القتل بشكل متكرر دون الشعور بأي ندم أو تعاطف مع ضحاياه. قد يكون والد لأسرة ولأبناء ولكنه قد يحيا حياته بشكل طبيعي أمام الناس وفي الخفاء يجلب ضحاياه من الأطفال أو النساء أو المرضى ويمثل بجثثهم ويعتدي عليهم ثم يعود لممارسة حياته وكأن شيئا لم يكن.
- المعتدي جنسيًا على الأطفال والنساء: إنه ذئب بلا ضمير يستغل ضعف من أمامه ليعتدي عليه دون أن يرى في ذلك عيبا أو جرما. إنه يستغل سلطته الأبوية أو الأسرية أو العمرية أو الوظيفية أو التعليمية ليتحكم في ضحاياه ولإقناعهم بأن ما يقوم به هو من أجلهم ومن أجل صالحهم. إنه مجرم يستغل بدم بارد ضعف الجاني ويعتدي عليه دون أي شعور بالذنب.
- الفاسد: هو شخص يستغل مكان عمله أو السلطة التي يمارسها على الآخرين ليحصل على مكاسب شخصية. فهو يقبل الرشوة ولا يرى فيها عيبا. يستغل العاملين معه وتحته ولا يرى في ذلك عارا. إنه يعتدي نفسيا وجنسيا على من هو أقل منه ويعتبر ذلك نصاحة وفهلوة. والشخص الفاسد هو غالبا مُفسد كالسرطان يحاول التهام كل من حوله كي لا يشعر بأن ما يقوم به خطئا أو خطيئة. وكم من المسؤولين يستغلون مواقعهم للحصول على مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة.
رابعا أعراض تبلد الضمير:
- عدم الشعور بالذنب أو الندم: الشخص المصاب بتبلد أو موت الضمير لا يشعر بالذنب أو بالندم حتى بعد ارتكاب أفعال مؤذية وضارة ومدمرة.
- اللامبالاة بمشاعر الآخرين: المصاب بتبلد أو موت الضمير لا يبالي بمشاعر الآخرين وليست لديه القدرة على التعاطف معهم أو الشعور بنتائج تصرفاته عليهم. إنه غير مهتم سوى بنفسه وغير مكترث غير بمكاسبه.
- السلوك العدواني والمتهور: إنه لا يحترم القوانين أو القواعد الاجتماعية ويتصف غالبًا بالعدوانية والتهور والهمجية واللاإنسانية.
- الكذب والتلاعب بالآخرين: إنه كاذب محترف ومزور محترف يلعب ويتلاعب بأي شيء لتحقيق مكاسب شخصي.
- صعوبة في بناء العلاقات: المصاب بتبلد أو موت الضمير يجد صعوبة كبيرة في إقامة أو بناء أو الحفاظ على علاقات سوية بسبب عدم ثقته بنفسه وعدم ثقته بالآخرين، وبسبب عدم قدرته على تكوين روابط عاطفية عميقة، لأنه يرى الجميع عبر مرآة نفسه الفاسدة ويُسقط على الجميع بشاعة صورته.
خامسا أسباب تبلد الضمير:
- العوامل التربوية: يتكون الضمير في المراحل الأولى من الحياة ويتأثر بالتربية وبمثل وتصرفات الأهل في الأسرة وفي المدرسة والمجتمع. إنه مَلَكة تتشكل وتتأثر بالقيم والمبادئ والقواعد التي نتعلمها في الأسرة والكنيسة والجامع والمدرسة والمجتمع ووسائل التواصل.
- العوامل الوراثية: تلعب الجينات دورًا في تحديد كيفية استجابة الدماغ للمؤثرات الخارجية، مما قد يجعل بعض الأفراد أكثر عرضة للإصابة بتبلد الضمير، فيميل أغلب أبناء المجرمين إلى الإجرام وأغلب أبناء الصالحين للصلاح. بالطبع هذه القاعدة ليست قاطعة لأننا نجد قديسين ولدوا في بيئة وفي أسرة شريرة، وأشرار ولدوا في أسر خيرة وصالحة. نؤكد هنا أن الأشخاص الحساسون هم أكثر سماعا لصوت ضمائرهم أما المتبلدون فهم أقل حرصًا على سماعه أو اتباعه.
- خبرات الحياة: قد تؤدي بعض الإصابات الدماغية أو الأمراض العصبية إلى تغييرات في الشخصية وتؤثر على القدرة على الشعور بالتعاطف والندم. كما تؤثر خبرات الحياة على تقوية أو إضعاف صوت الضمير بداخلنا.
- العوامل البيئة: التربية القاسية أو الإهمال في الطفولة، والتعرض للعنف أو الصدمات النفسية، قد تساهم في تكوين شخصية عدوانية تفتقر إلى الضمير. فالطفل الذي ينشأ في بيئة عنيفة وقاسية وجافة هو أكثر عرضة لتبلد وموت الضمير.
- الإدمان: تعاطي المواد المخدرة والكحول بشكل مفرط قد يؤدي إلى تلف في الدماغ ويؤثر على القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة. ويجعل المدمن يتصرف بلا ضمير ولا يقيم نتائج أفعاله بل ويبرر كل ما يقوم به. فالمدمن هو عبد لإدمانه ولا قدرة لديه لسماع او اتباع صوت ضميره.
- القيم الأخلاقية والدينية: تؤثر القيم الأخلاقية والدينية على تشكيل الضمير تأثيرًا كبيرًا وتشكل الإطار والسياق الذي يتكون فيه الضمير. فالقيم الصالحة والواضحة والمستقيمة تخلق ضمائر صالحة وواضحة ومستقيمة والقيم الفاسدة والمتذبذبة والمنحرفة تخلق ضمائر فاسدة ومتذبذبة ومنحرفة.
سادسًا: الوقاية من تبلد الضمير:
- تربية الأطفال على القيم والأخلاق: يتكون الضمير في المراحل الأولى من الحياة ولذا يجب تعزيز الشعور بالمسؤولية والتعاطف مع الآخرين وتربية الأبناء على معرفة الصح والخطأ، القويم والفاسد، الممكن والمرفوض، المستقيم والمعوج. إن بناء منظومة القيم هو الأساس لتكوني الضمائر الصالحة والابتعاد عن الضمائر الفاسدة.
- توفير بيئة آمنة ومحبة للأطفال: يجب أن ينشأ الأطفال في بيئة صالحة لحمايتهم من الصدمات النفسية والعنف. وحمايتهم من التعرض لاعتداءات أو نماذج فاسدة أو لقصص لأشخاص حققوا النجاح والشهرة والمال من خلال السرقة والنهب والظلم.
- العلاج المبكر للاضطرابات النفسية: يجب عدم إهمال الأعراض الأولى لفساد الضمير لتجنب تفاقم المشكلة. فالضمير الفاسد لا يأتي في ليلة وضحاها وغالبا ما يبدأ الأمر بإغلاق العين أمام أمور تعتبر تافهة للوصول رويدا رويدا لارتكاب أمور بشعة. إنه مرض وككل مريض يسهل معالجته في مراحله الأولى ويصعب علاجه كلما توحش واستشرى.
- التوعية بخطورة هذا المرض: ونشر مفاسده على المصاب به وعلى المحطين به وتشجيع الجميع على طلب المساعدة عند الحاجة.
سابعًا طرق علاج تبلد الضمير:
- التوبة: لا يمكن الشفاء من تبلد الضمير إلا بالتوبة والاعتراف ببشاعة هذا المرض. والتوبة تعني الرغبة في التصحيح والصدق مع النفس وعدم التأجيل أو التسويف أو التبرير. التوبة تعني أن يعترف المريض بحاجته للعلاج ولطلب معونة الله للتخلص من تبلد الضمير الذي يقود إلى تبلد القلب والحياة بأكملها. التوبة تعني أيضا تعويض الأشخاص المتضررين ودفع فاتورة الجرائم المرتكبة وتقويم التصرف.
- العلاج النفسي: قد يحتاج الأمر أيضا إلى اللجوء للعلاج النفسي لمساعدة المريض على فهم أسباب سلوكه وتطوير مهارات جديدة للتكيف مع الحياة. والعلاج النفسي هنا يساعد الشخص على اكتشاف حاجته للعلاج ومصاحبته للخروج من هذا النفق المظلم.
- البرامج العلاجية: توجد بعض البرامج العلاجية المكثفة والتي تساعد في تعديل السلوك وتطوير مهارات التواصل الاجتماعي والوصول لمعرفة أننا لا يمكن لنا أن نحيا بسلام داخلي بدون الوصول إلى “الضمير الحي” والصالح والمطمئن.
ختامًا
هل انت صاحب ضمير حي أم ضمير ميت؟
أنت صاحب ضمير حي وصالح إذا كنت تحفظ الأمانة، وتصون العهد، وتتصرف باستقامة وصراحة وصدق… ولا تنام ليلا إن كنت تسببت في ظلم إنسان أو أخذت ما ليس لك أو اعتديت على ممتلكات الآخرين، أو استغليت نفوزك لظلم الناس.
أنت صاحب ضمير متبلد ومائت إذا كنت تتصرف بازدواجية، وتقبل بالظلم، وتتغاضى عن قول الحقيقة، وتسرق مال الآخرين، وتخون الأمانة، وترضى بالنهب، وتشارك في الاعتداء على حرمة وسمعة الآخرين… وتنام ليلا دون أن تشعر بالذنب.
نؤكد أن علاج تبلد الضمير هو عملية طويلة وشاقة ولكنها غير مستحيلة، وبرغم أنها تتطلب التزامًا من قبل المريض وعائلته إلا أن روعة العيش بضمير حي تجعل من يصل إلى الشفاء لا يشعر بعناء الطريق. فليس أجمل من أن يرى الإنسان نور الصلاح بعد أن عاش في ظلام الشر.
يبدأ العلاج بتبني القاعدة الذهبية التي علمنا أيها يسوع المسيح: “فكلُّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء” (متى 12، 7).
لنطلب من الله أن يمنحنا ضميرًا صالحا لا تجعله تجارِب الحياة القاسية يتبلد ولا تدفعه البيئة المحيطة للسكوت. ضميرًا حيا ومنيرًا مهما أحاطت به الظلمات والتجارب والمحبِطات. ضميرًا يستمد قوته من إيمانه بأن “مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” (مر 8، 36).
قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).