ثانيا مرض الإسقاط
بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد
ثانيا مرض الإسقاط
هل الإسقاط هو آلية دفاعية أم مرض نفسي؟
الإسقاط النفسي (Psychological Projection) وهي آلية دفاعية غير واعية يقوم بها الفرد عن طريق أن ينسب إلى الآخرين صفات أو مشاعر سلبية يعاني هو منها. فهو بدلًا من الاعتراف بوجود هذه الصفات أو المشاعر لديه، فإنه يتهم الآخرين بامتلاكها. الإسقاط هو حيلة دفاعية من الحيل النفسية اللاشعورية، وعملية هجوم يحمي الفرد بها نفسه بإلصاق عيوبه ونقائصه ورغباته المحرمة أو المستهجنة بالآخرين، كما أنها عملية لوم للآخرين على ما فشل هو فيه بسبب ما يضعونه أمامه من عقبات وما يوقعونه فيه من زلات أو أخطاء.
الإسقاط النفسي هو إذا آلية نفسية شائعة يعزو الشخص بوساطتها أو عن طريقها للآخرين أحاسيس وعواطف ومشاعر يكون قد كبتها بداخله. ويظن الكثير من الناس أن هذه الحيلة الدفاعية تقلل من القلق الناتج من مواجهة سمات شخصية مهددة، وتظهر هنا مرة أخرى آلية القمع أو الكبت.
الإسقاط النفسي هو أيضا اتهام الآخرين بما نعاني منه للهروب من المسؤولية.
وقد عرف سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي الإسقاط بأنها “أولًا حيلة لا شعورية من حيل دفاع الأنا بمقتضاها ينسب الشخص إلى غيره ميولًا وأفكارًا مستمدة من خبرته الذاتية ويرفض الاعتراف بها لما تسببه من ألم وما تثيره من مشاعر الذنب، فالإسقاط بهذه المثابة وسيلة للكبت أي أسلوب لاستبعاد العناصر النفسية المؤلمة عن حيز الشعور”.
إنه آلية لا شعورية ويختلف الإسقاط عن التبرير برغم أن كلاهما حيلة دفاعية يلجأ إليها الفرد – في أن الإسقاط هو عملية دفاع ضد الآخرين في الخارج، أما التبرير فهي عملية كذب على النفس.
أمثلة يومية على الإسقاط النفسي:
الشخص الفاشل: غالبًا ما يدعي أنه أفضل الناس وأنه يستحق معاملة مختلفة وأن ما يمر به هو بسبب الظروف الخارجية وغيرة الآخرين منه ومن إمكانياته المهولة. إنه فاشل ويعرف أنه فاشل ولكنه ينسب أسباب فشله للآخرين ولا يرى في مَنْ حوله سوى النقائص والعيوب ولا يرى في ذاته إلا الكمال والذكاء والجمال والروعة.
الشخص الغيور: غالبًا ما يتهم شريكه بالخيانة، رغم أنه هو من يشعر بالرغبة في الخيانة. وهو يعامل شريكه بجفاء وكأنه يعاقبه على الخيانة التي غالبًا هو من يقوم بها أو يفكر بها. فالرجل الذي يخون زوجته كثيراً ما يتهم زوجته بالخيانة ويشك فيها كثيراً أو الزوجة الخائنة التي دأبت على كبت ميولها إلى اقتراف الزنا، تصبح على درجة مبالغ فيها من الغيرة بحيث تتهم زوجها بالخيانة. فالشخص الخائن يعرف أنه خائن ولكنه يسقط على شريك حياته الخيانة كي لا يشعر بالذنب ويهرب من تأنيب الضمير.
الشخص العنيف: قد يتهم الآخرين بالعدوانية، بينما هو في الواقع يحمل الكثير من الغضب والكبت. إنه في حالة غضب دائم ويهاجم من يحاول أن يقترب منه أو يهدأ من روعه. إنه في حالة دائمة من الصراع والتناحر ولكنه ينسب دائما أسباب حالته للآخرين وتجده دائما ينتقد العدوانية ويشرح لك النتائج المدمرة للعنف والغضب. إنه عنيف وقاسي ولكنه يتغنى بالهدوء والحلم والشفقة وينتقد الأشخاص العنيفين.
الشخص الكاذب: غالبًا ما يشكك في صدق الآخرين ويتهمهم بالكذب، رغم أنه هو نفسه يميل إلى المبالغة أو التلفيق. فلا يوجد كاذب يعترف بكونه كاذب بل في الغالب تجده يقسم بالله وبالسماء والملائكة أنه صادق. فكلما تكلم الإنسان عن صدقه وامانته كلما حق لنا الشك في صدقه وأمانته. فالصادق لا يحتاج إلى أن يتباهى بصدقه والأمين لا يحتاج إلى أن يستعرض أمانته. فالكاذب يتهم معظم الناس بالكذب، والإسقاط قد يؤدي إلى عدوان مادي ومعنوي.
الشخص الكسول: قد ينتقد الآخرين لعدم كفاءتهم أو إنتاجيتهم، بينما هو نفسه يتجنب المسؤولية ويهرب من عمل ويتجنب كل مجهود ويتكلم لساعات وساعات عن ضرورة الجهد والعمل. ونجد الموظف الكسول يحمل مشاعر عدوانية نحو رئيسه ويتصور أن رئيسه يكيد له ويتربص به لكي يؤذيه ومن ثم يبادر بالهجوم والاعتداء عليه، وهكذا تدفع هذه الحيلة المضربين إلى نَسب ما في أنفسهم إلى الناس والتعامل معهم على هذا الأساس، ومن ثم يقومون بارتكاب جرائم فعلية.
الشخص الجنسي: الشخص المهوس جنسيا والذي يفكر ليلا نهارا في الجنس وفي نزعاته العدوانية والجنسية فهو غالبًا ما يلجأ للإسقاط كي يخفف من قلقه حين ينسب هذه النزعات العدوانية والجنسية إلى غيره من الناس، وادعاء أنهم هم الذين يميلون إلى العدوان وهم الذين يفكرون بالاعتداء على الناس وهم الذين لا يفكرون في شيء سوى الجنس… إنه يعتقد أنه بإسقاطه لمشاعره الدفينة وإلصاقها بالآخرين فهو برئ من تلك المشاعر والنزوات. فهو متحرش ولكنه ينسب ذلك إلى لباس المرأة وإلى تصرفاتها ويحاول أن يغلفها كي يغلف في الحقيقة حقارة رغباته وشهواته الجنسية
السياسي الفاسد: يتهم السياسي الفاسد خصومه بالفساد وينتقد ويصف النظام السياسي بالخراب والسياسيين الخصوم بالانحلال والتربح من المنصب.
المسؤول الفاشل: يبكت التابعين له ويصفهم بعدم الكفاءة ويقلل من زملائه ويعترض على نظام العمل الجائر وينتقد الجميع إلا نفسه.
الوالد المتسلط: يتهم الأبُ المتسلط أبنائه بالعصيان وزوجته بالتقصير وأقاربه بعد المبالاة.
الشخص المتسلط: يتهم الآخرين بالتسلط والتحكم، بينما هو نفسه يسعى دائمًا للسيطرة على الآخرين، ويمارس على من حوله أفظع أنواع التحكم والتسلط. فكل دكتاتور ينسب إلى الظروف وإلى الشعب وإلى الظروف أسباب دكتاتوريته، فلا يوجد دكتاتور يعترف بأنه دكتاتور بل ستجده يتكلم لساعات وساعات عن “قوى الشر” وحاجة الدولة له، وأن الديمقراطية ستجلب الخراب.
الشخص المتدين: المدعي التدين هو شخص غالبًا ما يستخدم التدين الخارجي للتربح ولاكتساب مزيد من السلطة والنفوذ. إنه يحاول أن يظهر للآخرين الورع ويمارس كافة مظاهر التقوى والصوم والصلاة كي يخدع الآخرين. إنه منافق يستخدم الدين لمنافعه الشخصية. كلما كان الإنسان متزمتًا ومتشددًا ومتطرفًا في ممارسته الدينية كلما كان منافقًا وخادعًا لنفسه ولله والآخرين. فالمتدين الحقيقي يعبر عن تدينه في الخفاء ومن خلال ممارسات الخير والعطف والتعطف، أما المتدين الكاذب فهو يركز فقط على الخارج وتجد دائمًا في حالة غضب وسخط واستياء واتهام للآخرين بالابتعاد عن الدين الحقيقي.
برجاء العودة لموضوع: موقف السيد المسيح من النفاق والمنافقين
أسباب الالتجاء إلى الإسقاط؟
أولا الهروب من المسؤولية بممارسة قاعدة الهجوم هو أفضل طريقة للدفاع. فنجد الشخص يمارس التبجح والتهجم على كل من يفسر له بعض الأمور أو يشرح له بعض الصعوبات أو يعرض عليه بعض المشاكل. فبمجرد أن يشعر أنه الوضع به نوع من الاتهام له فهو يسارع بالهروب من المسؤولية الشخصية بإسقاط ما يمر هو به على الآخرين وعلى الظروف والأحوال.
ثانيًا الحماية من الألم النفسي: قد يكون من الصعب جدًا الاعتراف بوجود صفات سلبية أو مشاعر مؤلمة داخل أنفسنا. لذلك، فإن إلقاء اللوم على الآخرين يساعدنا على تجنب مواجهة هذه المشاعر المؤلمة. فبدلًا من مواجهة الحقيقة يسعى الشخص إلى حماية نفسه برفض الاعتراف بالحقيقة والانغلاق في قلعة اتهام الآخرين وإسقاط حقيقته عليهم.
ثالثًا تحسين صورة الذات: من خلال إلقاء اللوم على الآخرين، فإننا نحاول الحفاظ على صورة إيجابية عن أنفسنا. فالفرد يسعى إلى مهاجمة الآخرين ليؤكد لنفسه ولمن حوله أنه ليس هو سبب المشكلة بل الآخرين والظروف في محاولة يائسة لتحسين صورة الذات ورسم لوحة مزيفة لإخفاء الحقيقة.
رابعا التحكم في الموقف: نلجأ إلى الإسقاط كوسيلة للسيطرة على الموقف أو على الآخرين وفرض السيطرة والهروب من الانهيار. عندما يواجه الشخص حدثًا مؤلمًا مثل الإسقاط، فإنه يسعى بشكل طبيعي إلى فهم الأسباب. قد يؤدي هذا البحث عن تفسيرات إلى اتهام الذات أو الآخرين، خاصة إذا كانت هناك عوامل غير واضحة أو غير قابلة للسيطرة.
كيف نتجاوز الإسقاط؟
أولا الوعي الذاتي: الخطوة الأولى هي الاعتراف بوجود هذه الآلية الدفاعية في أنفسنا. فأخطر الأمراض هي تلك التي تنهش فينا دون أن نشعر بها أو نعترف بوجودها. فالأمراض العضوية التي تجعلنا نشعر بالآلام هي غالبًا قابلة للشفاء لأننا مهما حاولنا إخفائها فهي تجبرنا على الإسراع للطبيب واتباع العلاج أما الأمراض غير المصحوبة بالألم في أمراض خبيثة نكتشفها عندما تكون الأوضع خارج السيطرة وغالبًا بعد فوات الأوان، لذا فأول شيء يجب علينا فعله أمام مرض الإسقاط هو الاعتراف به والاعتراف بأننا نستخدمه كثيرًا لنخدع أنفسنا والآخرين ولنهرب من تحمل المسؤولية.
ثانيًا التقبل: قَبُول أنفسنا بصفاتنا الإيجابية والسلبية على حد سواء هو بداية النضج الإنساني. فرسم صورة وردية للذات هي خدعة تقودنا فقط إلى تشويه وتجريح أنفسنا والآخرين.
ثالثًا تحمل المسؤولية: الشخص الناضج هو من يحمل مسؤولية أفعاله ومشاعره ولا يعلق اخفاقه على شماعة الظروف الخارجية. هو من لا يهرب أمام حقيقة الأمور ويجابه قباحة مواقفه دون التخفي والتلون واتهام الآخرين.
رابعا التواصل الصريح: التحدث بصراحة مع أنفسنا ومع الآخرين حول ما نشعر به. ففحص الضمير اليومي هو علاج فعال في مجابهة مرض الإسقاط والتراجع عن مواقفنا السلبية والاعتذار عن اتهاماتنا الرخيصة للآخرين، واتخاذ المواقف والإجراءات الصحيحة.
خامسًا طلب المساعدة: اللجوء إلى معالج نفسي أو متخصص يمكن أن يكون مفيدًا جدًا في فهم وتجاوز هذه الآلية الدفاعية والخروج من هذا النفق المظلم.
ختامًا
الإسقاط هو سلوك بشري طبيعي، ولكن من المهم أن نكون واعين به وأن نسعى إلى تجاوزه، من خلال فهم أسبابه وتعلم مهارات جديدة للتكيف، وبناء علاقات أكثر صحة وسعادة مع أنفسنا ومع الآخرين. الإسقاط يتحول إلى مرض نفسي يحتاج للعلاج عندما ينتقل من مجرد آلية للدفاع عن النفس إلى سلوك ثابت وإلى موقف غير قابل للنقاش وإلى وسيلة وحيد لمجابهة الأمور والصعاب والحقائق. إنه مرض عندما يحجب عنا نور الحقيقة ويمنعنا من النمو والتقدم والنضج. إنه مرض عندما يجعلنا ننغلق في كذبة أننا أفضل من الآخرين وأن العيب فقط عليهم وأننا فقط ضحايا للظروف وللغيرة وللمؤامرات. إنه مرض عندما نمارسه باقتناع وبدون وعي وبدون نقاش وبدون أن نسمح لأنفسنا أو للآخرين بمجرد الحديث عن الأمر. إنه مرض عندما يتحول إلى صنم يتحكم فينا ويسيطر على أقوالنا وأفعالنا وتفكيرنا ويمنعنا حتى من مجرد التفكير.
برجاء العودة لموضوع أولا مرض الإنكار…
وسنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى. (للحديث بقية).