رابعًا مرض الكذب والإنكار بعض الأمراض الشائعة والمخفية
بقلم المونسينيور د. يوأنس لحظي جيد
نَظْرَة متعمقة وتعريف المرض
مرض الكذب والإنكار هو اضطراب نفسي يظهر على الأشخاص المدمنين للكذب المستمر والإنكار العنيد للواقع، وهو حالة نفسية مرضية منتشرة بين جميع الفئات وبين مختلف الأعمار والبشر. فمن منا لم يتعامل مع أشخاص يكذبون كما يتنفسون ويختلقون القصص والروايات غير الحقيقية، وغالبًا ما يرفضون أي دليل على كذبهم، حتى عندما يكون واضحًا للجميع؟ ومن بين الكاذبين هناك أشخاص يعرفون أنهم يكذبون ولكنهم لا يستطيعون التوقف وأشخاص يتقنون الكذب حتى على أنفسهم لدرجة أنهم مقتنعون بأن ما يقولونه حقيقة لا تقبل الجدل أو النقاش.
مرض الكذب لا يفرق بين الناس ويصيب الطفل كما يصب الكهل والفقير كالغني، والمسؤول الكبير والصغير، والمؤمن العادي كما رجل الدين. إنه أكثر من الأمراض انتشارًا وتجاهلًا، نعرف جميعًا أشكاله وأنواعه ونسقط غالبًا في ممارسته. وهو مرض يجعل صاحبه يبرر لنفسه ما يرفضه لغيره. فجميعنا نرفض الكذب وجميعنًا نسقط فيه، غير أن الفرق بين الكاذب العادي والكاذب المريض يكمن في أن الأول نمارسه لتلاشي المواقف المحرجة وللخروج من الأوضاع المعقدة ولتحقيق اهداف محددة، أما الثاني، أو الكذب المرضي، فهو اضطراب يدفع صاحبه إلى ممارسته في كافة الأوقات وكافة المواقف ويخلق لصاحبه عالم موازي يهرب فيه من العالم الحقيقي.
يكمن أيضا الفرق بين الكذب العادي والمرضي في الأول نمارسه غالبًا بوعي وبدون إحداث الضرر بأحد أو إلحاق الأذى بالأشخاص أو بسمعتهم أو بقول خلاف الحقيقة، لدرجة أن البعض يطلق عليه “الكذب الأبيض” أو “الكذب الاجتماعي” أما الثاني فهو ظاهرة مرضية يمارسها الشخص وكأنه “مجبور” عليها لدرجة أنه يفشل في أغلب الأحيان في إيقاف نفسه لأن الكذب يدفعه لمزيد من الكذب في سلسلة لا تنتهي وفي دائرة لا تتوقف بل تزداد دائمًا تعقيدًا وتعقدًا.
وقبل الخوض في شرح أنواع وأعراض هذا المرض المنتشر دعونا نؤكد هنا على أن الكذب في كافة الحالات هو خطيئة وعادة سيئة وغير مقبولة سواء أكان إراديًا أو غير إراديًا، عاديًا أو مزمنًا، أبيضًا أو أسودًا.
أنواع من الكذب المرضي:
أولا الكذب الباثولوجي:
هو شكل من أشكال الكذب المزمن حيث يصبح الكذب نمط حياة للشخص، ويصعب على المريض به التوقف عن الكذب حتى عندما لا يكون هناك مبرر لذلك. فالكاذب الباثولوجي هو كالمدمن يعرف ضرر الإدمان وضرورة التوقف عنه ولكنه يعجز عن التحرر منه. إنه يكذب باستمرار لدرجة أنه يحيا في عالمين متوازيين الأول من نسج أكاذيبه والثاني هو العالم الواقعي. عالمين في حالة تنافس وصراع مستمرين. إنه “يكذب ويعرف أنه يكذب ويعرف أن من حوله يعرف أنه يكذب ولكنه يكذب بإتقان” كما عرفه نجيب محفوظ.
ثانيًا المصاب بمتلازمة مونشهاوزن أو مونخهاوزن:
وهي حالة نفسية يدعي فيها الشخص إصابة نفسه بمرض أو إصابة جسيمة للحصول على الاهتمام الطبي والتعاطف (راجع موضوع مرض التظاهر). متلازمة مونخهاوزن، بالإنجليزية Munchausen syndrome تصف خلل نفسي، يختلق المصاب بهذه المتلازمة مشكلات وأزمات وهمية لا وجود لها، بهدف جذب الانتباه أو استدرار التعاطف من الآخرين. قد يصل الأمر إلى أن يبدأ المصاب في إظهار أعراض مصطنعة لهذه المشكلات، حتى وإن تسبب ذلك له في ألم أو خسائر شخصية. ذلك لأن رغبته في إقناع الآخرين بصحة روايته تتجاوز أهمية هذه الخسائر بالنسبة له.
يُعرف هذا الخلل أيضًا باسم ‘إدمان الأزمات’، حيث يتفنن المصاب في المبالغة أو اختلاق أعراض خيالية بغرض الحصول على الاهتمام والتعاطف من محيطه. في بعض الحالات، يمتلك المصابون معرفة دقيقة بالممارسات التي تجعل هذه الأعراض تبدو حقيقية، وقد يتحملون عناء التكاليف والخسائر الزمنية لتحقيق هدفهم.
أطلق الطبيب البريطاني ريتشارد آشر اسم ‘متلازمة مونشهاوزن’ على هذا الاضطراب في مقالته المنشورة في مجلة لانسيت الطبية عام 1951. في البداية، كان المصطلح يشير إلى جميع الاضطرابات المفتعلة، لكن التشخيص حاليًا يُقتصر على الحالات الشديدة، حيث يصبح اختلاق المرض محورًا مركزيًا في حياة المصاب.
ثالثًا المصاب بمتلازمة مونشهاوزن بالوكالة:
وهي حالة مشابهة للمتلازمة السابقة، ولكن في هذه الحالة يقوم الشخص بإيذاء شخص آخر، عادةً طفل، للحصول على الاهتمام الطبي لنفسه. ترتبط متلازمة مونشهاوزن بمتلازمة مونشهاوزن بالوكالة، من حيث أنها اضطراب نفسي يصيب في الغالب الأمهات الإناث اللاتي يتسببن في إيذاء أطفالهن جسديًا لجذب الانتباه إلى أنفسهن. ولذلك يتم استخدام الطفل لإشباع رغبة غير واعية ولتعزيز علاقتهم بالأطباء أو بيئة المستشفى.
أسباب مرض الكذب والإنكار
الأسباب الدقيقة لهذا الاضطراب غير معروفة بشكل كامل، ولكن يعتقد أنها تتعلق بمجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية، مثل:
أولا مشكلات الطفولة:
ترجع اغلب الأمراض النفسية للفتات الأولى من حياة الإنسان فالأطفال الذين يتم معاقبتهم بقسوة ويُطلب منهم الكمال هم أكثر تعرضا للإصابة بمرض الكذب لأنهم يصيرون ضحية لوالديهم الذين يطلبون منهم دائمًا الحد الأقصى في كل شيء ولإمكانياتهم التي لا تُأهلهم لهذا فيبدؤون بالكذب وسرعان ما يخلقون لأنفسهم عالم موازي يحققون فيه ما عجزوا عن تحقيقه في العالم الواقعي. يصاب بهذا المرض أيضًا الأطفال الذي يتم معاقبتهم بعنف فيلجئون للكذب لتفادي العقاب أو الهروب من المسائلة ومع مرور الوقت يتحول هذا التصرف إلى سلوك ثم إلى مرض يصعب التخلص منه.
ثانيًا انعدام الثقة بالنفس:
عندما يفقد الانسان ثقته في نفسه يبدأ في الكذب وهو يلجأ إلى هذا لبناء صورة مثالية عن نفسه خلافًا لتلك التي يرفضها ويكرهها ويعجز عن تغييرها.
ثالثًا الرغبة في الاهتمام:
قد يستخدم الكذب أيضا كوسيلة للحصول على اهتمام الآخرين وتعاطفهم. فالمصاب بهذا المرض يطور من مالكاته لخلق أكاذيب دائمًا أكثر إقناعًا وتأثيرًا بهدف إقناع من حوله والحصول على اهتمامهم ورعايتهم.
رابعًا صعوبة التعامل مع الواقع:
قد يجد الشخص المصاب بهذا المرض صعوبة في قَبُول بعض جوانب حياته، فيلجأ إلى الكذب لتجنب مواجهتها. فالكذب يجعله يشعر بأن ما يعاني منه غير موجود وبالتالي يخفف عليه ضغط التغيير وضرورة التعديل.
خامسًا اضطرابات نفسية أخرى:
في كثير من الأحيان يكون الكذب إحدى أعراض اضطرابات نفسية أخرى، مثل اضطراب الشخصية النرجسية أو الحدية. فالكذب قد يكون مرضًا أو عرضًا لمرض أخر وذلك لأن الاضطرابات النفسية هي متداخله ومرتبطة بعضها ببعض.
أمثلة على سلوكيات مرضى الكذب والإنكار
1– الفَشّار: المصاب بمرض الكذب قد يختلق قصصًا عن طفولته أو حياته المهنية لا أساس لها من الصحة. فتجده يتكلم عن إنجازات ونجاحات من صنع خياله غالبًا للهروب من إخفاقات وفشل يعيشه فعلًا. ونطلق عليه “الفَشّار” لأنه بمجرد أن يفتح فمه تشعر بأنك أمام “فيلم هندي” لا يمكن أن يكون واقعيًا أو حقيقيًا. فهو لا يتورع في أن يخبر بأنه هزم بمفرده مئة رجل جاؤوا لمهاجمته بأسلحة ورشاشات ومدافع ولكنه استطاع أن يحطمهم ويجبرهم على الهروب من أمامه بمجرد أن صاح فيهم بصوته كالأسد.
2– الالمُتمارض: يدعي المصاب بهذا الداء معاناته من أمراض خطيرة للحصول على الرعاية الطبية أو الاهتمام. ويصل به الأمر لتمثيل أعراض المرض الذي يدعيه باحترافيه قد تخدع حتى الأطباء.
3– اللوام: وهو شخص دائم العتاب واللوم وهو يلقي دائمًا باللوم على الآخرين في أخطائه أو مشاكله. إن كل أخطائه ليست بسببه بل بسبب من حوله والظروف والوضع الاقتصادي والدولي والمؤامرات عليه.
4– الضحية: إنه يرفض ويعارض بعنف حتى الأدلة القوية على كذبه، يؤدّي دور الضحية بإتقان وباستمرار. ففشله في الدراسة بسبب سوء النظام التعليمي، وفشله في العمل بسبب رداءة النظام الاقتصادي، وفشله في الأسرة بسبب الحسد من إمكانيته الرهيبة، وفشله في العلاقات بسبب تعند من حوله، وفشله في القيادة بسبب مؤامرات من حوله، وفشله في العبادة بسبب فساد رجال الدين، وفشله في ممارسة واجباته بسبب كثرة مشاغله… إنه دائمًا ضحية لا حول ولا قوة لها.
5– الفاسد: وهو شخص يدعي الصلاح ولكنه فاسد أخلاقيًا واجتماعيًا ومهنيًا يكلمك دائمًا عن ضرورة الصدق وهو كاذب، يكلمك عن ضرورة العفة وهو زاني، وعن الحاجة للفضيلة وهو منحرف، وعن لزوم الضمير وهو بلا ضمير. إنه مزيف ومنافق يرتدي ثوب الفضيلة لخداع من حوله وللاستفادة من المنخدعين فيه.
كيفية اكتشاف مرض الكذب والإنكار
قد يكون اكتشاف مرض الكذب والإنكار صعبًا، ولكن هناك بعض العلامات التي قد تَدُل عليه، مثل:
أولا تضارب الروايات:
يروي الشخص قصصًا متناقضة عن نفسه أو عن أحداث معينة، ولان المثل يقول: “الكذب ملوش رجلين” فالكاذب سرعان ما ينسى التفاصيل ويقول الشيء وعكسه ويؤكد ويصر على أمور لا يمكن ان تكون حقيقية فيدفع من حوله لنبذه والابتعاد عنه. إن جاذبية أحاديثه سرعان من تنقلب عليه وينفر منه الجميع.
ثانيًا غياب الأدلة الملموسة:
الكاذب يخترع أحداث وأشخاص وتفاصيل ولكن لا يوجد أي دليل مادي يدعم روايات الشخص. وغياب الأدلة يكشف زَيف كلامه وقصصه.
ثالثًا الافتعال والتصنع:
إن التفاعلات الاجتماعية للكاذب هي غالبًا غير طبيعية وسرعان ما يلاحظ الآخرون أنه يتصرف بشكل غير طبيعي في العلاقات الاجتماعية.
رابعًا التقلب المستمر:
يتصف الكاذب بالتغيرات المفاجئة في السلوك، مثل الانعزالية أو العدوانية. إنه ينتقل من البكاء للضحك، أو من العدوانية للرأفة والتحنن.
الفرق بين الكذب والإنكار:
الكذب والإنكار هما سلوكان ضد أو عكس الصدق والأمانة، وهما يختلفان في طبيعتهما وآثارهما:
– فالكذب يعني التكلم بغير الحقيقة، وقول أشياء غير صحيحة عمدًا، ويكون الدافع للكذب هو تجنب العقاب، أو الحصول على مكسب ما، أو حماية الذات أو الآخرين. يؤدي الكذب إلى فقدان الثقة بين الأفراد، ويدمر العلاقات، ويخلق جوًا من الشك وعدم الأمان.
– الإنكار يعني رفض الاعتراف بحقيقة معينة أو حدث ما، حتى لو كانت الأدلة واضحة وغالبًا ما يكون الدافع للإنكار هو حماية الذات من الشعور بالذنب أو الخجل، أو محاولة الحفاظ على صورة إيجابية عن النفس. يؤدي الإنكار في الغالب إلى تفاقم المشكلة، ويمنع الشخص من التعلم من أخطائه، ويؤثر سلبًا على علاقاته بالآخرين.
علاج مرض الكذب والإنكار
علاج مرض الكذب والإنكار يتطلب عادةً تدخل متخصصين في الصحة النفسية، وقد يشمل:
أولًا العلاج النفسي والروحي:
مثل العلاج السلوكي المعرفي، لمساعدة الشخص على تحدي أفكاره السلبية وتطوير مهارات جديدة للتكيف مع الحياة. وتعلم منافع قول الحقيقة وقبول الذات والآخرين كما هم والتحلي بشجاعة قول الحقيقة. وفي الحالة الروحية يكون من الضروري اللجوء لمرشد روحي يقود العليل بهذا المرض للخروج منه بقوة العزيمة وبنعمة الله المحررة.
ثانيًا العلاج الدوائي:
في بعض الحالات المزمنة يكون من الضروري اتباع وصفات علاجية واستخدام بعض الأدوية لعلاج الاضطرابات النفسية المصاحبة. وهنا يكون تدخل الطبيب النفسي ضروري حتى يتخطى الشخص هذا الاضطراب.
ثالثًا العلاج الجماعي:
يلجئ البعض لممارسة العلاج الجماعي الذي يكون مفيدًا لمساعدة الشخص على فهم تأثير كذبه على الآخرين وتطوير علاقات صحية والاستفادة من خبرات الآخرين لاسيما الذين استطاعوا التغلب على هذا الاضطراب.
رابعًا تعلم أهمية الصدق:
لقد شدد السيد المسيح على أهمية الصدق والأمانة في الحياة المسيحية، وجعلهما من صفات المؤمن الحقيقي. ففي تعاليمه، نجد أن الصدق ليس مجرد سلوك أخلاقي، بل هو انعكاس لإيماننا بالله وبعلاقته بنا.
يعلمنا السيد المسيح ضرورة الصدق وقول الحقيقة مهما كان الثمن لأن:
1– الصدق هو أساس العلاقة مع الله: لا يمكن أن نبني عَلاقة حقيقية بالله إلا على أساس الصدق والصراحة والاستقامة لذا يشجعنا المسيح على أن نكون صادقين معه، وأن نعترف بخطايانا ونطلب مغفرته. فالصدق هو مفتاح لبناء عَلاقة عميقة وثقة بالله. وأكثر ما يرفضه الله هو عَلاقة مزيفة وممارسات خارجية لا تعبر عن إيمان حقيقي.
2– الصدق هو أساس العلاقات الإنسانية: العلاقات الإنسانية أيضًا تحتاج إلى الصدق لأن العلاقات القائمة على الكذب تنهار بسرعة ولا يمكن لها أن تستمر، لذا يدعونا المسيح إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين، وأن نبني علاقاتنا على أساس الثقة والاحترام المتبادل.
3– الصدق هو شهادة على إيماننا: لم يكن المسيح معنفًا وغاضبًا كما كان مع الكتبة والفريسين المرائين والذي يعتقدون بأن الممارسات الخارجية فقط يمكنها أن تخدع الله ولذا طلب المسيح من اتباعه أن يكونوا صادقين وأن يترجموا إيمانهم إلى أعمال تشهد على حقيقة محبته لله.
أقوال المسيح حول الصدق:
– ” يدعونا المسيح إلى أن يكون كلامنا واضحًا ومباشرًا، وأن نتجنب الكذب والمبالغة فيقول: “فليكن كلامكم نعم نعم، لا لا؛ فإن ما زاد على هذا فهو من الشرير.” (مت 5، 37).
– “يؤكد المسيح أن الحقيقة هي التي تجعلنا أحرارًا، وأن الكذب يربطنا ويؤدي إلى العبودية: “الحق يحرركم” (يو 8، 32).
– يعلن المسيح أنه هو الحق المطلق، وأن اتباعه يعني السير في طريق الصدق: “أنا هو الطريق والحق والحياة.” (يو 14، 6).
وختامًا دعونا نتذكر أيضا أن إحدى الوصايا العشر تقول: لا تكذب
برجاء العودة لموضوع
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).