بعض الأمراض الشائعة والمخفية
إعداد المونسنيور د. يوأنس لحظي جيد
أولًا: وصف مرض نكران الجميل
قال المتنبي إنك “إذا أكرمت الكريم ملكته، وإن أكرمت اللئيم تمرد“، واصفا ناكر الجميل أو الشخص الجاحد الذي ينسى ويتناسى الخير الذي تلقاه.
نكران الجميل، أو الجحود، هو مرض يصف الشخص الذي يرفض أن يرى بل ويتفلسف في تبرير أفعاله والبحث عن أعذار لتعليل تصرفاته. لا يتعلق الأمر هنا بمجرد نسيان عرضي لجميل قُدم، بل لنمط سلوكي ونفسي يتميز بعدم الاعتراف، أو التقليل من قيمة، أو حتى إنكار الفضل والإحسان الذي قدمه الآخرون.
الجاحد لديه شعور دائم بالاستحقاق، ويعتقد أن العالم مدين له، وأنه يستحق كل شيء دون بذل جهد أو تقدير، مما يمنعه من العمل الجاد أو تحمل المسؤولية.
يرى ناكر الجميل في أي مساعدة مقدمة له حق مكتسب، وقد يرى في الإحسان فرصة للاستغلال، بدلًا من كونه لفتة من الكرم.
لا يتعلق الأمر هنا بمرض تشخيصي بالمعنى الطبي، ولكن بخلل عميق في شخصية الفرد، وغالبًا ما يكون مرتبطًا بصفات أخرى سلبية مثل الأنانية، النرجسية، أو عدم التعاطف والتكبر والعناد.
لا يرى الجاحد النِعم من حوله، ويركز فقط على ما يفتقده أو ما يعتبره حقه، مما يوقعه في دوامة من التعاسة والمرارة.
إنه يتهم كل من حوله بنكران الجميل ويكرر دائما عبارات مثل: “لا أحد يفعل شيئًا بدون مصلحة”، “أنا أستحق كل شيء”، “لولا تدخل وفضلي لما وصلوا لما هم عليه”، “سيثبت الزمن فضلي عليهم”… إنه يعيش في حالة من عدم الامتنان المتعمد والمستمر، والفشل في تقدير الجهود، التضحيات، والمساعدة التي تلقاها، وقد يصل به الأمر إلى معاداة أو إيذاء من أحسن إليه.
ثانيًا: أمثلة على نكران الجميل من الحياة اليومية
- الابن العاق: بعد أن يكبر ويصبح مستقلًا، يتجاهل والديه أو يسيء معاملتهما، وينكر فضلهم في تربيته وتعليمه.
- الصديق الخائن: الذي يستفيد منك ماديًا أو معنويًا ثم يختفي عندما تنتهي حاجته إليك، أو ينكر فضلك ويطعنك في ظهرك بمجرد أن يجد مصلحة أفضل.
- الموظف الطماع: والذي يترقى بفضل دعم رئيسه ثم ينقلب عليه أو يحاول إزاحته من منصبه بمجرد أن يشعر بالقوة.
- المريض الغاضب: والذي يعتني به طبيب أو ممرضة بتفانٍ ثم يتهمهما بالإهمال أو سوء المعاملة بمجرد أن يرى فرصة للمطالبة بتعويض.
- المُتناسي: الشخص الذي تُنقذه من ورطة كبيرةثم يتجاهلك، أو حتى يحاول تشويه سمعتك لكي لا يظهر ضعفه السابق.
- المُقترِض: الشخص الذي يقترض منك المال في ضائقة، ثم يتملص من السداد، أو يدعي أنه لم يستلم المال أبدًا.
- المسؤول المُستَغِل: المسؤول الذي يستغل مكانه وعرق وجهد الآخرين ويقدم تعبهم وكأنه من بنات أفكاره.
ثالثًا: خطورة مرض نكران الجميل
يمكن تخليص خطورة نكران الجميل في تأثيره المدمر على الشخص نفسه، وعلى من حوله، وعلى النسيج الاجتماعي بشكل عام كالآتي:
يعاني الجاحد غالبا من العزلة وفقدان العلاقات، لأن نكران الجميل يدمر الثقة ويجعل الناس يتجنبونه. فمن سيستمر في مساعدة شخص لا يُقدر الجميل، بل قد يؤذيه؟ ينتهي به الأمر وحيدًا، معزولًا ومنبوذا، وغير قادر على بناء علاقات صحية ومستدامة.
يعيش الجاحد في حالة من التعاسة وعدم الرضا، لأن عدم تقدير الخير في الحياة يؤدي إلى شعور دائم بالنقمة والغضب وعدم الرضا.
يعاني الجاحد من تآكل الضمير والأخلاق. فنكران الجميل يؤدي إلى تبلد الحس الأخلاقي وتآكل الضمير، فيصبح من السهل عليه ارتكاب أفعال أكثر سلبية دون شعور بالذنب.
على المدى الطويل، يؤدي نكران الجميل إلى ضعف في الشخصية، وفقدان القدرة على رؤية الخير في الآخرين أو في العالم، مما يجعله هشًا نفسيًا وعرضة للاكتئاب.
تأثير نكران الجميل على من حول الشخص المصاب (المُحسَن إليهم):
يشعر من قدم المعروف بالخيبة والألم عندما يجد أن إحسانه قد جُحد أو حتى انقلب عليه. مما قد يسبب له صدمة عاطفية ويجعله يتراجع عن مساعدة الآخرين في المستقبل. يؤدي نكران الجميل إلى فقدان الثقة في التعامل مع الناس بشكل عام، حيث يصبح المُحسن أكثر حذرًا وتشككًا. وإذا تكرر الأمر، يشعر المُحسن بأنه كان مجرد أداة أو وسيلة لتحقيق مصالح شخصية للجاحد، مما يولد لديه شعورًا بالاستغلال. في بعض الحالات، قد يتطور الأمر إلى عداوة صريحة إذا حاول الجاحد إيذاء من أحسن إليه.
يؤثر نكران الجميل على المجتمع ككل ويؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية، وتقويض القيم الأساسية للتعاون، العطاء، والامتنان التي يقوم عليها أي مجتمع سليم. ومن أسوأ نتائج النكران هو انتشار الأنانية، وتقليل من الرغبة في المساعدة المتبادلة، وضعف الثقة العامة، لأن الناس يصبحون أكثر حذرًا وريبة تجاه بعضهم البعض، مما يعيق بناء مجتمع قائم على التكافل والتضامن.
رابعا: أمثلة على نكران الجميل من الكتاب المقدس
- فرعون تجاه يوسف (تكوين 40: 23): بعد أن فسر يوسف حلم رئيس السقاة وأخبره أنه سيعود إلى منصبه، طلب منه يوسف أن يتذكره عند فرعون. لكن رئيس السقاة، بعد أن أُطلق سراحه، نسي يوسف تمامًا في السجن لمدة سنتين.
- شعب إسرائيل في البرية (سفر الخروج وسفر العدد): بعد أن أنقذهم الله من عبودية مصر بمعجزات عظيمة (شق البحر الأحمر، المن والسلوى، الماء من الصخرة)، تذمروا مرارًا على موسى وعلى الله، وشكوا في رعاية الله لهم، وطلبوا العودة إلى مصر. هذا مثال صارخ على نكران الجميل الإلهي العظيم.
- شاول الملك تجاه داود (صموئيل الأول 18-19): بعد أن أنقذ داود بني إسرائيل بقتل جليات، وبعد أن كان يخدم شاول ويخلصه من روحه الشريرة بعزفه، بدأ شاول يحسد داود ويحاول قتله مرارًا، ناكرًا كل فضل لداود عليه وعلى المملكة.
- عشرة البرص (لوقا 17: 11-19): شفى يسوع المسيح عشرة رجال برص، لكن واحدًا فقط منهم (وهو سامري) عاد ليشكر يسوع ويمجده. التسعة الآخرون ذهبوا في طريقهم دون أن يعودوا ليعبروا عن امتنانهم، مما يظهر نكران الجميل.
- يهوذا الإسخريوطي (متى 26: 14-16): على الرغم من كل المحبة والتعليم والشركة التي تلقاها من يسوع المسيح، قام يهوذا ببيع سيده بثلاثين قطعة من الفضة، وهذا أكبر مثال على نكران الجميل والخيانة.
خامسا: أسباب مرض نكران الجميل
نكران الجميل ليس وليد الصدفة، بل له جذور عميقة في شخصية الفرد وتجاربه الحياتية، ومن اسبابه:
- النرجسية: الشخص النرجسي يرى نفسه محور الكون، ويعتقد أن الجميع يجب أن يخدم مصالحه. هو لا يرى المعروف كخدمة، بل كحق واجب له.
- الأنانية المفرطة: الجاحد يركز على الذات والمصلحة الشخصية لدرجة عدم رؤية أو تقدير احتياجات ومشاعر الآخرين.
- الشعور بالدونية وعدم الأمان: يحاول الجاحد إخفاء شعوره بالنقص من خلال التكبر ونكران فضل الآخرين عليه، حتى لا يشعر بأنه مدين لهم.
- الغيرة والحسد: يعاني الجاحد من مشاعر الغيرة والحسد خاصة إذا كان من أحسن إليه يتمتع بصفات أو مكانة أعلى منه. ويدفع الحسد إلى التقليل من قيمة إحسانه أو حتى إيذائه.
- اضطرابات الشخصية: تتسبب بعض اضطرابات الشخصية، مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial Personality Disorder)في جعل المريض غير قادر على التعاطف أو الشعور بالذنب، مما يبرر له نكران الجميل واستغلال الآخرين.
- النشأة في بيئة تفتقر للامتنان: إذا لم يتعلم الطفل قيم الامتنان والشكر في بيئته الأسرية، فقد يكبر وهو يفتقر لهذه الصفات.
- الخوف من الحساب: قد تتسبب بعض التعاليم الدينية أو الأسرية الخاطئة في جعل الانسان يخاف بطريقة مبالغ فيها من الحساب ومن الشعور بأنه مدين أو ملزم برد الجميل، فيحاول التهرب من هذا الشعور، بنكران الجميل.
- ثقافة الاستهلاك الفردي: المجتمعات التي تركز على الفردية المفرطة وتهمش قيم الجماعة والترابط قد تشجع على هذا السلوك.
- غياب القدوة الحسنة: عدم وجود نماذج إيجابية تظهر الامتنان والتقدير، وتفشي ظاهرة البلطجة النفسية ونجاح المتمردين والفاشلين وناكري الجميل يساهم في انتشار هذا المرض المدمر.
- التعرض لخبرات سلبية: قد يتسبب التعرض للاستغلال إلى جعل الشخص متشككًا وجاحدًا كوسيلة للدفاع عن النفس.
سادسا: طرق علاج مرض نكران الجميل النفسية والروحية
يتطلب علاج إرادة حقيقية للتغيير، ورحلة داخلية عميقة، وغالبًا ما يتضمن مزيجًا من العلاج النفسي والروحي. يحتاج العلاج إلى الوعي والاعتراف، فالخطوة الأولى هي أن يعترف الشخص بأنه يعاني من مشكلة نكران الجميل، ويدرك آثارها السلبية عليه وعلى علاقاته، ويعمل على تحديد أنماط التفكير التي تغذي نكران الجميل (مثل: “لا أحد يفعل شيئًا بدون مصلحة”، “أنا أستحق كل شيء”) وتحديها، واستبدالها بأفكار أكثر واقعية وإيجابية.
كما يحتاج العلاج من الناحية الروحية إلى تنمية الامتنان كفضيلة وممارسة الشكر يوميًا من خلال كتابة قائمة بالأشياء التي يشعر الشخص بالامتنان لها، أو التعبير عن الشكر للأشخاص الذين قدموا له معروفًا. يحتاج إلى التوبة وطلب المغفرة من خطيئة نكران الجميل، وطلب المغفرة من الله، ومن الأشخاص الذين أُسيء إليهم. يحتاج إلى تعلم ممارسة العطاء والكرم من الوقت، المال، أو الموارد للآخرين، دون توقع مقابل، لأن هذا يكسر حاجز الأنانية ويعزز قيم العطاء. وأخيرا يحتاج إلى تعلم التواضع والاعتراف بأن لا أحد يستطيع النجاح بمفرده، وأن الجميع بحاجة إلى دعم ومساعدة من الآخرين.
الخلاصة:
نكران الجميل هو مرض يُغلق القلب ويصيب الروح بالمرارة والعزلة. إنه يحرم الشخص من متعة العلاقات الحقيقية والسلام الداخلي. إنه تعبير عن خلل في الوعي والتفكير والاستيعاب والتصرف.
يقول المثل “إن أكثر العميان عمى هو من ينكر أو يرفض أنه أعمى“، لذا لا يمكن التحرر من نكران الجميل إلا من خلال التحلي بشجاعة الاعتراف به لأن انكاره يُزيده تفحلا ويمنع الجاحد من التحرر منه. إنه حالة قابلة للشفاء من خلال الوعي، والعمل الجاد على الذات، والدعم النفسي والروحي، وتعلم فضيلة الامتنان، وفتح القلب للخير في العالم.
ختاما نؤكد إنك “لن تجد أصيلًا يُنكر، لإن الأصيل إذا أخذ شكر، وإذا رأى ستر، وإذا أحب بذل، فالأصيل حتى في خصامه لا يتخلى عن أصالته”.
قمنا في الأسابيع السابقة بالتكلم عن:
أولًا: مرض الإنكار
ثانيًا: مرض الإسقاط
ثالثًا: مرض التظاهر
رابعًا: مرض الكذب والإنكار
خامسًا: مرض تبلد أو موت الضمير
سادسًا: مرض التطفل والحشرية
سابعًا: مرض العناد
ثامنًا: مرض الخنوع والعبودية الاختيارية
تاسعًا: مرض التطرف
عاشرًا: مرض الحصان المَيْت
حادي عشر: مرض استغلال الآخرين والتلاعب بهم
ثاني عشر: مرض عمى البصيرة
ثالث عشر: مرض القطيع أو التحجج بالأغلبية
رابع عشر: المراهقة المستمرة وعدم النضج
خامس عشر: مرض الخيانة
سادس عشر: مرض لعب دور الضحية
سابع عشر: مرض الفساد الروحي والأخلاقي والعاطفي والمالي
ثامن عشر: مرض تضخيم صورة الذات
تاسع عشر: مرض الرياء والتملق
المرض العشرون: مرض الشبق الجنسي
سنتناول في الأسابيع القادمة بعض الأمراض الأخرى (للحديث بقية).