مرض الانكار
بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد
يُقال إن معرفة الداء هي نصف الشفاء، لان المعرفة تدفعنا للتفكير والتحليل والسعي لإيجاد حلول وعلاج. ولأن المعرفة تحتاج شجاعة وقدرة على مواجهة الأمور بصراحة وصدق ومسؤولية وشفافية فإن الكثيرين يخشون مجابة حقيقة أوضاعهم ويلجئون إلى الانكار والتبرير وأحيانا التهجم والاعتداء على من يكشف لهم الحقيقة.
لعلنا هنا نتذكر أن السيد المسيح، المسيا المنتظر، قد رُفِض وصلب من شعبه لأنه كشف لهم حقيقة عبادتهم الزائفة، وتقواهم الشكلية، وإيمانهم السطحي، وصلواتهم المصطنعة: “كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ” (يو 1، 10 – 11). رفضوا إزعاج النور المُحرِر لأنهم أرادوا أن يستمروا في راحة الظلام الزائفة. رفضوا صوت الحقيقة لأنهم أرادوا العيش في زيف اعتقادهم بأنهم “أولاد إبراهيم”، “الشعب المختار”، “نسل الأنبياء”، “أحفاد موسى النبي”.
لذا قال المسيح لهم: “تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ. كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ … لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ” (يو 4، 43 – 44).
هنا يلاحظ أن المجتمعات والمجموعات المنغلقة هي البيئة الحاضنة لأمراض التعنت والانكار والعنف ولانتشار العديد من الأمراض الخطيرة والتي غالبا، وبسبب التقاليد والخوف من الفضيحة ومن الاحكام المجتمعية، يتم إنكارها ويحاول المصابون بها او ضحاياه انكارها والتعرض بالعنف لمن يكشف وجودها.
سنحاول التعرض بالتحليل لبعض هذه الأمراض المنتشرة والمخفية، والتي غالبًا ما تُهمش أو يُستهان بها، برغم أن آثارها يمكن أن تكون عميقة وواسعة النطاق على حياة الفرد ومحيطه.
أولا مرض الأنكار
إن الإنكار هو أكثر الأمراض انتشارا لأنه أولى الآليات الدفاعية التي يلجأ لها المريض كدرع يحمي به نفسه. والإنكار هو إحدى الآليات الدفاعية النفسية الشائعة جدا والتي يستخدمها الفرد لمواجهة المشاعر المؤلمة أو الأفكار المخيفة أو المواقف صعبة. فعندما يواجه الإنسان حدثًا مؤلمًا أو صدمة نفسية، أو حقيقة مزعجة، يجد صعوبة في تقبلها، يلجأ إلى إنكار حصولها أو أهميتها. يقوم المرضى بالإنكار لأن الانكار يجعلهم يشعرون أنهم بمأمن، وكأن رفض وجود الامر يعني إلغاء وجوده، ودفن الرأس في الرمال يعني تلاشي الخطر.
أسباب لجوء الأشخاص للإنكار؟
يلجأ الأشخاص إلى الانكار بسبب:
- حماية النفس يُستخدم الإنكار بمثابة درع يحمي به المرء نفسه من ألم ومعاناة مجابة الحقيقة. إن الانكار هو أسهل الطرق لأقناع الذات والآخرين أن الوضع ليس بالسوء أو الخطورة وبالتالي عدم الحاجة لتغيير الوضع القائم.
- الهروب من المواجهة يساعد الإنكار الفرد على تجنب مواجهة الصراعات الداخلية أو الخارجية. تحتاج المواجهة شجاعة وأغلب الناس يفتقدون لشجاعة المواجهة، لأن الاعتراف بالأمر يعني ببساطة ضرورة العمل على مجابهته وبذل الجهد والعرق في علاجه، واتخاذ الإجراءات والقرارات لتحسينه وعلاجه. وأغلب الناس يفضلون البقاء في وحل خداع الذات على التحلي بعزيمة القيام والنهوض والوقوف.
- الحفاظ على صورة ذاتية إيجابية يساعد الإنكار الفرد على الحفاظ على صورة إيجابية عن نفسه. إن الاعتراف بقباحة بعض تصرفاتنا وخطأ بعض قراراتنا وسذاجة بعض اختياراتنا وتفاهة بعض اعتقاداتنا هو أمر في غاية الصعوبة ويحتاج لنضج نفسي وروحي وإنساني كبير، وهو غاية لا يصل لها سوى القليلون.
أشكال الإنكار
يتخذ الانكار اشكالا مختلفة منها:
- إنكار الحقيقة رفض الاعتراف بحقيقة معينة، مثل المرض أو الخيانة أو الفشل والادعاء بعدم وجود الامر برمته والتهجم على من يدعي أو يظن أو يقول أو يفكر خلافا لذلك.
- إنكار المشاعر وهوقمع المشاعر المؤلمة مثل الحزن أو الغضب والتظاهر بأن شيئا لم يكن، وهو غالبا ما يحدث عندما نجد أنفسنا أمام أخبار محزنة مثل موت شخص عزيز أو أخبار مؤلمة مثل الإصابة بمرض خطير أو أخبار محبطة كالسقوط في اختبار ما أو ضياع فرصة مهمة.
- إنكار المسؤولية وهورفض تحمل المسؤولية عن الأفعال أو الأخطاء وتأكيد أن الأسباب خارجة عن الإرادة والسعي لتبرير الأوضاع ونسبها لظروف أو أشخاص أو أحوال أخرى لا علاقة لنا بها.
- إنكار الأثر أي التقليل من شأن تأثير حدث ما على الحياة، وادعاء تفاهة الأمر وعدم احتياجه لمواجهة أو حتى لتفكير.
أضرار مرض الإنكار
على الرغم من أن الإنكار قد يكون آلية دفاعية مفيدة في المدى القصير، وفي بعض الأحيان، إلا أنه قد يكون له آثار سلبية طويلة الأمد إذا استمر لفترة طويلة، وإذا تحول من مجرد إعطاء فرصة للنفس للتفكير والتقييم إلى موقف نهائي، مثل:
- تدهور العلاقات يؤدي الإنكار إلى تدهور العلاقات مع الآخرين، فلا أحد يُحب أن يتعامل مع أولئك الذين ينكرون الحقيقة ويدعون خلافها. وغالبا ما يؤول الأمر إلى تجنب الأشخاص الذين قال عنهم نجيب محفوظ: “إنهم يكذبون ويعلمون إنهم كذابون ويعلمون إننا نعلم إنهم كذابون ومع ذلك فهم يكذبون بأعلى صوت“.
- عدم حل المشكلات يمنع الإنكار الفرد من مواجهة المشكلات وحلها وغالبا ما يقود الإنكار إلى مزيد من التعقد والتدهور والتراجع والانتكاس، فدفن المخلفات أسفل السجادة يعرض البيت لوباء ولخطر أكبر.
- زيادة التوتر والقلق يؤدي تراكم المشاعر المكبوتة إلى زيادة التوتر والقلق. فالإنكار يمنح المرء شعورا زائفا بالراحة وهو غالبا ما يختفي بمجرد ملاحظة أن الأوضاع ازدادت قبحا وسوءا وتدهورا.
- تأثير على الصحة الجسدية يؤدي الإنكار إلى مشاكل صحية جسدية لأن المشاعر المكبوتة لا تموت بل تختفي وتتخفى لتظهر بصورة أقوى وأسواء. وغالبا ما تقود لتدهور حالة المرء النفسية والروحية والجسدية. ويُقال إن اغلب أمراضنا الجسدية هي نتيجة لأمراضنا النفسية ولإنكارنا لحقيقة وضعنا.
- الازدواجية يقود الانكار إلى حياة مزدوجةفالمرء من ناحية يعرف حقيقة وضعه ومن ناحية أخرى ينكر هذه الحقيقة فيحيا بذلك في حرب داخلية لا نهاية لها. حرب لا يمكن الانتصار فيها إلا بالتحلي بتواضع الاعتراف بالحقيقة وبمواجهة الأمور بدون تأجيل أو مماطلة أو تجميل أو تسويف.
أمثلة واقعية لتوضيح مرض الإنكار
أمثلة في الحياة اليومية:
- الإدمان: ينكر الشخص المدمن أنه لديه مشكلة، ويصر على أنه يستطيع الإقلاع عن الإدمان أو التدخين في أي وقت.
- العلاقات الزوجية: غالبا من ينكر الشريك المعتدي أنه يسيء لشريكة الآخر أو أنه يعامله بشكل سيء، بل ونجده دائما يبرر سلوكه ويتهم الطرف الآخر بانه السبب.
- العلاقات المسمومة: نجد ضحايا العلاقات المسمومة والمرضية ينكرون غالبا أنهم ضحايا هذا النوع من علاقات – وسنتعرض في مقالاتنا المستقبلية لمتلازمة ستوكهولم.
- المرض: يتصرف العديد من المصابين بأمراض خطيرة برفض الاعتراف بحالتهم الصحية، وتأجيل زيارة الطبيب ورفض العلاج.
- الفشل: يفشل طالب في امتحان مهم فينكر أن سبب الفشل هو عدم المذاكرة الكافية ويتحجج بألف حجة ويتفلسف لساعات بدلا من قول الحقيقة.
أمثلة تاريخية:
- إنكار المحرقة: مازال بعض الأشخاص ينكرون وقوع المحرقة النازية، على الرغم من الأدلة التاريخية الكثيرة.
- إنكار التطعيم: أمام جائحة كرونا وجدنا آلاف بل ملايين الأشخاص يخرجون في مظاهرات ضد التطعيم وفي بعض الأحيان لإنكار وجود جائحة كرونا نفسها.
- إنكار التغير المناخي: ينكر بعض الأشخاص حقيقة التغير المناخي وآثاره المدمرة برغم من آثاره التي نحياها يوميا.
أمثلة دينية:
- مظاهر دينية خارجية وسطحية: يعتمد كثيرون من المؤمنين على بعض المظاهر الدينية الخارجية ويعتقدون بذلك أنهم أفضل الناس وأروع الشعوب ومحل فخر الأمم، وينكرون حقيقة أنهم أكثر الشعوب تخلفا وجهلا وصراعا، وأن الرياء الديني والتدين الخارجي هو تشويه لدين نفسه.
- الإرهاب باسم الله: ترفع المجموعاتالإرهابيةشعارات دينية وتستشهد بآيات وبتراث ديني كي تنكر أن ما تقوم به من إرهاب وقتل وتفجير هو ضد ابسط معايير الإنسانية والتعايش الحضاري.
- دفن الرأس في الرمال: نرى العديد من الأوضاع التنظيمية المهلهلة والصراعات على السلطة والخلافات والمؤامرات والدسائس والمكايد حتى بين رجال الدين، أوضاع محزنة ومخزية يراها حتى الأعمى ولكن القائمين عليها أصحابها يدعون وببجاحه أنها غير موجودة.
العلاج:
الإنكار ليس مرضا لا شفاء منه في حد ذاته وهو آلية دفاعية طبيعية يلجأ لها جميع الناس ولكنه يتحول إلى مرض خطير فقط عندما يتحول من آلية دفاعية متطرفة وغير قابلة للنقاش وإلى طريقة عيش، ونهج تعامل، وملجئ وحيد لمجابة المواقف وللتعامل مع المشاكل ومع الحقائق.
الاعتراف بالداء هو نصف الشفاء، والسعي للعلاج هو النصف الآخر. يحتاج العلاج لكثير من التواضع وفي بعض الأحيان للتوجه لمختص يمكنه تشخيص الوضع وتقديم الارشاد والعلاج اللازمين. وتعلم ان التغلب على الإنكار يتطلب جهدًا وصراحة ومساعدة من الآخرين.
فإذا كنت تشعر بأنك تستخدم الإنكار كآلية دفاعية بشكل متكرر ومرضي، فمن المهم أن تبدأ بالاعتراف بذلك وتسعى لمجابهته بدون تأخير، لأن التأجيل ليس علاج، ولأن إنكار الإنكار لا يداويه بل يزيده توحشا واستوحاشا.
سنتعرض في الأسابيع القادمة لبعض الامراض الأخرى (للحديث بقية).