كخلل نفسي وروحي واجتماعي
بعض الأمراض الشائعة والمخفية
بقلم المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أولًا تعريف التطرف كخلل نفسي وروحي واجتماعي
التطرف ليس مرضًا نفسيًا بالمعنى الطبي، ولكنه حالة فكرية وسلوكية تتسم بالمبالغة والغلو في تبني أفكار أو معتقدات معينة، مما يؤدي إلى سلوكيات متطرفة سواء في التشدد والعنف والإهاب أو في اللين والتسيِّب والانحطاط. وبرغم من عدم كونه مرضًا نفسيًا ألا أنه بالأكيد دليل على وجود خلل نفسي أو روحي أو اجتماعي. إنه عرض ونتيجة لخلل خطير.
وغالبا ما يجمع المتطرف بين النقيضين فنجده، على سبيل المثال، شديد التدين أمام الناس وشديد الفجور خلفهم، عنيف في تصريحاته عندما تتعلق بالآخرين، ورحوم إذا ما تعارضت مع مصالحه، فصيح اللسان عندما يعظ الآخرين وظلف التعابير عندما يتعرض لمنتقديه. إنه في حالة تأرجح دائم بين ما يقوله وما يؤمن به.
نؤكد هنا أن كل تطرف هو مؤشر على خلل داخلي واضطراب نفسي، فلا يستطيع الاعتدال سوى الأسوياء.
ثانيًا أعرض التطرف:
- القسوة المفرطة
يتصرف المتطرف بقسوة شديدة وبعنف لفظي وجسدي مبالغ فيه، ويظهر غضبا شديدا وانتقادا لاذعا تجاه من حوله، ويسعى لفرض السيطرة المفرطة، ويتصرف بعدم تعاطف وبدون شفقة أو إحساس أو مراعاة لمشاعر ولحرية الآخرين.
- الانحطاط المفرط
نجد المتطرف في التسيب والانحراف يتصرف بتساهل مبالغ فيه، وبعدم قدرة على وضع حدود، كما أنه يظهر خوف شديد من المواجهة، أو بجاحة في الانتقاد، إما رضوخ مبالغ فيه واستسلام لرغبات الآخرين على حساب الذات، أو فظاظة وتباهي بالانحلال وتبريره كممارسة لحريته الشخصية.
- التذبذب المفاجئ
ينتقل المتطرف في كثير من الأحيان بين هذين السلوكين المتناقضين بشكل مفاجئ وغير متوقع، مما يسبب حيرة وإزعاجًا للآخرين. إنه في حالة صراع داخلي وحرب دائمة بين الحمل والذئب العائشين بداخله.
- عدم الاستقرار الداخلي
يعكس التطرف عدم استقرار داخلي واضطرابًا في الشخصية، وعدم قدرة على التحكم في المشاعر.
- تأثير سلبي على العلاقات
يؤدي التطرف إلى تدهور العلاقات، وفقدان الثقة، والشعور بالإحباط لدى الآخرين، وغالبًا ما يقود صاحبه لمزيد من التطرف في دائرة شيطانية لا تنتهي إلا بتحطيم الذات والآخرين.
إن التطرف في اللين أو التطرف في القسوة هو إذا حالة نفسية وروحية واجتماعية تتسم بالانتقال المفاجئ بين سلوكين متناقضين: اللين المفرط والقسوة المفرطة. وهو مؤشر لصراع داخلي يحاول المتطرف إخفائه بتطرفه. ويعكس السلوك المتذبذب عدم استقرار داخلي واضطراب في الشخصية، ويؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية والنفسية للفرد.
ثالثًا وصف المتطرف:
هو شخص يبالغ في تصرفاته وأقوله وآرائه واحكامه. يحكم ويحاكم الآخرين ويعيش حياته بين تطرفين: إما أن تكون تابعا له أو أن تكون خصمه وعدوه. إما أن توافق وتتبنى ما يقوله أو أنت خصم يجب تحقيرك واقصائك وأحيانًا البطش بك.
إنه عنيف ومعنف، غاضب ومغضِب، قاسي ومقصي.
إنه غالبًا مرائي ومريض يعمل على نشر مرضه وتطرفه بدلا من السعي للعلاج.
إنه أعمي لا يرى سوى ما يريد أن يراه، ويحكم على المخالفين له بمنتهى القسوة، ولا يراهم إلا من زاوية رؤيته الضيقة والمجحفة.
إنه شخص سجين داخل معتقداته واقتناعاته ولا يسمع للآخرين ويرفض النصيحة.
إنه شخص مسجون يسعى إلى إدخال الجميع إلى سجنه.
إنه مريض وأناني ومتشدد ومتعصب ويعمل على إدخال الآخرين إلى معتقل أفكاره المتطرفة.
إنه متطرف في التدين وفي المظاهر ليخفي غالبًا شعوره بالخواء وبعدم القيمة وبالهشاشة.
إنه فاجر في العداوة.
إنه يبالغ في إظهار الثقة بالنفس ليخفي غالبًا شعوره بالوحدة والانعزال والتفاهة والفجور.
إنه مفتقد إلى الحَجَّة وعاجز عن عرض معتقداته بهدوء وبشاشة وأدب ولباقة.
إنه معاد للمنطق وللتفكير النقدي وللتحليل المنطقي للأمور والأفكار والمواقف، فهو يلجئ للعنف لأنه عاجز، ويلجئ للصراخ لأنه فاشل، ويتبنى الهجوم لأنه هش.
إنه متطرف لأنه يخشى الاعتدال ويخاف الحُوَار ويتجنب المواجهة العقلانية ويتهرب من النقاش.
لذا
انت متطرف عندما تريد فرض رأيك بالعنف وتسعى للتقليل وللتسفيه ولسحق المختلفين.
انت متطرف عندما لا تسمع لصوت وصمت الأخرين.
انت متطرف عندنا تتصرف بأنانية وبعدم مراعاة لمشاعر الآخرين.
انت متطرف عندما تحكم على الآخرين بقسوة وبطش وباستعلاء.
انت متطرف عندما تظن بعنجهية أنك الأفضل والأجمل والأكمل والأحق بالتقدير.
انت متطرف عندما تتصرف بازدواجية كقاضي رحيم مع نفسك وقاسي مع الآخرين.
أنت متطرف عندما تتصرف بمبالغة بدون مبرر، وتتكلم بعنف، وتسعى لفرض رأيك بقسوة، وتسمح لنفسك بإدانة الآخرين.
انت متطرف عندما لا تحترم خصوصية وفرادة وغنى المختلفين.
انت متطرف عندما تُرهِب الآخرين نفسيا وروحيا واجتماعيا ودينيا.
انت متطرف عندما تستغل منصبك لسحق المخالفين ولاستغلال المستضعفين، وللتحكم في الآخرين.
رابعا أمثلة من الكتاب المقدس:
- شخصية الملك شاول في الكتاب المقدس، الذي كان يتذبذب بين اللين والقسوة، وبين الطاعة والعصيان.
يقول الكتاب المقدس: “وَكَانَ لَهُ ابْنٌ اسْمُهُ شَاوُلُ، شَابٌّ وَحَسَنٌ، وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَحْسَنَ مِنْهُ. مِنْ كَتِفِهِ فَمَا فَوْقُ كَانَ أَطْوَلَ مِنْ كُلِّ الشَّعْبِ” (1 صم 9، 2). لقد رفض الرب شاول لأن شاول رفضه، ورجع من وراءه ليسلك حسب هواه. لم يقبل الله كقائد له يكون الأول في حياته. فبالرغم من اختيار كأول ملك على شعب الله إلا أن أفعالهم قد خانت اختيار الله له: “ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا، لأنه رجع من ورائي ولم يقُم كلامي” (1 صم 15، 10). رفضه الرب لأنه لعدم طاعته ولأنه طلب العرافة. إنه يمثل الانسان المتقلب والمتطرف في طاعته وفي عناده، في رحمته وفي قسوته، في تدينه وفي خيانته، في حبه لداود وفي ملاحقته، في اتباعه لوصايا الرب وفي مخالفته له.
انتهت حياة شاول بالموت في المعركة في حالة خذي وعار وأصبح نموذجًا للمكرس الذي يخون تكريسه ويترك الله فيتركه الله.
- شخصية بطرس الرسول، الذي كان يتذبذب بين الشجاعة والخوف، وبين الإيمان والإنكار.
القديس بطرس هو هامة الرسل وهو التلميذ الذي قاله له السيد المسيح: “وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ” (مت 16، 18 – 19). وهو نفس التلميذ الذي قاله له المسيح: “اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ” (مت 16، 23).
هو التلميذ الذي أكد للمسيح: “قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!” (مت 26: 35) وهو نفس التلميذ الذي أنكر سيده ثلاث مرات.
وبرغم هذا التذبذب انتهت حياة بطرس بالتوبة وبالاستشهاد مصلوبا منكس الرأس كشهادة للمسيح. استشهد في حالة نعمة مقدما حياته من أجل مجد المسيح فاستحق أن يكون الصخرة التي أسس فوقها المسيح كنيسته المقدسة، وأصبح نموذجا للتلميذ الأمين لمعلمه، والمنتصر على التردد بالطاعة وعلى الهروب بالمواجهة وعلى الانكار بالشهادة.
- الفريسيون، المتأرجحين بين التدين والازدواجية.
هم أناس يعانون من الازدواجية والتطرف سواء في التدين أو الرغبة في التحكم بالآخرين. إنهم ألد أعداء الإيمان برغم أن حياتهم تدور في فلكه. والسيد المسيح لم يكن معنفًا لأحد بقدر تعنيفه للفريسيين: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ” (مت 23، 27).
إنهم متطرفون وقادة عميان يختفون خلف المظاهر كي يتحكمون في ضمائر الناس، يستخدمون الله لمصالحهم الشخصية ولمجده الأرضي وللحصول على منافع دنيوية.
خامسا طرق العلاج النفسية والروحية:
- العلاج النفسي:
يحتاج المتطرف من الناحية النفسية للعلاج السلوكي المعرفي والذي يطلق عليه(CBT) وهو أسلوب يساعد المتطرف على تغيير الأفكار والسلوكيات السلبية وتعلم أفكار وأساليب جديدة. وقد يحتاج الطبيب النفسي إلى استخدام العلاج الجدلي السلوكي (DBT)والذي يساعد على تنظيم المشاعر وتحسين العلاقات أو لعلاج النفسي الديناميكي، لمساعدة المتطرف على فهم الأسباب الجذرية للمشكلة.
يحتاج العلاج النفسي للمتطرف الكثير من الوقت والصبر والاستمرارية والقدرة على قيادته للخروج من نفق التطرف والوصول إلى أسبابه الحقيقية. فالتطرف هو نتيجة وليس سببا.
- العلاج الروحي:
يحتاج المعالج الروحي إلى إقناع المتطرف بتعلم بعض العادات الإيجابية مثل:
- التأمل والصلاة لمساعدته على تهدئة النفس وتحقيق السلام الداخلي، ومجابهة الغليان الداخلي بتروي وثقة في محبة الله.
- قراءة الكتب المقدسة: يساعد التعمق في كلمة الله على فهم القيم الروحية وتطبيقها في الحيا، ومعرفة أن الله يريد رحمة لا ذبيح، يريد محبة لا كراهيَة، يريد أن نفعل مع الآخرين ما نريد أن يفعلوا هم معنا. يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يبلغون.
- المشاركة في الأنشطة الجماعية والروحية والتي تساعد على الحصول على الدعم والتشجيع والانفتاح على الآخرين والخروج من حيز الذات الضيق.
- التوبة والاعتراف والرجوع إلى الله: تساعد التوبة وممارسة الأسرار المقدسة على التخلص من الصفات السيئة والانفتاح على نعمة الله التي تغير القلوب وتنير في القلوب محبة الله ومحبة القريب. يبقى مثال توبة القديس بطرس نموذجا لإمكانية الانفتاح على نعمة الله التي تغيير القلوب والنفوس.
- تغيير نمط الحياة:
يعتبر التطرف ثمرة الانغلاق والتحجر ولا يمكن الانتصار عليه إلى بتعلم بعض العادات الإيجابية من ممارسة الرياضة بانتظام، لتحسين المزاج وتخفيف التوتر؛ والحصول على قسط كافٍ من النوم، لتحسين الصحة النفسية؛ اتباع نظام غذائي صحي، لتحسين الصحة الجسدية والنفسية؛ وتعلم مهارات التواصل الفعال، لتحسين العلاقات الاجتماعية.
ختامًا
التطرف هو سجن مظلم يدفع صاحبه للخوف من الآخر وتدمير الذات وتحقير المختلف.
ولأن التطرف هو تعبير عن خلل داخلي فهو يحتاج إلى تعلم الوعي الذاتي، كي يصل المتطرف إلى شجاعة النظر في مرآة الحقيقة ورؤية بشاعة تطرفه. يحتاج للوصول إلى التصرف بوعي ومعرفة خطورة التطرف على الذات وعلى الآخرين. يحتاج إلى التحكم في الغضب، وتعلم التعبير عن الذات بطريقة صحية. يحتاج إلى اكتساب مهارة التعاطف مع الآخرين وتفهم أفكارهم ومواقفهم وتخوفاتهم ومشاعرهم. يحتاج، في الكثير من الأحيان، إلى تواضع طلب المساعدة للخروج من نفق التطرف المظلم، وعدم التردد في اللجوء لمتخصص في الصحة النفسية أو لمرشد روحي.
وهنا نؤكد أن التطرف في الممارسات الدينية كالصوم لفترات مبالغ فيها أو الصلاة لأوقات طويلة جدا أو الانغماس في الخدمة وإهمال كافة جوانب الحياة الأخرى، أو ممارسة بعض الأعمال التقوية بشكل مفرط، أو الانغلاق التام في دراسة الكتاب المقدس والعلوم اللاهوتية والدينية …. كل هذه الممارسات تعبر عن خلل وتطرف، وهروب من الحقيقة.
الصلاة الحقيقية تدفعنا إلى العيش بطريقة صالحة.
والصوم الحقيقي هو الذي يدفعنا للإحساس بالآخرين ومشاركتهم أفراحهم وآلامهم.
والخدمة الحقيقية هي التي تقديس كافة جوانب الحياة الأخرى.
وأعمال التقوى الحقيقية هي التي تدفعنا إلى معاملة الآخرين كما نريد أن يعاملونا.
ودراسة الكتاب المقدس والعلوم الدينية يجب إن يكون من أجل تحويل المعرفة إلى حياة معاشة.
إن التطرف سواء كان في اللين أو القسوة هو خلل يمكن علاجه، ولكن يتطلب ذلك جهدًا والتزامًا من الفرد. ويحتاج قبل كل شيء إلى شجاعة الاعتراف به، وشجاعة الخضوع لعلاج نفسي وروحي، وتغيير نمط الحياة.
يحتاج إلى تعلم أن الحياة داخل التطرف هي سجن مظلم وبشع وأن الخروج منه هو الحل الوحيد لعيش حياة أكثر استقرارًا وسعادة.
قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:
أولًا: مرض الإنكار
ثانيًا: مرض الإسقاط
ثالثًا: مرض التظاهر
رابعًا: مرض الكذب والإنكار
خامسًا: مرض تبلد أو موت الضمير
سادسًا: مرض التطفل والحشرية
سابعًا: مرض العناد
ثامنًا مرض الخنوع والعبودية الاختيارية
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).