لقد فقدت رجولتي وضاع من وجهي ماء الحياء . ولكن ليس هذا هو حالي من الأول . لقد كان في مقدوري في وقت مضى ان اشتري عشرة أمثال هذا المحل . كنت رجلاً من رجال الأعمال الناجحين المحظوظين وكانت لي عائلة سعيدة موفورة الهناء ولكن المسكر والخمر سبب خرابي . وأنا الآن وحيد في هذا العالم لست اجد من يحبني او يعتني بي وسأخرج الآن من هنا ولكن قبل ان اغادر هذا المكان اقول لكم ايها الرفاق المحترمين : ” انظروا اليَّ والى هذه الثياب القذرة البالية وخذوا لأنفسكم عبرة وموعظة , لقد كنت يوماً ما محترماً مثلكم ولكن انظروا اليَّ الآن فلأجل خاطر السماء اتركوا هذا المكان اللعين لأنه سيوصلكم الى نفس النهاية التي وصلت اليها أنا” خرج توم كونور هائماً على وجهه يسعى في شوارع المدينة على غير هدى فمرَّ في طريقه على احد الاجتماعات ورأى الناس يدخلون اليه جماعات فقال في نفسه “ان امثالي ليس لهم هنا مكان” ولكنه وقف ليسمع الترنيمة الأولى التي بدأ بها الاجتماع فشرعت جموع المرنمين ترنم : يسوع من أحبني ـــــ اني للحب أسير من فرط شوقي للِّقا ــ دعني الى المجد أطير وقف كونور العجوز يستمع الى هذه الترنيمة التي سمعها لآخر مرة منذ وقت طويل جداً وكأنه لم يسمع قط نغمات شجية مثل هذه في كل حياته ورغماً عنه حملته اقدامه الى داخل الاجتماع وقصد احدى الطرقات الجانبية وسار حتى وصل الى منصة الخادم وجلس بجوارها لكي يسمع بوضوح . وبعد ان انتهى الترنيم صلى الخادم صلاة حارة من اجل بركة الرب ورحمته بالخطاة المساكين المشردين في مسالك الشر . وكان في تلك الصلاة كما كان في الترنيم صوت تَفتَّح له قلب كونور فاهاجته ذكريات الماضي وأخذ يبكي ويكفكف دموعه . لقد تذكر بيته المريح اللطيف وتذكر زوجته التي كانت ترنم بصوتها الرخيم هذه الترنيمات نفسها .. فبكى وبكى وعاش في ذكريات الماضي واستغرق في استعادتها حتى انه لم يسمع شيئاً من الموعظة التي القاها الخادم في تلك الليلة . لقد مرَّ بخاطره كيف ذهبت نضارة صحته وعبث القبح بوجهه الجميل عندما عبث به شيطان الخمر فانتزع منه زوجته . وكيف ولَّت السعادة من بيته وغادره السلام لما انزلق في اوحال المسكر حتى حل به الخراب وكيف ضاع البيت الجميل وبيعت مفروشاته الأنيقة لاشباع شهوة السكر . وكيف لبست زوجته رث الثياب وشحب وجهها بسبب دأبها يوماً بعد يوم امام طست الغسيل لتكسب اجراً ضئيلاً لسد رمقها ورمق طفلها وزوجها السكير . ورن في اذنيه صدى صوت صلواتها ورأى دموعها المنهمرة ، وأخيراً مرَّ بخاطره منظرها وهي مسجاة في كفنها البالي داخل صندوق بسيط من خشب الصنوبر وقد احتواه قبر ضيّق وكيف ذهب بابنها الى ملجأ لليتامى . ثم استعرض صُوَر سكير متشرد بائس يهيم على وجهه عشرين سنة كاملة يستعطي درهماً من هذا ويستجدي لقمة من ذاك بلا احترام ولا كرامة . فقال محسوراً ” آه يا رب لما لم أمت قبل ان تموت هي ؟ لماذا أعيش بعد ؟ لست أهلاً لأن أعيش وسط الناس المحترمين والله يعلم اني لست أهلاً لأن أموت ايضاً”. وكانت الخدمة قد انتهت واعلن الخادم ان الاجتماعات الليلية تبدأ في الساعة السابعة والنصف . وهنا نهض ذلك الرجل العجوز وتسلل الى خارج القاعة قبل ان يراه الناس . لم تكد الساعة تدق سبعاً في مساء اليوم التالي حتى كان توم كونور مرة أخرى يجلس في الاجتماع . ولم يكن الترنيم قد بدأ بعد فتقدمت اليه فتاة رقيقة لم تبلغ بعد الثانية عشر من عمرها وقالت له : “اسمح يا مستر جونسون بفتح درج المنضدة لأني أريد كتاباً لوالدي قبل ان تبدأ الخدمة” فنهض الرجل العجوز واقفاً وخلع قبعته القذرة وقال لها : “عفواً يا آنسة أنا لست مستر جونسون” فقالت الفتاة اني اعتذر لقد ظننتك الفراش “الطراش” وعندئذ هم كونور بالخروج فقالت له الفتاة “لماذا تخرج تعال واقترب من الصفوف الامامية لتسمع جيداً، ان الاجتماع سيبدأ سريعاً” فقال لها الرجل ” لا . لست أهلاً لأن أوجد في مكان نظيف مثل هذا وقد لا يرغب الكثيرين في ان اجلس بجوارهم هنا” فقالت الفتاة كلا بل انهم يرحبون بك . ان والدي هو الخادم . وهو يحب ان يأتي اليه الشيوخ المتقدمين في السن ليسمعوه” فقال لها الرجل ليس السبب في اني شيخ متقدم في السن بل في اني لست أهلاً لأن أوجد وسط أناس مهذبين كهؤلاء القوم ـ انا رجل قذر رث الثياب وأيضاً ردي الخلق . ولما قال هذا لمحت الفتاة الدموع تسيل على خديه فتقدت اليه وأمسكت بيده ونظرت اليه قائلة : “ان الرب يسوع يحبك ويستطيع ان يصيرك رجلاً حسناً وصالحاً مثل بابا تماماً ان كنت تدعه يفعل ذلك . ارجوك ان تأتي لتسمع هذه الترنيمات الجميلة وتسمع الخدمة من بابا وأنا أثق انك ستكون مبسوطاً”. وسار توم كونور معها الى الصفوف الأمامية يتعثّر خجلاً ولكن سرعان ما ملكت النغمات والترنيمات على مشاعره وكانت الصلوات التي اعقبتها حارة وعميقة ملؤها المحبة حتى خيّل اليه ان كل الصلاة التي قُدِّمت في ذلك الاجتماع كانت لأجله . قام الخادم وقرأ موضوع الخدمة عن الابن الضال “أقوم وأذهب الى أبي وأقول له يا أبي اخطأت الى السماء وقدامك ولست مستحقاً بعد ان ادعى لك ابناً اجعلني كأحد أجراك فقام وجاء الى ابيه وإذ كان لم يزل بعيداً رآه ابوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله” لوقا 15 : 18 – 20 . وتكلم الخادم عن محبة الله لخطاة الهالكين وعن رحمته العجيبة بكلمات لم يسمعها كونور العجوز من قبل، وصوّر الابن الضال في بؤسه وتعاسته وحنينه الى بيت أبيه وتصميمه النهائي على الرجوع ، وكيف نفَّذ هذا التصميم عملياً وعندما وصل الخادم الى الكلام عن مقابلة الأب لابنه الراجع اليه وعن قبلات الترحاب والعناق تأثر جميع الحضور وسالت مآقيهم الدموع . ثم ختم كلمته بهذه العبارة : “هكذا ايها الاعزاء ان ابانا السماوي المُحب فاتح ذراعيه ليرحب بنفسه بكل ضال شريد . انه يقف بذراعين مفتوحتين في هذه الليلة مستعداً ان يقبل اشر الخطاة ويقبلهم بقبلة الغفران ويلبسهم حلَّة البر الاولى ان كانوا يريدون ان يقبلوا اليه” ثم بدأت الترنيمة الأخيرة وبعدها انصرف الحاضرون وبقي ذلك الرجل العجوز منكس الرأس يشهق بالبكاء كطفل صغير ولكنه شعر بيد رقيقة توضع على كتفه فرفع بصره ووجد الفتاة اللطيفة أمامه وقالت له : ” ألا تريد ان تأتي وتسلم قلبك للرب يسوع ؟ ” فقال “اني مسكين … اني بعيد جداً … اني خاطئ تعيس وليس لمثلي رجاء ” فقالت الفتاة الصغيرة ” وان كانت خطاياك كالقرمز تصير كالثلج” اشعياء 1 : 18 وربنا يسوع يستطيع ان يُخلِّصك الى التمام .. تعال والرب سيساعدك فقط ثق به وهو قادر ان يردك صحيحاً معافى” . وقادته ماري الصغيرة ابنة الخادم الى حيث كان ابوها فمد الخادم يده الى الرجل مصافحاً فقال كونور : “يا سيدي انا لا استحق ان اكون مسيحياً . انني بائس ومنهدم وكنت اظن ان لا رجاء لامثالي ولكنك قلت في هذه الليلة ان الله يرغب في ان يُخلِّص الى التمام وسأقص عليك قصتي لترى هل صحيح ان يكون لمثلي رجاء ” … وجلس الاثنان منفردين وأخذ توم كونور يسرد تاريخ حياته فلما وصل الى ختام القصة احمرت وجنتا الخادم وانهمرت دموعه على خديه وبمشاعر مضطربة قال للرجل “ما اسمك” ؟ فقال كونور ” .. اسمي توم كونور وقد اشتهرت باسم العجوز السكير”.. فصاح الخادم قائلاً ” أبي .. أبي ” وضم الرجل الى صدره وقبله وهو يقول ” أبي أنا ابنك ويلي .. انا ابنك الذي تركته طفلاً في ملجأ اليتامى .. لقد اكرمني الله اذ جعلني واسطة لخلاص والدي العزيز .. لقد بحثت عنك كثيراً وطويلاً وأخيراً ظننت انك مت” ثم عرف الأب قصة ابنه وكيف خرج من الملجأ وعاش وسط عائلة مسيحية أحسنت تربيته ، وصار خادماً للرب . “أطلبوا الرب ما دام يوجد . ادعوه وهو قريب . ليترك الشرير طريقه ورجل الاثم افكاره . وليتب الى الرب فيرحمه والى إلهنا لأنه يكثر الغفران” اشعياء 55 : 6و7 يا ليت كل خاطئ بعيد عن الله يقبل يسوع المسيح مُخلِّصاً له الآن قبل ان يغلق باب رحمة الله .